السبت، 8 نوفمبر 2014

دمشق الجميلة إلى الأبد




أمضيت أياماً ممتعة مع رواية «حكواتى الليل» للأديب الدمشقى «رفيق شامى» «سورى - ألمانى، مواليد (معلولا) 1946 - يعيش فى ألمانيا منذ 1971، حائز على أكثر من 25 جائزة دولية من ألمانيا - فرنسا - إيطاليا - أمريكا».

روايته «الجانب المظلم للحب» تحقق أعلى مبيعات فى ألمانيا وإيطاليا وفرنسا، أقيم جوائزه - فى نظرى - جائزة الأديب هيرمان هسه، يعتبر رفيق شامى، ثالث أشهر كتاب أوروبا، يقيم فى المدن والمدارس قراءات بالألمانية طبعاً - لساعة أو ساعتين من رواياته التى تسجل على أسطوانات، وتحقق مبيعات غير عادية، له فى لندن دار نشر باسم دار السنونو. الطائر المهاجر يصل فى الشتاء مهاجراً من أوروبا إلى الشام والعراق حتى إيران، الدار تنشر النثر العربى فقط وتتولى ترجمته إلى مختلف لغات العالم مع الاحتفاظ بحقوق المؤلف.

يقول شعار الدار إنها تنشر النثر فقط الذى لا يخضع للرقابة ولا للديكتاتورية، ولا النفط أو الملل، يعمل رفيق شامى، واسمه الأصلى «سهيل فاضل»، فى جمعية «شمس» لخدمة أطفال المذابح السورية وأطفال الملاجئ.

مبرر هذا التقديم الطويل هو التجاهل الذى يلقاه اسم الرجل وإنتاجه، الذى يشمل الرواية وأدب الأطفال المتقدم، الذى ينقل سحر الشرق العربى القديم والحديث إلى أوروبا والغرب. هناك - طبعاً - خلافات تأخذ طابع التعصب السياسى وأخيراً الدينى الذى يلاقيه حيث لا يتعدى عدد الروايات التى ترجمت له ثلاث أو أربع روايات على الأكثر!

«حكواتى الليل - يدى ملأى بالنجوم - قرعة جرس لكائن جميل - تقرير سرى عن الشاعر جوتة».

الأديب الكيبر من مواليد «معلولا»، وهى مكان ساحر فى الشام - قرية مسيحية تقع على بعد 50 كيلو من دمشق، المكان الوحيد فى العالم الآن الذى يتكلم اللغة الآرامية - اللغة التى كان يتكلم بها السيد المسيح - وبها أقدم دير مسيحى دير القديس سركيس. يعيش فى المنطقة فى انسجام ومحبة - قبل العواصف السوداء الأخيرة - خليط متناغم من: المسيحيين والمسلمين والأكراد والأرمن والكلدانيين وجاليات إيطالية ويونانية «دمشق والمنطقة المحيطة بها كانت حاضرة متقدمة عمرها 1000 سنة عندما تأسست مدينة روما».

يقول رفيق شامى فى حديث أخير، نشرته كبرى الجرائد الألمانية معلقاً على الوضع الغامض فى سوريا الآن:
تصلنى من وطنى أخبار متناقضة، ما أنا واثق منه أن الخوف لن يعود ليسكن الشام مرة أخرى، بعد أن تنقشع عاصفة ريح السموم السوداء، أرد كل ما حققته فى المهجر خلال أكثر من أربعين عاماً من أجل فنجان قهوة فى دمشق، وسماع أغنية لفيروز فى حدائق الشام، وزيارة لقبر أمى فى «معلولا».

العرب خاصة الشوام والعراقيين المقيمين فى ألمانيا، ينقسمون فيما أعتقد إلى قسمين أساسيين: الأول هو الذى بدأ الهجرة إلى ألمانيا الشرقية سابقاً، والثانى وهو قسم، منه رفيق شامى، بدأ الهجرة فى ألمانيا الغربية، درس رفيق شامى الكيمياء وعمل فى أكبر شركات الأدوية، ثم تفرغ نهائياً للأدب حيث كتب بالألمانية التى أصبح يتكلمها كأهلها تماماً منذ عام 1982.

طال الحديث عن الرجل ونسينا الرواية، تعامل الأديب مع التراث العربى والشعبى تعاملاً جديداً متقدماً، إنه لا ينقل اللغة ولا التراكيب الشكلية ولكنه يغوص فى روح الشعب (يذكرنى بتعامل أبوالشعراء فؤاد حداد) لغته بعيدة عن كل نغمة خطابى سياسى، أو رموز فجة تلك التى تحول الأعمال إلى خطب سياسية خانقة، أو مسخ مقلد من نصوص تراثية، إنها أعمال خيالية، تقدم نوعاً جديداً من خلط الأسطورة بالرواية الحديثة فى ابتكار للشكل وللمضمون، يقارب ما فعلته الواقعية السحرية التى خرجت من أمريكا اللاتينية لكى تضيف محيطاً جديداً لبحار الرواية الأوروبية الغربية، فى أعماله نقد سياسى واجتماعى يعتمد على جو النكتة والسخرية الشعبية. الرواية تبقى دائماً ممتعة مسلية تعيدك إلى طرافة القص الشعبى، فى «حكواتى الليل» يقول رفيق شامى:
«كل خميس كان راديو القاهرة يبث أغانى أم كلثوم، والجزار كان متيماً بصوتها إلى درجة أنه يبكى ويرقص وحيداً فى غرفته، شريكه الوحيد وسادة يعصرها بين يديه، أحبها معه ملايين العرب إلى درجة لم يجرؤ معها أى رئيس دولة بإلقاء خطاب فى أمسية الخميس، لأنه يعلم أنه ليس هناك عربى واحد يستمع إليه، كان لأغنية أم كلثوم جمال حديقة قرنفل مزروعة بعناية حيث لا يمكن لشوكة أن تندس فيها».

ويقول عن حارات دمشق:
ما إن غادر المقهى حتى لفته غيمة عطر آتية من سوق البهارات، كان الكمون، حب الهال والكزبرة يسيطرون على الموقف، لكن الزعتر العنيد القادم من الجبال السورية لم يخمد له همة، ومن المستحيل تجاهل صوته العميق.. الأكاذيب والبهارات أخوة، لكن الكذبة شأنها كالبهارات لإضافة بعض النكهة وليس لطمس الحقيقى.

حكواتى الليل أصابه خرس وفقد صوته، اجتمع حوله أصدقاء سبعة يمثلون كل طوائف الشعب: الحداد - النجار - التاجر - الوزير السابق - والسجين الذى أمضى نصف عمره معتقلاً، وقرر الجميع البحث عن علاج لحكواتى الليل. الحوذى الفنان الذى كان يروى حكايات ممتعة بلا توقف للمسافرين فى الطريق الخطر بين دمشق وبيروت، يحكى كل واحد حكاية ليفتحوا شهيته للكلام مرة أخرى، يفشل الجميع رغم الحكايات الممتعة.

حتى تأتى فى النهاية زوجة الحداد فى زيارة نسائية غير مسبوقة لمجتمع الرجال لتحكى هى أمتع الحكايات التى ورثتها عن أمها «القابلة» التى ولدت نصف البلد وعاشت حرة، فى إشارة فنية لا فجاجة فيها لـ«شهرزاد» وألف ليلة.

نحن الواقعون تحت كابوس مما يحدث فى الشام والعراق، نحن الغارقون تحت جنون الصور البشعة التى تعيشها أجمل البلدان، وأغلى البلدان. علينا أن نبحث عن النجاة فى الفن الصافى الذى يقدم بعضاً منه أمثال رفيق شامى، لا أقول إنه يقاوم، فلا مقاومة إلا بالعمل والسلاح، ولكن هذا النوع الراقى الصافى من الفن، يمكننا من احتمال مرارة الأيام، ويحمى عيوننا من بشاعة رياح السموم.

حكواتى الليل - رفيق شامى. ترجمة رنا زحكا. رواية. منشورات الجمل 2011

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في جريدة المصري اليوم بتاريخ 8 نوفمبر 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق