السبت، 25 أبريل 2015

كم أنا وحيد بدونك!













هذه جوهرة جديدة من جواهر أدب أمريكا اللاتينية، من ترجمة أستاذ الترجمة الإسبانية صالح علمانى كتبتها سيدة نادرة من نيكارجوا «جيوكوندا بيللى» (مواليد العاصمة ماناجوا 1948). هى شاعرة ومقاتلة سياسية ضد الديكتاتورية التى حكمت بلادها لنصف قرن ومازالت تقاتل ضد سيطرة العولمة الأمريكية وضد نفى الرجل لدور المرأة فى صناعة الفكر والحضارة والمستقبل. تنتمى أصلاً إلى عائلة كاثوليكية أرستقراطية.

 تزوجت قبل أن تبلغ العشرين. لها أربع بنات. نقلت السلاح عبر الحدود إلى ثوار السندوينستا، وكتبت شعراً حراً جريئاً عن مشاعر المرأة، وشغلت بعد سقوط نظام الديكتاتور سوموزا «1979» مناصب فى وزارة الداخلية، وأنشأت إذاعة حرة جديدة فى بلادها. لها رواية شبه سيرة ذاتية بعنوان «المرأة المسكونة» (مترجمة إلى العربية هى وعملها هذا فى سلسلة الجوائز المصرية)، امرأة جميلة قوية مازالت تطالب بعولمة مختلفة تنشر السعادة والعدل، عولمة لا تنفى فقراء العالم بل تكون فى خدمتهم، تعيش الآن فى الولايات المتحدة، ولها كتاب عن حياتها بعنوان «بلادى تحت جلدى».

الرواية التى بين أيدينا، ذات العنوان الغريب «اللامتناهى فى راحة اليد» أو فى راحة يدك أو يدى- أجمل تعبير عرفته عن دهشة اكتشاف الحياة خيرها وشرها، دهشة اكتشاف النفس، الضعف والقوة، اكتشاف الجنس، والبحر، والشمس، الخوف من السحاب والقمر، الفرح بالمعرفة والقمر، تقول فى مدخل الرواية «200 صفحة - 31 مشهداً قصيراً» قسمان الأول بعنوان (وخلقهما رجلاً وامرأة) والثانى بعنوان (أثمروا وتكاثروا). 

لعلك عرفت أن الرواية عن آدم وحواء، وعن جريمة قابيل وهابيل» تقول فى مدخل الرواية أبياتاً من قصيدة للشاعر الإنجليزى وليم بليك «ترى العالم فى حبة رمل، والسماء فى زهرة برية، وتجمع اللامتناهى فى راحة يد، والأبدية فى ساعة واحدة».

أو تقول مع ت. س. إليوت: نهاية كل اكتشافاتنا: الوصول إلى المكان الذى بدأنا منه والتعرف إليه أول مرة، تقدم بيللى بعملها المدهش «وهى المرأة غير المتدينة. بآيات من سفر أراميا من التوراة الإصحاح 51، 37 الذى يقول: «تكون بابل كوماً مأوى بنات آوى، ودهشاً، وصغيراً بلا مساكن» أطلت فى سرد هذه المقدمات لكى أصل إلى التقديم الفاجع الموجود فى أولى صفحات الكتاب ونصه: هذا الكتاب مهدى إلى ضحايا حرب العراق المجهولين، ففى مكان ما من تلك البلاد، بين دجلة والفرات، كان هناك فردوس ذات مرة».


ولد هذا العمل الجميل من الدهشة والحب والإتقان والبحث فى أصول أساطير خلق آدم وحواء فى التراث العالمى: العبرى «أربعين آية فى سفر التكوين» ومخطوطات مكتبة نجع حمادى المصرية التى اكتشفت فى الصعيد عام 1944، وفى مخطوطات البحر الميت فى وادى قمران، و«الميذورا» وهى تعليقات كتبها حاخامات متفقهون فى شرح العهد القديم.

تقول جيوكندا بيللى:
«هذه قصة آدم وحواء وأبنائهما (قايين وهابيل) ولولوا وأكليا، تسلحت لكتابتها بتلك القراءات المترعة باستنتاجات كاشفة وفاتنة، أطلقت العنان لمخيلتى لأستحضر فى هذه الرواية خلفيات تلك الدراما القديمة، ومشهد الفردوس السريالى، وحياة ذلك الثنائى الشجاع والمؤثر، ومع أننى لست متدينة، إلا أننى أرى أنه كانت هناك امرأة أولى ورجل أول، وأنه يمكن لهذه القصة أن تكون قصتهما، هذه الرواية تخيل يستند إلى تخيلات أخرى وتفسيرات وإعادة تفاسير نسجتها البشرية حول أصولنا منذ أزمنة لا ترقى إليها الذاكرة، إنها فى دهشتها وحيرتها قصة كل واحد منا».

ملاحظة أخيرة: لفظ حواء ليس لفظاً قرآنياً!


وكان.
فجأة من اللاكينونة صار كائناً يعى ما كانه. فتح عينيه، تلمس نفسه وعرف أنه رجل دون أن يعرف كيف عرف ذلك، رأى الحديقة وأحس أنه مرئى. نظر فى كل الاتجاهات أملاً فى أن يرى آخر مثله.
وبينما هو ينظر، نزل الهواء عبر حنجرته فأيقظت الريح الباردة حواسه. شم، تنفس ملء رئتيه وأحس فى رأسه بالتقلب المضطرب للصور الباحثة عن تسمياتها، فانبثقت الكلمات والأفعال من أعماقه نقية واضحة لتحط على كل ما يحيط به. سمى، ورأى أن ما يسميه يتعرف على نفسه. هب النسيم على أغصان الشجر، غرد العصفور، فتحت الأوراق الطويلة أياديها المرهفة، أين هو؟ تساءل: لماذا لا يظهر ذاك الذى يرصده بنظرته ولا يسمح بأن يرى؟ من هو؟

بهذا الغموض الشعرى الواضح والفاتن فى نفس الوقت، تتوالى مشاهد الأسطورة الحديثة التى أعادت الكاتبة حكايتها مشحونة بالمعرفة والحكمة والشعر، هناك تلك القوة المدبرة الخالقة المسيطرة التى يطلق عليها «الوكيم» (وهو لفظ توراتى عبرى يشير إلى مكان ملاك الخالق)، ثم هناك حواء التى تذكر أن شقا قسم كيانه وأخرجت منه المخلوقة الحميمة التى كانت تقبع فى داخله. أنساه وجودها إحساسه بالسقوط الطويل الذى دفعه إلى نوم يشبه الإغماء، شغله تفحصها عن لعبة النسيان والتذكر وأخذ يتأمل ما بينه وبينها من تشابه واختلاف «مد يده وقربت يدها مفتوحة، تلامست راحتاهما، وزاناً بين يديهما، ذراعيهما والساقين، أخذها للتجول فى الحديقة، أحس بأنه ذو نفع، وأنه مسؤول، أراها النمر وأم أربعة وأربعين، والزرافة والسلحفاة، ضحكا كثيراً، تقافزا مرحاً، تأملا تنقل الغيوم وتبدل أشكالها، واستمعا إلى ترنيمة الأشجار الرتيبة، جربا كلمات لوصف ما لا يسمى، كان يعرف أنه آدم ويعرف أنها حواء، وكانت تريد معرفة كل شىء.

- ما الذى نفعله هنا؟ سألت.
- لا أدرى.
- من الذى يستطيع أن يشرح لنا من أين أتينا؟
- الآخر.
- وأين هو الآخر؟
- لا أعرف أين هو. ما أعرفه فقط أنه يتابعنا.


إنه يفتقد التأمل الهادى الذى كان يسلو نفسه به قبل ظهورها، وبالرغم من أنها تضطره إلى الركض من هنا إلى هناك مثل ظبى وليد، إلا أن سماعها تضحك أو تتكلم يشعره بسعادة أكبر بكثير من الصمت والوحدة، عند الشجرة وقفت:
هذه ليست أى شجرة، إنها شجرة الحياة.
- إنها بديعة حقاً.
- متسلطة، وأقول إنه عليك ألا تقتربى كثيراً.
واقتربت وأكلت من الثمرة، وتحتها كانت الحية تنتظر التى قالت لها:
- لم يمكننا مقاومة الرغبة فى تأملكما.
- لست وحدك إذن، من معك؟
- الوكيم، الذى خلقكما.
- الرجل يقول إننى خرجت منه.
- أنت كنت مخبأة داخل الرجل، الوكيم خبأك فى أحد أضلاعه: ليس فى رأسه كيلا تكتشفى الغطرسة، ولا فى قلبه كيلا تراودك الرغبة فى التملك، وكان الرجل يسمع حديثهما.

من فضول حواء يعرف آدم أشياء جديدة كثيرة، وتبقى الكاتبة بتتابع سريع للمشاهد ذهن القارئ يقظاً مندهشاً ومفاجأ رغم أنه يعرف القصة كلها.. إنه يعرف مع آدم حقيقة أنه لكى يأكل عليه أن يقتل أرانب أو طيوراً أو أسماكاً. إننا نأكل بعضنا البعض، وبمتابعة لقاء المرأة مع الحية يدرك أنها عدو وصديق فى نفس الوقت، وأن الشر جزء من المعرفة، كانت النار تفقده العزيمة حتى قبل أن يعرف الخوف. إنها أقوى العناصر وأعظمها، وعندما اشتعلت فى منطقة خاف أن تكون حواء فى داخلها، ظل هو وكلبه يلفان ويدوران حولها، لا يعرف ماذا يفعل، وكأنه أصيب بالجنون، كان يلومها على أنها أكلت من الثمرة، ولكن بعد خوفه عليها عندما اشتعلت فى الغابة نار وخاف عليها أدرك كم تؤنسه وكم تبدو الحياة كئيبة بدونها.

تسأل حواء: أين نذهب عندما ننام، ومن هؤلاء الذين نراهم هناك؟ تغيرت الحديقة التى كانا فيها، حيث كانت الشجرة. هى أكلت الثمرة وعرفوا الخير والشر، وهو قتل الأرانب فعرفوا المقاومة والاستسلام والموت.

تتصاعد براعة الكاتبة فى وصفها الجميل الفاتن، للتعرف الجنسى بين آدم وحواء، حيث تتحول الكلمات إلى بقع من الضوء الشفاف الذى يدغدغ العقل والعواطف معاً.

أما مأساة القتل والتى تأتى قرب نهاية الرواية، حيث يقتل قايين أخاه من أجل الغيرة على الاقتراب من الأخت الجميلة لولوا فإنها تنقل العمل إلى مستوى فاجع آخر كأننا نشاهد مسرحاً يونانياً قديماً.

أعتقد أننى عثرت على عمل فريد أستمتع به وكأننى أتعلم القراءة للمرة الأولى.
أدب أمريكا اللاتينية عندما يصل لنا فى ترجمة ناصعة مثل هذه يعطينا درساً فيما يمكن أن يفعله الأدب الجيد فى الروح، ويشعرنا كم نحن فقراء، رغم ما فى تاريخنا وواقعنا من أساطير.


اللامتناهى فى راحة اليد، جيوكوندا بيللى «رواية» ترجمة: صالح علمانى - دار المدى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في جريدة المصري اليوم بتاريخ 25 أبريل 2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق