السبت، 29 نوفمبر 2014

كوميديا الأكاذيب المرة



                   

هذه آخر رواية كتبها ألبير قصيرى (1913-2008)، الكاتب المصرى الذى يكتب بالفرنسية، كتبها 1999 وبعدها تقريباً كف عن الكتابة والكلام، أصلاً هو كان قليل الكلام، متوحداً، زاهداً فى التملك أو الشهرة أو الظهور، عاش أكثر من 40 سنة فى غرفة واحدة فى فندق متواضع فى قلب الحى اللاتينى، عاش هناك فترة ازدهار فرنسا بعد الحرب، وصادق ألبير كامى، وسارتر، وداريل، وهنرى ميلر
«الذى كتب مقدمة لروايته التى ترجمت إلى الإنجليزية».


 منذ أن غادر مصر وهو يحملها فى قلبه وذاكرته، لم يكتب إلا عنها، رواياته الـ8 تدور كلها فى القاهرة أو الإسكندرية، كل الشخصيات مصرية حميمة وغالباً من قاع المجتمع، قالوا عنه فولتير النيل، ولغته فيها مذاق وروح بلزاك، ومع ذلك هو يقول عن نفسه«لست روائياً.. أنا كاتب»، يكتب عندما يكون عنده شىء ما يقوله، يقوله ببطء شديد، بوضوح ساخر حاد ونافذ إلى الأعماق، يحمل نقداً سياسياً واجتماعياً لرأس المال وللتشوه الاجتماعى الذى سببه للبشر وللعلاقات الإنسانية.


الفرنسية التى يكتبها عالية كلاسيكية قديمة ولكنها محملة بالروح المصرية فى الحوار وفى الصورة، وفى الروح الحاضرة فى الأماكن، وفى تركيب الشخصيات، لذلك كانت ترجمته صعبة، نادراً ما تستطيع القبض على روح النص.


منذ سنوات قليلة أعيد اكتشاف أعماله وترجمت ثلاث من رواياته المهمة إلى الإنجليزية، وقال النقاد فى إنجلترا وأمريكا إن ألبير قصيرى أحد الروائيين الذين استطاعوا التنبؤ بما سمى الربيع العربى، الذى ثار على الفقر والتسلط والجهل والخرافة، وحاول تحدى سيطرة الفساد المالى والاجتماعى والسياسى:
 شحاذون ونبلاء، عصابة المهرجين.. وأخيراً ألوان العار، ثلاثة أعمال تقدم صورة حية لمجتمعات تصرخ طالبة التغيير.

ألوان العار رواية قصيرة «100 صفحة» ولكنها محتشدة صاخبة مليئة بالضجيج والسخرية والغليان، بطل الرواية «أسامة معاذ»، نشال أنيق يراقب زحام ميدان التحرير، فى رصد أدبى مركب يفتتح به هذا العمل النادر:
 اسمع ما يقوله قصيرى من خلال عيون نشاله الأنيق الذى يراقب زحام الميدان وروح القاهرة:
«حشود البشر، الهائمة على وجهها على إيقاع تسكع صيفى لا مبال فوق الأرصفة غير المستوية لمدينة القاهرة العتيقة، بدت وكأنها قد تكيفت بسكينة بل وبشىء من السخرية اللاذعة مع تدهور البيئة المستمر الذى لا رجعة فيه.. كأنهم متواطئون مع العدو الخفى المقوض لقواعد وأساسات عاصمة كانت منارة فى الماضى.


سيل بشرى جارف يحمل معه عينات متنوعة من البشر أصابتهم البطالة بالسكينة:
 عمال عاطلون، حرفيون بلا زبائن، مفكرون خاب أملهم فى بلوغ المجد، موظفون إداريون مطرودون من مكاتبهم لعجز فى عدد المقاعد. خريجو جامعات رازحون تحت وطأة علمهم العقيم الذى لم يؤت ثماره.. وزمر من النازحين القادمين من كل المحافظات والمشبعين بأوهام حمقاء عن ازدهار عاصمة تحولت إلى بيت للنمل.. فى هذا الجو المختل بوحشية كانت السيارات تندفع وكأنها بلا سائق.. المترجل الذى تخالجه نفسه بعبور الطريق يبدو وكأنه مقدم على عمل انتحارى».


أسامة النشال، المتنكر فى زى فاخر أنيق، يقتنص محفظة فاخرة من أحد الأعيان الخارجين من «نادى الأعيان» ليس فى المحفظة نقود كثيرة فقط، ولكن فيها خطابا موجها لصاحب المحفظة، وهو مقاول مبان كبير انهارت واحدة من العمارات التى بناها منذ أيام وتسببت فى مقتل 50 إنساناً، الخطاب يحمل توقيع شقيق وزير الأشغال الذى كان يشارك المقاول فى استخراج تراخيص فاسدة من الوزارة التى يرأسها شقيقه:
يقول فى الخطاب إنه سيكف عن التعاون معه بعد فضيحة سقوط العمارة واكتشاف فساد التراخيص وفساد مواد البناء.
يشعر أسامة أنه يحمل قنبلة يمكن أن يفجرها فتقلب المدينة، يسرع إلى حى السيدة زينب حيث يقيم والده الضرير فى بيت آيل للسقوط وكان الرجل قد فقد بصره إثر ضربة من هراوة الشرطة فى إحدى المظاهرات ضد الفساد ولم يحصل على أى تعويض من الحكومة، يضع أسامة بعض الأوراق النقدية فى يد والده ويسرع باحثاً عن أستاذه الذى علمه النشل، المعلم «نمر» كان قد خرج من السجن وأطلق لحيته ليكتسب شكلاً جديداً لمواصلة عمل النشل بشكل جديد، يستشير أسامة معلمه فى أفضل الطرق للتعامل مع الرسالة القنبلة واستغلالها بأحسن الطرق.


المعلم نمر يقودنا إلى لون آخر من ألوان الفساد حيث يأخذ أسامة لزيارة أستاذ صحفى كان زميله فى السجن لأنه كان متهماً بكتابة مقال عن رئيس دولة شقيقة يكشف فيه أنه مختل عقلياً، الأستاذ كرم الله الصحفى الساخر المفكر، يختفى فى مقابر أسرته العريقة بعيداً عن مطاردة أحكام وضعه تحت الحراسة، هناك فى المدافن يقيم الأستاذ، ويستقبل تلاميذه ويستقبل نمر وتلميذه أسامة ليبحثوا كيفية التعامل مع الرسالة التى تحمل الفضيحة.
الأستاذ كرم الله - المفكر - هو رسول السخرية المقيم فى المدافن يقرأ الرسالة ويقول إنها:
 «عسل» كوميديا سوداء، تثير غبطتى لعدة أيام، ولكن اللصوصية فى أعلى الطبقات أمر مقبول ومتوقع فى كل العالم، وليس فى هذا جديد، الصحف لن تنشر هذه الفضيحة، وإذا نشرتها ستجد أعذاراً وتبريرات.. يقول رسول السخرية المقيم فى المدافن:
 يا معلم نمر ويا سيد أسامة يجب أن نبحث عن حل مبتكر وممتع للتصرف فى هذه الهدية التى وقعت فى أيدينا.
وتتصاعد السخرية الكاشفة فى الرواية بأن يقترح الأستاذ كرم الله:
 أود أن نلتقى بهذا المقاول المدعو عاطف سليمان، إأن الحوار معه سيكون ممتعاً، عيداً حقيقياً للعقل يكشف أحشاء هذا الواقع، سنعرف خلال هذا اللقاء الذى أشتاق إليه، أن الشرف اختراع من صنع الطبقات المهيمنة ليتسلى الفقراء.


ويتفق الثلاثة على لقاء المقاول فى حى الحسين فى ذلك المقهى القديم الشهير، كان المقهى والحى كما هما تماماً منذ أن كان المقاول الكبير عاملاً فقيراً يبحث عن عمل، عندما يلتقى الثلاثة تتم مناقشة الواقع السياسى والاجتماعى فى مبارزة يقودها كرم الله تتناثر فيها الحكم كأنها حبات لؤلؤ تهدى إلى امرأة عجوز تحتضر، الفقراء فقط هم اللصوص، السرقة والاحتيال هما المحرك الوحيد للإنسانية، النشال عازف بيانو ماهر لا يمكن الارتياب فيه، الحقيقة معروفة للكل ولكن لا مستقبل لها، الكذب وحده هو الذى يحمل آمالاً عريضة، الوقت الثمين الوحيد هو الوقت الذى يمضيه الإنسان فى التفكير، أما كرم الله فقد قال لهم إن موت الطاغية أو القبض عليه لا يعنى نهاية الطغيان أو الفساد، الناس مشغولة بنفسها ولا شىء اسمه الثورة، لكل إنسان ثورته الخاصة، يصنع بها تاريخه ويدافع عن مصالحه.

أعجب المقاول عاطف سليمان بالحوار والنقاش الذكى وأخذ هو الآخر يتفتح ويشرح حاله، أبدى استعداده لدفع أى مبلغ مقابل استرداد الرسالة، ولكن الثلاثة بقيادة كرم الله أفهموه أنهم لا يعرضون الرسالة للبيع، خاصة بعد أن قال لهم إن حادث انهيار العمارة كان من جراء زلزال محلى كان فقط فى مدينة نصر، وإن الحكومة أخفت الموضوع حتى لا تثير ذعراً لا داعى له فى البلد، وأنه هو ليس مجرد مقاول للبناء ولكنه صاحب نظرية جديدة فى العمارة يعمل على تطويرها، ملخصها أنه لا يجب أن نقيم مبانى تعيش إلى الأبد ولكن يجب أن نعمل على أن يكون لكل مبنى عمر افتراضى ينهار بعده.

أمام تصاعد هذه الأكاذيب، وتكشف العار الذى يتصاعد مغرقاً كل شىء يقرر النشال الأنيق الاحتفاظ بالرسالة، ويصنع منها حجاباً يعلقه فى صدره لكى يحميه، ويجلب له النجاح.

رواية ألوان العار خلاصة فكاهية مرة اعتصرها ألبير قصيرى من قلب محبته وغربته عن مصر، وكتب فيها حكمة التجربة، ونبوءة الثورة وإشارة إلى ضرورة عمق وشمولية التغيير.


ألوان العار - رواية - ألبير قصيرى
ترجمة د. منار رشدى أنور.
المركز القومى للترجمة 2011.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر في جريدة المصري اليوم بتاريخ 29 نوفمبر 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق