السبت، 2 مايو 2015

ضرورة الثورة الدينية





أحد الأشياء المفهومة بالضرورة من الخروج المعجز للشعب المصرى فى 30 يونيو هو الحاجة إلى ثورة دينية تنهى الفضيحة التى ألحقتها الجماعات الإرهابية التى حكمت، بوجه وسمعة وحقيقة الإسلام، ليس فى مصر وحدها ولكن فى المنطقة العربية بل والإسلامية كلها. كانت ثورة 25 يناير امتحاناً أخيراً لنوايا من يتمسحون بالدين ويستترون خلف قداسته، فقد كشفت أنهم أسرى مصالح ومفاهيم ووجود يربطهم باستغلال الإنسان والديكتاتورية والتخلف، وأن الفهم الذى يتمسكون به للدين يضعهم ضد التاريخ وضد تقدم الناس.

أصبح واضحاً بعد الطعن فى الظهر والخيانة للنظام الذى حكم بعد يونيو، وللرئيس الذى انتخب بأغلبية عظمى، أن الترقيع لن يجدى، وأن التاريخ والوقت والحالة السائدة فى العالم تطالب شعب مصر الذى عرف فجر فكرة «الضمير»: أن فهمنا وتفسيرنا لدين الإسلام فى حاجة إلى شىء لا يقل عن الثورة. الدين: موضوع حساس محاط بالقداسة، وبحراس يحرسون مؤسساته، التى تحمى «الاعتقاد الرسمى» ولا تحمى الإيمان الحق والقداسة التى لا تمس، لذلك ليس من حق أى شخص أن يتكلم فى الثورة الدينية، فتتحول هى الأخرى إلى تجارة تروج على شاشات التليفزيون وصفحات الجرائد والمجلات. هناك محاولات جادة فى مصر وعلى امتداد العالم الإسلامى منذ أكثر من قرن لوضع دين الإسلام فى مكانه الصحيح، فى قاطرة التقدم الإنسانى، بعد أن تحول منذ قرون إلى فضيحة فكرية، وتكلس وانغلاق إنسانى أدى إلى ما نشهده منذ ما قبل 11 سبتمبر من عنف ودماء، وفجور إرهابى وفكرى يطمس أو يكاد، ما ينادى به الإسلام من سماحة وعلم ونور.

قدم محمد أركون الجزائرى، صاحب الأصول الأمازيغية «البربرية»، الذى عاش وفكر وأنجز فى فرنسا (1928-2010) واحدة من أصدق وأهم المحاولات لنزع ستائر التخلف عن الفكر والحضارة الإسلامية: منذ أن أغلق الاجتهاد وحرقت الكتب وذبح الفلاسفة، عمل محمد أركون، وهو أستاذ فى السوربون الفرنسية، ومستشار علمى لمكتبة الكونجرس الأمريكية- عمل لمدة أكثر من خمسين عاماً فى التفكير والتأليف، والمحاضرة فى محاولة إحياء «المفاهيم الأساسية» التى زرعها القرآن الكريم والسنة النبوية فى تاريخ التقدم الإنسانى. لم يتخذ ثياب الداعية ولم يشغل قنوات الجزيرة «قرضاوى» ولم يلمع وجهه ويجمع الشباب فى الجوامع والنوادى «عمرو خالد وخلافه»، ولكن ألَّف وكتب وبحث وقدم للإنسانية مع غيره من شرفاء المفكرين الإسلاميين الصادقين، منذ أمين الخولى حتى نصر أبوزيد والجابرى والعظم، وعشرات غيرهم.

 ترسانة ضخمة من الفكر الحر والعقل المنير المسؤول الذى يجعل من الممكن الحديث عن بعث وثورة فى الإسلام مكملة ومصححة لثورة إيران فى بحر الإسلام الصاخب المتنوع الممتد من المغرب إلى أعماق الصين.

مؤسسة «مؤمنون بلا حدود» فى المغرب التى تعمل منذ سنوات وتصدر الكتب الجادة والأبحاث فى الرباط وبيروت، جمعت فى محاولة رائعة لتجميع فكر الرجل وإسهاماته الصادقة، التى اتهمت أحياناً بالمروق والزندقة من أصحاب المصالح والبترو دولار والفكر الإرهابى المظلم- جمعت أساسيات فكر الرجل وإسهاماته فى كتاب واحد يحمل عنوان «التشكيل البشرى للإسلام»، يشكل واحداً من المراجع الأساسية لما نتوق إليه فى ثورتنا الغالية من ثورة دينية إسلامية شاملة.

الكتاب عبارة عن حديث متصل على امتداد أكثر من 250 صفحة يلخص فيه الرجل قبل وفاته بقليل (فى سبتمبر 2010 فى باريس) لاثنين من كبار الصحفيين المتخصصين، أكثر من 50 كتاباً ومئات المحاضرات، وراجعه بنفسه مع زوجته التى شاركته جهاده العلمى المتبتل، لتمزيق ستائر الجهل والتخلف والاستغلال السلطوى الذى قمع الفكر الإسلامى الحر، حتى انفجر فى وجه العالم فى شكل ذلك الإرهاب القبيح.

 الكتاب موجود ومترجم فى عربية ناصعة (هاشم صالح)، لا أعرف بالضبط ما رأى الأزهر الشريف فى فكر الرجل وكتابه، ولكن على كل حال: الحلال بيّن والحرام بيّن.

ولد محمد أركون فى عائلة فقيرة فى قرية أمازيغية «من البربر» مجاورة لتيزى أوزو، حفظ القرآن فى الثانية عشرة من عمره، وعمل مع والده البقال فى التجارة فأتقن العربية (العامية غير القرآنية)، وتعامل ودرس فى مدارس الآباء البيض (الكاثوليك: هناك ولد قديس الكاثوليكية الأكبر القديس أوغسطين)، وتعامل مع التجار اليهود الذين منحتهم فرنسا المستعمرة الجنسية الفرنسية، وقادته جدته العجوز إلى بئر مقدس فى الجبل حيث يستجاب الدعاء، عرف هناك التجربة الدينية الحقة التى لا تعرف التعصب والتى تعبد الخالق الواحد كلى القدرة وصانع القدر والعدل، كما عرف إقصاء البشر واضطهاد الجزائر للعنصر البربرى وإقصاءه واحتقاره قبل حرب الاستقلال، ورغم دور البربر الهام فى حرب الاستقلال إلا أن نزعات العروبة ارتكبت جرائم إقصاء واحتقار للبربر (عبرت عنها رواية ابن الفقير: مولود فرعون).

عندما سافر أركون ليدرس فى فرنسا أحس بأن تحريم التصوير وإلغاء الموسيقى ضربا روح الدين فى مقتل، فقد أحس وهو يدخل كاتدرائية ستراسبورج فى عيد الميلاد ويسمع موسيقى باخ فى الخمسينيات، ويرى النساء المصليات مع الرجال (بشىء مذهل يدوخ العقل)، عرف هناك كيف خانت الثورة الفرنسية مبادئها، وكيف مارس الدين المسيحى ممارسات تعيد التذكير بمحاكم التفتيش، وتعجب كيف يسمح الدين للإنسان باستغلال واستعباد أخيه الإنسان ثم يصلى ويعبد الله؟

درس طه حسين، وعندما وجه له نقداً عن غياب المنهج اعترض زملاؤه كيف يجرؤ على نقد عميد الأدب العربى، وبالغت الثورة الجزائرية فى إقصاء البربر، كما اعترض أركون على أفكار إدوارد سعيد لدور المستشرقين فى تحقيق التراث، وتذكر الفرنسى ماسينيون وما قدمه لأدب وحياة وشعر الحلاج.

قالوا له: الوقت ليس للعلم والبحث الفكرى الحر وإنما للأيديولوجيا التعبوية النضالية، وألغيت دراسة الفلسفة.
غابت كلمات العلم والعقل: يقول أنا لست من رجال الدين ولكننى باحث فى التاريخ، رجال الدين هم حراس الاعتقاد الرسمى وليس الإيمان.

«لقد حفرت هوة عميقة بين كلام الله (القرآن) وبين الإسلام المعاصر الذى يتكون من تركيبات بلورها البشر بعد أن كان الإسلام قد ترسخ واكتمل».

«إنهم يدرسون الإسلام فى الثانوى والجامعة على طريقة الجهل المطبق والعمى الفكرى الشامل، حيث لا يوجد بصيص نور، هنا نجد أنفسنا فيما وراء الأصول، نجد أنفسنا داخل كارثة عقلية وصحراء من الفكر، نعم إن طريقة تعليم الدين تشكل كارثة فى مجتمعاتنا، وهى سبب كل المشاكل الحاصلة حالياً فى الداخل والخارج».

انظر إلى بنجلاديش.. هل تصدق الأموال التى تنفق على بناء الجوامع الفاخرة؟ أكثر من 60٪ من العالم الإسلامى أمى، هذا إلى جانب الأرقام المفزعة للفقر.

أقلق كلام أركون المسلمين كما أقلق العرب.
«لم يصرخ العقل الدينى قائلاً: لا، أبداً لن أقبل بذلك، لن أقبل باستعباد شخص بشرى هو مثلى تماماً يشاركنى صفة البشرية! بأى حق أفعل ذلك، ليت علماء الدين ثاروا على ذلك، رغم أن كل تلك القرون كانت مليئة بالتعاليم الأخلاقية، والمواعظ الدينية والدراسات والفلسفات وكل ما شئتم من قيم».

لن أحاول هنا استعراض الفصول الـ«11» التى يحويها هذا الكتاب القيم، ولن أناقش المشاكل التاريخية التى ناقشها عن ألفاظ القرآن (كان أمين الخولى قد أثار هذا الموضوع فى القرن الماضى)، كما لن أتعرض إلى مشاكل: الناسخ والمنسوخ، أو لسورة التوبة، أو آية السيف، فليس هذا مجاله وله علماؤه المتخصصون. أشير فقط إلى عنوان الفصل الأخير: ما ينبغى أن يكون عليه «علم الإسلام».

عاصر أركون ثورة الطلبة فى ستينيات القرن الماضى، وعاصر سقوط الأيديولوجيات، وساهم فى تطوير مناهج البحث التى يطلق عليها علوم ما بعد الحداثة، درس كتباً مهملة فى التراث الإسلامى مثل كتاب: تهذيب الأخلاق.. وتجارب الأمم لمسكويه، وأكد أن مناهج البحث اللغوى والإنسانى والتاريخى التى تقدمها العلوم الجديدة سوف تكشف ما فى كتب التفسير من نقص وعوار.

إن نزع التعصب الأعمى الذى يفصل بين الأديان السماوية سوف يثرى التجربة الدينية، وإن احترام وقداسة النص القرآنى لا يمنعاننا - بل هما يطالباننا - بالبحث عن الحياة النابضة والمعانى التى غابت وسمحت لأمراض الغرض والسلطة بأن تملأ وجه الإسلام بالبثور.

إن القارئ الأمين الإنسان المسؤول يخوض مع كتاب أركون هذا تجربة دينية وفكرية غنية مليئة بالحق والعدل والنور.
التشكيل البشرى للإسلام، محمد أركون، ترجمة هاشم صالح - المركز الثقافى العربى - الرباط 2013
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في جريدة مصر اليوم بتاريخ 2 مايو 2015


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق