السبت، 19 ديسمبر 2015

وعدتنا أن تنهض.. وليس عهدك خذلان الناس








للأبنودى قصيدة جميلة قال فيها: «الحياة عايزة الجسارة.. عاوزة أبطالها فى عز البرد مشحونة حرارة». هذا صحيح، لكن إنسانية علاء الديب الفريدة اقتطفت حكمة أخرى: «الحياة عاوزة أبطالها فى عز الكراهية مشحونة بالحب».


استطاع علاء الديب بتكوينه النادر أن ينقلنى بهزة فكرية من أن شرط الحياة هو «الجسارة»، إلى التفكير فى أن «المحبة» شرط الحياة. عطر هذه الحكمة لم يفارق علاء الديب، وكل ما قدمه لنا كان مشبعًا بهذه الرؤية، بالمحبة، والتسامح، ومد يد العون، بدءا من مقالاته الشهيرة تحت عنوان «عصير الكتب»، التى شرع فى نشرها منذ 1975، مرورًا بمجموعاته القصصية الخمس، ورواياته الخمس، وترجماته التى تنوعت ما بين القصة والمسرح.


معظم مقالاته كانت اكتشافًا لمواهب أدبية، وفتح طريق لكتاب جدد لم يسمع بهم أحد، ومعظم ساعات يومه كانت مبذولة بدأب وصبر وتعب فى قراءة نصوص مئات الأدباء، وإبداء الملاحظات الدقيقة التى لا تصدر إلا عن كاتب ومثقف متمكن بشكل مذهل. بعض الأدباء عندنا شغلوا مواقعهم بفضل إبداعهم، بعضهم بفضل مواقفهم، والبعض بفضل تأثيره الشخصى والفكرى كظاهرة اجتماعية ثقافية، لكن لكى تكون علاء الديب لا بد لك، فوق كل ما سبق من موهبة، الشعور العميق بحب الناس.


علاء الديب، روائى، قاص، ناقد، مترجم، لكنه قبل وبعد كل ذلك: محب للناس. وكان الكاتب الروسى العظيم أنطون تشيخوف، يقول: «هناك موهبة أهم من الأدب هى المحبة». والذين التقوا بعلاء الديب ودخلوا بيته فى المعادى، فيللا قديمة ورثها عن والده واسمه «حب الله»، ستطالعهم حديقة صغيرة تناثرت فيها الأشجار كأنها امتداد أخضر صامت لروح ذلك الكاتب الكبير.


وعندما تجلس إليه، فإنك لا تسمع منه أبدا كلمة «أنا»، ولا ترد على لسانه إشارة إلى رواياته، أو مقالاته، أو حتى مشاكله الصحية وهمومه الشخصية، لكنه يحدق بك باهتمام شديد، ويسألك: «كتبت حاجة جديدة؟» أو «إذا لم تكن قرأت ذلك الكاتب الشاب فاقرأه. ممتاز».


ويدفع إليك بكتاب لم تسمع عنه. وطوال الجلسة يحافظ علاء الديب على هدوئه وإنصاته المهتم بك. لا يغتاب أحدا بكلمة. لا يقلل من شأن أحد. لا يشير لمرارة الأحداث التى تمسه. مع ذلك كانت له طريقته الخاصة فى الكتابة التى يعبر بها بدقة عن عدم رضاه عن عمل أو آخر، لكن بحيث لا يجرح، ولا يهين.


يظل «الديب» ساكنًا هادئًا إلى أن تدحرج له تعليقًا طريفًا فتلمع عيناه وينقلب وجهه القمحى إلى وجه طفل يضحك ملء شدقيه. تنظر إليه وتحتار فجأة أيهما أعز عندك فى الاثنين: الكاتب أم الإنسان؟ أم أنها حقول الروح يقودك كل درب منها لخضرة الدرب الآخر؟.


فى الفترة الأخيرة، كان على وجه علاء الديب أسى طفيف، يخفيه كبرياؤه الرفيعة، ومحاولته التهوين من شأن المرض بضحكة، أو كلمة، إلى أن دخل المستشفى وغرفة العناية المركزة.



فى كتابه «وقفة قبل المنحدر» يقول علاء الديب: «تستطيع الأذن البسيطة من بين آلاف الأصوات تبين الصوت الصادق من الصوت الزائف». ولقد استطعنا أن نسمع بقوة ووضوح صوتك الجميل الخافت، واستطعنا أن نتبين صوتك الصادق، وأن ننصت للحكمة التى اقتطفتها وحدك: «الحياة عاوزة أبطالها فى عز الكراهية مشحونة بالحب». لقد وعدتنا أن تشفى، وأن تنهض، وأن تعود لقرائك وإبداعك وحياتك المثمرة، وليس عهدك أن تخذل الناس والمحبة. ليس عهدك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
د. أحمد الخميسي
نشر في المصري اليوم بتاريخ 19 ديسمبر 2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق