السبت، 30 مايو 2015

لحظة الحقيقة.. «وراء القمر»





«إنها لحظة الحقيقة، لحظة الموت والحياة معاً، لحظة تتداخل فيها الأزمنة ويتلاشى الفارق بين الماضى والحاضر والمستقبل».

وراء مثل هذه اللحظات تدور قصص المجموعة التي أصدرها محمد سلماوى في عمله الأول الذي يبدأ به تفرغه للكتابة بعدما يقارب نصف قرن من الانشغال الدائم بالصحافة وبالعمل العام في الداخل والخارج، فقد أصدر ورأس تحرير أكثر من إصدار صحفى ناجح، ورأس اتحاد الكتاب لعشر سنوات خصبة منتجة، كما بنى علاقات خارجية مثمرة مع عدد من أهم المؤسسات والشخصيات المؤثرة في ميادين الثقافة والأدب، وقبل وبعد جائزة نوبل التي توج بها الإنسان المعلم الأديب الراحل نجيب محفوظ كان محمد سلماوى نعم الصديق والمساعد الذي خاض معه السنوات الصعبة الأخيرة بما فيها من اعتداء قبيح وإزعاج وضوضاء الشهرة التي صاحبت الجائزة، واخترقت أستار الهدوء والخصوصية التي عاش وأنتج في ظلالها العبقرى الراحل، كان سلماوى هبة إلهية ووزير خارجية ويداً وفماً للرجل الغالى في السنوات التي سبقت رحيله.

خلال كل هذه الأعباء النبيلة لم يتوقف الفنان عن الإبداع، في المسرح.
قدم تسع مسرحيات، وتسع مجموعات قصصية، وديوان شعر، وروايتين، إلى جانب عدد من الأعمال الفكرية والسياسية، كان آخرها كتاب الطلقة الواحدة عن تجربة الإخوان المريرة في الحكم، يقف على رأس هذا الكم الكبير من الأعمال بالنسبة لى روايته الجميلة الخرز الملون «1990» وترجمته الجميلة لرواية
«مسيو إبراهيم وزهور القرآن» (2005)

أستعرض كل هذا التاريخ الإنسانى والفنى الخصب لكى أشير إلى ما يمكن أن نتوقعه منه بعد إعلانه التفرغ للكتابة، رئاسته لاتحاد الكتاب ودوره في لجنة الخمسين التي وضعت دستور 2014 كانا عملين يشعر كل منصف بالامتنان الدائم له عليهما.

يعيش هو الآن- معنا جميعاً- لحظات صعبة، لحظات الحقيقة، لحظات كشف، ومواجهة للنفس، لحظات قرار واختيار، وقد كان اختياراً موفقاً أن يقدم الآن هذه المجموعة القصصية
«ما وراء القمر»، هي مجموعة مكتوبة بدقة ومرتبة بنظام في ثلاثة أبواب «كأنها عمل درامى متصاعد» حول فكرة محورية، وشعور قلق مؤلم، بعمق المشاكل التي نواجهها في لحظتنا التاريخية هذه، والوعى بضرورة الكشف والمكاشفة واستحالة الهرب أو دفن الرؤوس في الرمال.

العالم الآخر عند المصريين القدماء هو «دوات» الذي يقع فيما وراء القمر، باستطاعة الأرواح التي تسكنه أن تنتقل ما بين العالمين كلما أرادت، بهذه الكلمات يصدر الكاتب مجموعته المكونة من 11 قصة مقسمة إلى ثلاثة أجزاء:
 الكتاب لا يموتون، وماء البحر، رسائل ما بعد الرحيل، في كل قصة دقة كدقات المسرح تشير إلى وجع في خريطة الجسد المصرى- بل العربى- المحموم المتألم.

ولكن هناك دائماً قمراً له وجهان:
مظلم وآخر مضىء، أرواحنا مع الكاتب الفنان في رحلة أبدية بين الوجهين.

في قصة ثمانية أيام التي تصف رحلة عذاب 142 مهاجراً غير شرعى في قارب يقطعون البحر الأبيض بعد أن دفع كل منهم دم قلبه في مغامرة مجهولة المصير، يقول الكاتب الذي يقطر الألم من كلماته العارية:
«أهذا ما آلت إليه الوحدة العربية؟!
 ألم يعد هناك ما يوحد العرب غير رغبتهم في الهجرة من أوطانهم».. «لم يغفل لى جفن في تلك الليلة التي ظل القمر يشغلنا فيها، فتارة ينظر إلينا بضوئه المنير وكأنه يحصى عددنا وتارة أخرى يعطينا ظهره، فتحجبه السحب ويعم الظلام».

في وحدة الراوى وقلقه الكامن يأتى من وراء القمر كائن لا تعرف إن كان حقيقياً أو روحاً افتراضية، يأتى «فادى» كائن نحيل جميل أثيرى الهيئة، لم يكن يراه إلا ليلا عندما يظهر القمر. 

سورى يسلمه في الخفاء أوراق هي أوراقه الثبوتية، يسأل عنه في النهار فلا يجده، لا أحد يعرف عنه شيئاً.

وعندما يسأل عنه تكون الإجابة والرحلات البحرية تشهد الكثير من الغرائب، وما أدراك أن فادى كان على المركب أصلاً، هذه الأوراق المجهولة من الشخص الأثيرى الغامض هي التي مكنت الراوى من دخول إيطاليا حيث لم يكن ممكناً تقديم طلب الهجرة إلا للقادمين من بلاد فيها حروب.

وعندما تنتهى رحلة العذاب التي قطعها الجمع البائس بين وجهى القمر أمام ضابط الجوازات الذي يسأل الراوى:
«هل تطلب اللجوء؟»
قال فادى بصوتى: نعم

بهذه النهاية الفنية المحكمة تكتسب القصة ورحلة العذاب كلها بعداً آخر أكثر واقعية وأكثر إيلاماً.
                     ■
في شجاعة فنية محسوبة اقتحم الكاتب اللحظة الفاجعة التي ذبح فيها الإرهاب المجنون 21 شاباً قبطياً من حبات عيون مصر على الشاطئ الليبى المهجور والقمر شاهد باك حائر، يقول في قصة «21 طلقة» المدرجة في القسم الثانى المعنون دماء البحر:
«لا يذكر أنه شاهد القمر منذ أن سافر وترك أسرته، وكأنه أعطى لهذه الدنيا ظهره، فلم يعد يظهر منه إلا جانبه المظلم، أما البحر فقد بدا لونه رمادياً حزيناً في هذا اليوم الغائم، نظر إليه وتساءل إن كانت مريم «زوجته» تنظر إليه في هذه اللحظة هي الأخرى؟
 ففى هذه الساعات الأولى من النهار تستيقظ لتأخذ ميلاد «ابنه» إلى الحضانة، فهل تذكرت أن تنظر إلى البحر؟
شاهد وجهها الحزين كوجه العذراء وأحس بوجودها معه، ولكن هل تعرف ما هو فيه؟! 
هل تعرف ما ينتظره من مصير؟!».

يترك الكاتب الفاجعة تدور وتصور نفسها في إيقاع فاجع حتى يكمل الزبانية جريمتهم البشعة إلى أن يقول:
«هبت الرياح غاضبة تزمجر، وصرخت النوارس، اكفهرت السماء، وتبدل الجو وكأنه انقلب ليلاً، سالت الدماء على الرمال وسارعت إليها أمواج الشاطئ تحتضنها لتعود بها إلى البحر كأنها أمانة تخصها، انقلب البحر أحمر ينزف دماء حزناً على أرواح الأبرياء.. وسمع هدير الرعد من بعيد في طلقات تكررت إحدى وعشرين مرة مع كل رأس تقطع وكأنها إحدى وعشرون طلقة مدفع أطلقت في مناسبة وطنية جليلة».

«فى تلك اللحظة، كانت مريم تنظر إلى البحر كما كانت تفعل كل صباح، لكنها اليوم شاهدت وجه زوجها يطل عليها من السماء منيراً كالبدر الوضاء فتبدل حزنها المقيم طمأنينة وارتياح، نادت بسرعة على ميلاد وقالت له:
«انظر يا ميلاد هذا والدك هناك مع الملائكة في السماء».
                      ■
«شجرة اللوز» التي ظلت نابتة خضراء وسط غابات العمارات الأسمنتية في حى المهندسين تخرج في الربيع زهورها البيضاء الجميلة ذات القلب الوردى، وأدخلت فرعها الأخضر الجديد إلى نافذة غرفة نوم السيدة التي ظلت لسنوات ترعاها وتكلمها حتى تؤنس وحدتها في هذا المحيط الموحش، مرضت السيدة ودخلت المستشفى في مرض خطير لم يترك لها سوى أيام معدودة، حمل الزوج المحب الراعى الفرع الأخضر الوليد إلى سرير المريضة التي تعانى سكرات الموت، وعندما اضطر الزوج أن يغادر زوجته المحتضرة لوداع شقيقه المسافر، حمل الفرع روح المرتحلة لكى تودع الزوج الذي شعر على البعد
«كل التعب والقلق قد تبخر» ولم يدم عناقهما الأثيرى إلا لحظة ولكنها كانت لحظة الحقيقة التي تساوى العمر بأكمله.. وتركته ومضت في طريق المسافرين.
                      ■
في قصة وصية الأستاذ التي تحكى في غضب مكتوم ما صاحب جنازة نجيب محفوظ من عبث الدولة والرئاسة، التي أصرت على أن تكون الجنازة عسكرية، في حين كان حلمه أن يشيع جثمانه أهل الحسين الذين عاش لهم وبهم، يقول محمد سلماوى الذي حمل سنوات الراحل الأخيرة بكل نبل ووفاء كما حمل جثمانه ودافع عنه، رغم العبث الرسمى الذي أصر على إخراج لحظاته الأخيرة عن سياقها الإنسانى الذي عاش الأديب الكبير يحلم به: 
يقول: 
«كان القمر بدراً، لكنه لم يرتفع في السماء، بل تدلى فوق المدينة أصفر حزيناً رأى وجه الأستاذ في القرص الأصفر، وكان متألماً .

ما وراء القمر، قصص، محمد سلماوى
الدار المصرية اللبنانية 2015.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر فى المصرى اليوم بتاريخ 30 مايو 2015 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق