السبت، 19 ديسمبر 2015

ثلاث حكايات «قبل المنحدر»







الحكاية الأولى:

قبل المنحدر، كنت صبيا محترفا فى تدخين الشيشة، والزوغان من الحصص، والقفز فوق الأسوار العالية، أكتب شعرا لا يعجبنى، أمزقه بمنتهى البساطة، ولا أحاول من جديد، كان شعورى بالزمن منعدما، وساعات القراءة الطويلة، والسير فوق الجسور وفى الشوارع يبدو بلا نهاية ككل أشياء الحياة.


قروشى القليلة لم تكن تسمح سوى بكتاب علاء الديب «وقفة قبل المنحدر»، صدرت طبعة من الكتاب عن «مكتبة الأسرة» فى أواخر التسعينات على ما أذكر، أقف مترددا أمام فرشة الجرائد، لكننى لا أعرف من هو علاء الديب، إذا لم يعجبنى سأبدد نقودى الضئيلة بلا مقابل، أحسم قرارى: سنرى إن كان يستحق المجازفة.


فى البيت، أنهى الكتاب الصغير فى ساعتين أو أقل، وأسأل: كيف اختصر الرجل ثلاثين عاما من الثورة والأحلام والحروب والهزائم فى هذه الصفحات القليلة، إنها «أوراق مثقف مصرى»، كما يشير العنوان الفرعى، برجوازى صغير، مثقل بوطأة الطبقة المتوسطة، أحلامها وأمراضها ومخاوفها، يرفض الانتماء إليها، متمرد على الدوام، يراقب التحولات الكبيرة من الهامش، ينتفض ويتألم ويحب وينتصر وينكسر فى الحارات، والمقابر، وبيوت المهاجرين من القنال أيام الحرب، يتعلم ويقرأ ويكتشف وسط اللصوص، وفى قاعات الجامعة، يتنقل من الفلسفة إلى القانون إلى الأدب إلى الشوارع، من الثورة إلى النكبة إلى المنفى، من الإخوان المسلمين إلى اليسار، يكفر بالجميع.


عرفت وقتها كيف يجب أن أعيش، وإلى من أنحاز من البشر والأفكار، وعلى أى شىء يجب أن أتمرد وأثور، والأهم أننى لن أنكر صوتى فى يوم من الأيام، سأقول كل شىء عن قضيتى، بالكتابة أو بالصراخ، بالدم إذا أصبح الدم فرضا وواجبا، لكننى فى الحقيقة كنت بلا قضية، وكنت أيضا ابن هذه الطبقة المتوسطة، أحمل جميع أحلامها وأمراضها ومخاوفها، لكن الزمان اختلف: سلطة تمعن فى التجريف، أجيال بلا وعى ولا ذاكرة ولا هدف، السياسة محظورة إلا فى حدود التضامن التاريخى مع قضية فلسطين، أفلام السبكى، وبروسلى، وفيفى عبده، ونادية الجندى، لا معنى للضمير، القيمة، المعرفة، الثورة، الشعر بعيد عن معادلة الحياة، والحياة راكدة بلا تجربة أو خطأ، حاضر طويل بلا مستقبل، لكننى كنت حرا، دائم الزوغان من الحصص، أصعد الأسوار العالية، أمزق القصائد التى لا تعجبنى، وأحلم.


الحكاية الثانية:

فى مكتبة «الشروق» بميدان طلعت حرب، يواجهنى «وقفة قبل المنحدر»، لكننى هذه المرة لم أعد صبيا، صرت شاعرا، وصحفيا، وشاهدا على الكثير من المذابح، داخل المدن وعلى الحدود، وعرفت روائح الغاز والبارود والحريق والموت، هذه المرة لن أقف مترددا أمام بائع الكتب، بل سأدفع الثمن بالفيزا كارد، وأوقّع فاتورة الشراء، أتنقل بين المقاهى، أقطع الوقت فى القراءة، نفس الكتاب الذى قرأته منذ خمسة عشر عاما، لكنه لم يخلّف وقتها هذا الشعور العميق بالانهيار، أصبحت الصفحات القليلة هموما لا أستطيع حملها بمفردى، أدخل السينما، يعرضون فيلما جديدا، «ماكبث»، نفس التراجيديا القديمة الدامية، مستنقع الخيانة والنبوءات الكاذبة والانحطاط البشرى، أشعر أننى ملوثٌ بالدم، تحاصرنى الشكوك والاتهامات، لست قاتلا، أهرب من السينما إلى المترو، فى غرفتى أسمع السيمفونية التاسعة لبتهوفين، أستحضر الشوارع والدخان والثورة، أستحضر الحب والهزيمة والموت بالرصاص الحى.


السيمفونية التاسعة.

لماذا لم أعد أحلم، أرتجف، أواصل المسير، وحتى الموسيقى لم تعد كما هى؟.

الحكاية الثالثة

يرويها علاء الديب: «أعلن عبدالناصر الهزيمة على شاشة التليفزيون وانسحب، تفرق كل من فى البيت دون أن نتبادل الكلمات، نزلنا إلى الشارع نبحث عن طريق، وأجهش البعض بالبكاء، المحلات مغلقة، صرخات النسوة الملتاعة هى الصوت المسموع، الصوت كأنه يأتى من السماء، كأنها خرائب، صراخ النسوة القادمات من عابدين، ومن معروف، تحيط بى، تزيحنى من الطريق، وتدفعنى كى أستند بظهرى إلى جدار عمارة كبيرة، سجائرى كادت تنفد، وفى حلقى جفاف شديد.


اندفعت فى شارع سليمان باشا، كان الليل قد هبط مبكرا جدا، وثقيلا جدا، وجماعات من الناس تجرى بلا اتجاه، مخلفة وراءها صمتا شديدا.



فى وسط الشارع وجدت رجلا مخبولا يرتدى جلبابا قديما، وقد شمره إلى منتصف جسده، يحمل فى يده جردل ماء، وخرقة كبيرة، ينشر الماء حوله ويصيح صيحات غير مفهومة وهو يجرى وكأنه يطفئ حريقا لا وجود له».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد رياض
نشر في المصري اليوم بتاريخ 19 ديسمبر 2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق