الأربعاء، 3 يونيو 2015

ما ودعك صاحبك












"ما ودعك صاحبك" هى الرواية الثالثة للكاتبة اللبنانية: لينة كريديه، إضافة جديدة مهمة للرواية العربية الحديثة. الكاتبة صاحبة دار النهضة العربية للنشر، وقد غيرت سياسة الدار فتخصصت فى السنوات الأخيرة فى نشر الشعر الحديث مع اهتمام خاص بشعراء المغرب العربي.

من الواضح أنها على ثقافة عالية وحس إنساني وفكري بأزمة الثقافة العربية وشعور جاد بما يمكن أن يقوم به الفكر والأدب فى أزماتنا الاجتماعية والسياسية والحضارية.

روايتها: "خان زادة" و"نساء يوسف" ثم هذه الرواية "ما ودعك صاحبك" محاولات لتحريك الساكن وفتح نوافذ فكرية وفلسفية لروح العربية التى تمر بمحنة فكرية واجتماعية خانقة تقول فى الصفحات الأولى من الرواية على لسان بطل الرواية "أوس سراج الدين كريديه". "أخاف من الروتين، وأخاف أن أكون مجرد رقم إضافي فى الحياة، أخشى أن تستمر حياتي فى تحصيل لقمة العيش والعودة إلى المنزل، أو بين الكتب والتلفاز وزيارة المقاهي مع الأصدقاء.

 لا أطيق فكرة الأيام المتشابهة وانتظار عطلة نهاية الأسبوع للنوم والراحة، أو القيام بنشاط تافه. تقتلنى فكرة العيش من أجل العيش، يزعجني حجر الرحى وهو يطحن أيامى يوما بعد آخر، ثم يلفظنى على هامش الحياة عجوزا عاجزا". "أوس" ابن عائلة بيروتية عريقة تمتهن تجارة السجاد، درس لثلاث سنوات فى لندن وعاد بعد أن مزقت حرب الطوائف المجتمع المتوتر طائفيا ومذهبيا من الأصل. لا آفاق لمستقبل يليق بأحلام الشاب الذى ذاق طعم العالم الحر المفتوح سوى العمل مع الوالد فى التجارة التى تعانى هى الأخرى كسادا، فيسافر إلى الرياض فى السعودية، حيث يعيش فى ضيق مركب، يفرغ طاقات خياله وفكره الجامح فى متابعة قنوات تعلم فن الطهى وأنواع الفواكه والخضراوات التى يعيشها وكأنها شخصيات إنسانية فى فقرات تتجلى فيها خيالات وقدرات الكاتبة الإبداعية. لا يحتمل (الأوس) عزلته بين المطبخ والعمل الروتيني والأصدقاء المكبوتين جنسيا واجتماعيا فيعود إلى بيروت ليستسلم مرة أخرى لنوبات الكوابيس الليلية المملوءة بنتف من بقايا الحرب الأهلية حيث يرى الجثث والأطراف المبتورة.

 "ماذا بعد المال والجنس أكسيرى السعادة الأسطوريين؟ ربما هناك الإيمان الذى استشعره فى داخلى منذ الطفولة كأى مسلم آخر، والتسليم المطلق بقضاء الله وقدره فما شاء الله كان. أما فى الحب، فلا قناعة ولا تسليم لأنه أمر شائك ومعقد. خصوصا لرجل مثلى تسكنه كوابيس البتر. أنا أبحث عن الغرام والهيام والعشق الذى يهز كياني، ويغير خرائطى الجغرافية! فهل أجده فى هذا الزمان؟ أنا أبحث عن السعادة ولا أعرف لها طريقا.

ربما قد أجدها لاحقا فى الرضا والقناعة، وربما لا أجدها أبدا باعتبارها السر الذى تنتهى معه الحياة فى فصول من أمتع وأهم فصول الرواية (14 فصلا) يسافر (أوس) فى رحلة عمل إلى (كردستان) ويغوص فى كشف خصوصية الشعب الكردى الممزق الذى يتوق إلى الخروج من عالم الحروب والتمزق الذى عاش فيه منذ أوقات الدولة العثمانية، حتى جرائم صدام فى "حلبجة" وغيرها.

 ويدخل بنا فى سماحة وفهم إنسانى واسع إلى الديانة (الأزيدية) التى يطلق عليها المتعصبون ضيقو الأفق والعقل "عبدة الشيطان" بينما هم يعبدون الخالق الواحد ويقولون فى كتابيهما المقدسين (مصحف: رش والجلوة) يقول الفصل الثالث من كتاب الجلوة: "أنا ولى من لا ولى له، أرزق الدود فى وسط الحجر، أعلم فأرزقه ولا أنساه، ولا يمكن أن أتركه. 

أذكروني فى الأفراح والمسرات، وأذكرونى فى المواقف الحرجة وأذكرونى عند الغضب والتهاتر، وأذكرونى سرا وعلنا، ولدتم من أمهاتكم لا تعلمون شيئا ثم صرتم شبابا سكارى مدة قصيرة، ثم انحرفتم إلى المشيب من بعد قوة ضعفا وأفكاكم تغدو بيضاء بعد أن كانت سوداء - العظمة لله".

يستعرض مع الأصدقاء الكرد اختلافهم وأحلامهم فى رحلة مثيرة إلى مدينتهم المقدسة "لالشى" ويزور قبر الشيخ عدى والمعبد النوراني. ويأكل معهم حلوى "من السماء" ويشاركهم أحلامهم بوحدة الشعب الكردي. تنتهي رحلة كردستان ويعود "أوس" ليتابع انطلاق الربيع العربي!قال بوعزيزى للشرطية التى صفعته على وجهه: لماذا تفعلين هذا بي؟ أنا إنسان بسيط لا أريد سوى أن أعمل؟ وذهب إلى بيته ليشعل النار فى جسده. وتمسك النيران بتونس وبعدها بالعالم العربي. يحلم (أوس) بأن يرى العالم يتغير. ولكن "كل المتاعب دائما تأتى عند الرغبة فى التغيير".

ويتابع أوس فى شغف تطور أمواج الثورات العربية على شاشات التليفزيون فى مصر وليبيا واليمن ويظل يحلم بعالم عربي جديد يعيش حرية وعدلا وكرامة ولكن: "تسونامى الدماء أفقدني حماسى القديم للثورات. أعداد القتلى ما عدت قادرا على استيعابها. ثورة سوريا هى الأكثر دموية. حصلت على عرش الوحشية بامتيار. جثث الأطفال وذل العائلات المهجرة مشاهد تفوق الوصف. هل تصبح هذه المشاهد اعتيادية نراقبها ونحن نمضغ الطعام. هل تتحول هذه الثورات إلى قبور نولول فوقها فى ذاكرتنا، كما فلسطين؟!.


يعاود أوس الرحيل مرة أخرى ولكن هذه المرة إلى بعيد إلى بالى فى إندونيسيا. حيث يواصل هوايته فى تعلم الطبخ وتعليمه ضمن مشروع تجارى لرجل أعمال لبنانى ناجح يعيش خارج الواقع العربى المر. تقدم لينه كريديه رواية عربية ممتعة. تجمع بين الشعر والفكر والفلسفة فى إطار التشويق الذكى الجذاب وتخلق شخصية لا منتمى عربيا جديدا لا يبحث عن حريته وحده ولكن يقلقه كابوس الجهل والتخلف والتعصب والطائفية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 3 يونيو 2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق