الأحد، 20 ديسمبر 2015

أضواء "علاء الديب"


   





عبر تاريخ طويل امتد لأكثر من أربعة عقود.. لم يهتم الكاتب والناقد والذائق الكبير علاء الديب بالأضواء، حتى زحفت هي الآن لتُتابع رقاده في مستشفى المعادي العسكري، بدا انشغاله عنها بالانخراط في بحور الكلمات التي لا تنتهي، أو كما قال عنه الكاتب علاء الأسواني "رأيت في الأستاذ علاء نموذجًا للكاتب الحقيقي الذي لا يسعى إطلاقًا إلى الشهرة أو الثروة"، فكانت الأضواء تخرج منه لا عليه، يكتب ليصنع حالة تجمع بين الكتاب والجمهور، فكان ينقل ملاحظاته عن الكتب، في شيء أشبه بالعرض وليس النقد، فلم يستخدم لغة المتخصصين المعقدة، بل جذب الكثير من الشباب بأسلوبه الذي دومًا ما يجذب المتلقي إلى الحكاية.


بدأ الديب من خلال بداياته في أول حقبة الستينيات في مجلة "صباح الخير" ليس كصحفي يلهث وراء الخبر، بل برزت على التو روح الأديب التي مارس بها صحافة التحقيقات، وكانت أول تحقيقاته عن "مخدرات الطلبة"، ورغم جدية الموضوع وحبكته، جاءت المقدمة التي سطرها- والتي كتب عنها فيما بعد الناقد شعبان يوسف في إحدى مقالاته- لتؤكد أن الباب مفتوح أمام أديب شاب كان يرسم الحالة قبل أن يحكي حكايته، فقال "كثير من النوافذ هذه الأيام تظل مضاءة حتى الفجر وكثير من الوجوه الشابة المرهقة، يبدو عليها الإجهاد والإعياء، ذقونهم نابتة وعيونهم حمراء وأعصابهم متوترة، إنهم الطلبة الذين تعصرهم الامتحانات هذه الأيام، الشوارع في الليل فارغة، والكورنيش يمشي عليه السجائر والسواح، والطلبة في البيوت يحاولون تعويض الوقت الذي راح".


ومن "صباح الخير" كذلك جاءت أهم نافذة أطل الديب بها على قُرائه، وهي مقالاته التي كانت تُنشر أسبوعيًا لعقود بعنوان "عصير الكتب"، والتي جمعها فيما بعد في كتاب يحمل الاسم ذاته، وجاء تقديم الكتاب من اثنين، أحدهما صديق عمره الأديب الراحل إبراهيم أصلان، والثاني تلميذه الكاتب بلال فضل، وجاء تقديم أصلان له "هذه كلمات لا تنفع، طبعًا، إلا أن تكون في محبة علاء الديب، الصديق والأستاذ، وأحد الأخيار القدامى في هذا الواقع الثقافي الذي صار مسخرة، ومفخرة، أو أي شيء من هذا القبيل"، بينما كتب فضل "مع سبق الإصرار والترصد أضعت كل فرصة سنحت لي لكي أتعلم من علاء الديب أشياء مثل الحكمة أو الهدوء أو التأمل أو معرفة الأشجار، فالنباتات عندي كلها تحمل اسمًا واحدًا هو شجر، ولذلك اكتفيت بأن أغبط على الدوام صحوبية عم علاء الحميمة لجميع أنواع الأشجار والثمار والزهور"، بينما كتب هو في تقديمته "ماذا قدمت لي الكتب سوى الحيرة وتلك الحزمة من الأشجان الرومانتيكية اليابسة؟ هل تقف الكتب ضد الحياة أو بديلًا عنها؟ كلا هم أصدقاء.. من حسن الحظ أن مهنتي هي هوايتي، هي حياتي تلك الخطوط السحرية التي تنقل معاني وتهز النفوس والجبال وتغير العالم".


عبر هذه النافذة كتب الديب الكثير، وأطل برؤيته عن الجميع وعليهم، تنوعت اختياراته فقدّم عصيرًا غذّى عقول مُتابعيه، ورغم أنه دومًا تكون الكتابة عن كاتب كبير ومتحقق بالفعل أشبه بالمأزق- لأن هذا الكاتب يكون غالبًا قد تم تناوله، ويجب البحث عن كلمات غير مستهلكة، أو زوايا جديدة- فإن الديب قد نجا منه عندما كتب عن العالمي الراحل نجيب محفوظ، فاستعاض عن القوالب بإحساسه وانطباعه الشخصي دون ادعاء أو تحذلق، وفي الوقت نفسه لم تُكبله رهبة أديب نوبل إلى أدنى قدر من التقعر، بل انسابت كلماته في لغة مبهرة "فُتحت النوافذ لنسمات الحكمة، وخرج علينا الكاتب بأصداء السيرة الذاتية، أصداء، لأنها أوسع وأرحب من سيرة ذاتية، لأنها ترن في الماضى القديم، وفى الأفق المأمول البعيد، لم يشهد الأدب الحديث مثل هذه البلاغة، ولا القدرة على الإفصاح والوصول".


تنبأ الديب كذلك بالعديد ممن كان يصفهم فيها بـ"الكاتب الشاب"، وصاروا فيما بعد نجومًا، منهم عندما كتب عن كتاب-جديد- بعنوان "الذي اقترب ورأى"، ألفه طبيب شاب اسمه علاء الأسواني، وصفه الديب قائلًا "علاء طبيب جديد يقتحم بجرأة ميدان الأدب، يدفعه غضب جامح، وتراث من الفن والبلاغة، والقدرة على الإفصاح"، فيما بعد صار الشاب صاحب سُمعة عالمية كبيرة، وتُرجمت أعماله إلى أكثر من لغة، ونشر مقالاته في الصحف الفرنسية، وتحول أحد أعماله، عمارة يعقوبيان، إلى فيلم سينمائي.



وكان الديب موسوعيًا، صاحب علاقات واسعة بمجالات الثقافة المختلفة مع الأدب، منها الموسيقى، الفن التشكيلي، السينما، وهذا ما استخدمه عندما كتب عن رواية "بحيرة المساء" لصديقه الراحل إبراهيم أصلان، فقال إنها ذكرته بأعمال الموسيقار العظيم "يوهان باخ"، وأسهب في الربيط بقوله "تعلمت من الموسيقى الكلاسيك وخاصة من باخ.. إن أروع ما في العمل الموسيقى هي الثواني التي تنتهي فيها الجملة الموسيقية أو اللحن، وتبدأ فيها جملة جديدة، أو لحن جديد، في هذه الثواني يتركز كل تركيب العمل، يضع فيها المؤلف أسرار الكمال الفني القائم في ذهنه دون إفصاح أو مباشرة"، رابطًا بهذه النظرية وتجربة جيل الستينيات بكامله، موضحًا بهذه الرؤية أنه جيل استطاع صياغة هذه الحالة في كلمات، عبر تمكُنهم من مقاليد الجملة القصيرة التي تخرج وكأنها طلقة صائبة، وتساءل عن انبهار أصلان بهذه اللعبة، وعن حبه للبريق الذي يصدر من تلميع الجملة وصياغتها بدقة، كذلك وصف يحيى الطاهر عبدالله بأنه "واحد من الذين رافقوا حركة القصة الجديدة، بل وصاغوا كثيرا من معالمها"، وعاد حول أعماله وطبيعتها ليقول "من الذين يتردد البعض في تقويم أعمالهم، ويقفون من كتابته الدقيقة الصعبة موقفًا متحفظًا، ويرون في رؤيته الخاصة وتناوله المميز للأحداث والشخصيات استمرارًا لموجة الغموض والعبث".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 أحمد صوان
نشر في البوابة نيوز بتاريخ 20 ديسمبر 2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق