السبت، 26 يوليو 2014

مبروك: حكاية كاتب شريف

       
                

صوت الكاتب محمد مبروك خافت، ابتسامته وبشاشة وجهه تسبقان كلماته الهادئة التى يستقبلك ويودعك بها، ولكنه قادم من أرض النار:
 يحمل نقداً وإدانة لكل ما هو فاسد، كاذب أو مزيف فى حياتنا العامة وحياتنا الأدبية، والثقافية خاصة.
حياة مبروك الرابضة خلف هذا الوجه الباسم والصوت الهادئ: قضية إدانة لواقع عشناه لنصف قرن، حاق به خلاله ظلم اجتماعى وسياسى، وفكرى غير مبرر، وغير مفهوم.
 نقبله صامتين، ونصرف عنه حتى لا نحدق فى قبح واقع لا يحتمل.
هو قليل الإنتاج:
 له مجموعة قصصية واحدة «عطشى بماء البحر» صدرت 1984 (طبعت بعد ذلك 3 طبعات) وله قصص متفرقة نشرت فى مجلات: المجلة (وقت صدورها برئاسة يحيى حقى، القصة ذات العنوان الفريد: «نزف صوت صمت نصف طائر جريح»)، ثم جاليرى 68، والفكر المعاصر، وأدب الغد، ومواقف، والكرمل.. ذكرت أسماء المجلات لأن كل اسم كان يمثل مرحلة وتحولاً فكرياً وأدبياً لم يدرس ولم يحلل بعد:
 لكن المقصود أن الكاتب محمد إبراهيم مبروك كان موجوداً وكان مشاركاً فى تطور الحركة الأدبية المصرية بعيداً عن أجهزة السلطة وعن الإعلام والفشر الرسمى.
هو من مواليد قرية طملاى، منوفية، عام 1943 يحمل على أكتافه قصة كفاح طويلة انتقل خلالها من القرية إلى عشوائيات الإسكندرية، حيث عمل فى أعمال صغيرة متنوعة، ليعول أسرة كبيرة من تسعة أفراد، وأصر على مواصلة التعليم رغم قسوة الحياة والفقر، حتى التحق بجامعة الإسكندرية كلية الآداب قسم إنجليزى ثم قسم تاريخ:
 هناك بدأ رحلة القراءة ومحاولات الكتابة متدثراً بدفء الجماعات الأدبية والمكتبات العامة التى وجد فيها لسنوات زاداً لا ينفد من الكتاب العظام، من دستيوفسكى وتشيكوف، حتى فوكنر، وسارتر وكامى.
 ولكن ضرورات الحياة اقتلعته من الإسكندرية لتلقى به وسط زحام وصراع القاهرة، التى يقول عنها:
 إنه مايزال يعتبرها منفاة بعد القرية، والإسكندرية الحانية الجميلة.
رغم أن القاهرة حملت له مفاجأة النشر فى مجلة «المجلة» ولقاء جميلاً لا ينسى مع يحيى حقى الذى قال له:
 ألن تغير عنوان القصة يا مبروك باشا، فقال مبروك- وكان هذا هو اعتقاده ويقينه حتى الآن- إن العنوان جزء من عالم القصة، جزء من عالمها الخيالى المستمد من تداع داخلى حر للشخصية، وإنه لن يقبل أن يغيره.
 وقال ما يعتقده للأستاذ:
 لو بدأت فى التنازل الآن فلن أجد لنفسى أى خصوصية فيما بعد.
 قبل الأستاذ منطق الكاتب الشاب، ونشر القصة كما هى، بل نشر عنها دراسة للناقد الشاب «فى ذلك الوقت» صبرى حافظ يقول فيه:
 لقد وصل مبروك فى هذه القصة بأسلوب المونولوج الداخلى إلى آفاق لم يسمع فيها وقع قلم مصرى من قبل، وأحدثت القصة صدى عند أوساط الكتاب والمثقفين.
إلا أن القاهرة كانت تخفى له بعد هذه الحفاوة التى قوبل بها، احتفالاً من نوع آخر:
 فقد تم اعتقاله فى تهمة عبثية لا علاقة له بها، وتم فى فترة الاعتقال ضربه وتعذيبه بطريقة وحشية فى محاولة لجعله يعترف بمؤامرة وهمية لاغتيال الزعيم، وهو لم يكن يعرف أحداً من الأطراف، ولم يكن مشتغلاً بالسياسة على الإطلاق، أمضى فى المعتقل شهوراً حتى بعد هزيمة يونيو، وخرج محطماً داخلياً ليجد مجتمعاً يعيش فى مأتم كبير.
 كانت التجربة مرة عبثية قاسية، دفعت بالشاب الذى لم يتعد منتصف العشرينيات إلى داخل شرنقة نسجها حول نفسه وعاش منعزلاً صامتاً لأكثر من عشرين عاماً..
حتى أيقظه الأدب من جديد، كانت اليقظة الثانية على يد جبرائيل جارسيا ماركيز، وبالتحديد على يد نسخة مصورة يتداولها الشباب من روايته البديعة القصيرة
«ليس لدى الكولونيل من يكاتبه»، أيقظ هذا العمل الفذ الشاب الذى قهره الاستبداد وعضه الفقر، والحب المحبط الذى دفعه إلى محاولة الانتحار.
عادت الروح إلى الجسد المحطم والعزيمة الخائرة بدأت مرحلة جديدة من حياة محمد مبروك، درس الإسبانية وقرأ أدب أمريكا اللاتينية عن قرب، وقدم عدداً من الترجمات لمجموعات قصصية هى: «رقص الطبول ومختارات»، و«وسم السيف»، «حتى تقطعت الأوصال»، و«أشجار متحجرة» للكاتبة المكسيكية: أمبارو دابيلا، وعدداً آخر من قصص الأطفال والأساطير المختارة من كنوز أمريكا اللاتينية الباهرة.
كتابنا هو: «الروح الحلوة لدون دميان» عشر قصص قصيرة لأسماء كبيرة فى الأدب اللاتينى اختارها كاتبنا- وعينه فيما أعتقد- على واقعنا، وعلى تشابك وتعقد التخلف مع الفقر، والاستبداد الذى يجمع بلادنا مع أمريكا اللاتينية، ذلك التشابك الذى يطلق شرارة الإبداع فى عقل كل من يبحث عن الفن والأدب عن خروج عن أفق جديد وحياة بها طعم للعدل والحرية.
الروح الحلوة لدون دميان قصة قصيرة كتبها أول رئيس لجمهورية الدومينكان، بعد موت الديكتاتور الذى حكمها لسنوات. رئيس الجمهورية الكاتب هو خوان بوش «1909/2001» حكم لمدة ستة شهور ثم أطاح به انقلاب عسكرى، وقفت وراءه أمريكا. وهو كاتب قصة قصيرة له عدد من المجموعات، كما له مذكرات عن المنفى وما قبله وما بعده. قصة «الروح الحلوة لدون دميان» تدخل فى سياق هذه الكلمات التى أحاول فيها أن أقدم لك رحلة مبروك، وكيف يفكر وماذا يختار.. «دون دميان» ثرى كبير يعانى سكرات الموت، والقصة عن «روحه» التى خرجت وتعلقت بنجفة السقف، وراقب لحظات الفصل المختلفة لموت الثرى على زوجته الشابة، وعلى حماته، وعلى الخادمة وعلى الطبيب، وعلى القسيس الذى تنتظره هبة الثرى للكنيسة، على أثر حقنة منشطة للقلب عادية. تعود الروح إلى الجسد بعد أن تكون قد رأت الجميع عارياً بلا أقنعة.
رأت الأطماع، والعواطف الزائفة، ورأت عند الخادمة البسيطة صدق المحبة وطيب الجوهر.
 رأت الكل حول سرير الميت يسارع بالدفاع عن مصالحه، ولم يتحدث أحد عن الميت بخير سوى الخادمة، التى قالت إن «روحه كانت حلوة»، سمعت الروح هذا الوصف فقفزت من النجفة إلى مرآة الحمام حيث شاهدت للمرة الأولى صورتها: صورة الروح.
«كان فى المرآة شىء غريب يصل طوله بالكاد إلى قدم واحدة، باهت أقرب إلى سحابة رمادية بلا شكل محدد عنقود شنيع من الأطراف الحساسة كتلك التى لأخطبوطاً دخان داكن.
وحل مائع، أطراف رخوة تتدلى فاقدة القدرة وهائلة القبح».
هكذا رأت الروح نفسها.. فأسرعت تدفن نفسها فى الجسد الذى بدأ يتعافى.
أما قصة «الخاتم» للكاتبة المكسيكية «إيلينا جارو» فهى قصيدة موجعة فى شكوى الفقر، تقول بطلة القصة بعد أن قتلوا والدها ليستولوا على قطعة أرض صغيرة كان يدافع عنها:
أن تكون فقيراً، هو ما يجعلك تنكسر مثل أى قالب طوب نيئ يداس بكثرة، هكذا نحن الفقراء، لا أحد ينظر إلينا، الكل يمر من فوقنا، مشيت كثيراً، كل السكك ملآنة بآثار أقدامى، كم مشيت كم درت. وفى النهاية أجد ابنى الصغير ملقى فى حقل ذرة ممزق الرأس بطلق فى الرأس.
لم أبك يا سيدى فلو بدأ الفقير فى البكاء فستغرق دموعه الدنيا. لعل الرب يعطينى مكاناً لا أبكى فيه!
فى أدب أمريكا اللاتينية، أرض النار والحقيقة، يبحث كاتبنا مبروك عن عزاء، عن قدر من حرية التعبير والفكر والاعتقاد، عن سماح بوجود الآخر. عن جنون فنى وتحطيم للقوالب المحفوظة.

الروح الحلوة- قصص من أمريكا اللاتينية
- ترجمة: محمد إبراهيم مبروك.
قصور الثقافة 2008.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 26 يوليو 2014

السبت، 19 يوليو 2014

أصبع يشير إلى القمر

                 
            

من آخر الهدايا التى تركها المفكر الحر بدر الديب قبل رحيله، الترجمة البديعة التى أنجزها لـ«كلاسيكيات الهايكو»، والتى صدرت فى مجلدين «الربيع والصيف» والثانى «الخريف والشتاء».
«الهايكو» شكل، أو نوع من قصيد الشعر اليابانى القصير جدا (ثلاثة أبيات، مقطعان إلى: 5 - 7 - 5 مقاطع صوتية) القصيد ومضة لا تثير جدلا أو أفكارا، لا تستعمل تشبيهات أو توريات، لوحة طبيعية صامتة، منظر، قد يثير تناقضا أو سخرية: «أصبع مفرد يشير إلى القمر»، يقسم «الهايكو» إلى فصول السنة الأربعة، التى تتمايز بوضوح فى الطبيعة اليابانية.

 وهو بالطبع شكل نابع ومرتبط بالديانات والفلسفات الشرقية: البوذية، والكونفوشسية والطاوية التى تعتمد طريق «الزن» أى التأمل والاستغراق المطلق فى سكون الوضع الجالس حتى يصل العقل إلى حالة الاستنارة، أو معاينة «البوذا» أو الحلول فيه.
«كلاسيكيات الهايكو» إشارات ضوء، نفحات بصرية وشعورية فى طريق تأمل الكون. ترجع القصائد الكلاسيكية إلى أربعة شعراء هم:
 باشو - وأسا - وبوسن - وآخرهم شيكى (1866 - 1902) وقد اعتمد باشو تصنيف القصائد إلى فصول السنة (1644 - 1694).

الذى قام بجمع هذه القصائد وإخراجها إلى العالم فى ترجمة إنجليزية العالم الباحث الإنجليزى: هـ. ر. بلايث الذى توفى ودفن فى اليابان 1964.
 ولد بلايث فى إنجلترا، ودخل السجن فى أول شبابه عند بداية الحرب العالمية الأولى، حيث انضم إلى جماعات مقاومة الحرب. خرج بعد انتهاء الحرب وغادر إلى الهند حيث وقع مرة أخرى فى مشاكل مع قوى الاستعمار والشركة الشرقية، فغادر إلى كوريا التى كانت تحت الحكم اليابانى، ارتبط باللغة والفكر والديانات اليابانية والصينية وترك كوريا إلى اليابان:
 طلق زوجته الإنجليزية وتزوج يابانية وأنجب منها بنتين، عندما قامت الحرب العالمية الثانية اعتبر فى اليابان من الأعداء ووضع فى السجن طوال فترة الحرب.

 وهى الفترة التى بدأ فيها تجميع قصائد «الهايكو» وأنجز أهم عمل فى حياته.
 بعد انتهاء الحرب عمل مع القوات اليابانية والأمريكية كضابط اتصال فى مكتب القائد الأمريكى لإقرار وضع اليابان الجديد بعد الحرب، ويقال إنه اشترك فى كتابة البيان التاريخى الذى تخلى فيه الإمبراطور عن صفات القداسة وأعلن تحوله إلى ملك شرعى دستورى. وكتب كتباً عن الديانات الشرقية، جمع أشعار طوكيو الساخرة القديمة وقام بالتدريس فى عدد من الجامعات ودَّرس لولى العهد فى القصر الإمبراطورى.

 مات 1964، ودفن فى مقبرة يابانية جميلة.
الأجزاء الأربعة من عمله التاريخى الكبير أحدثت ثورة فى الشعر الأوروبى مازالت أمواجها تتردد حتى الآن فى أوساط شعراء التجديد والحداثة فى كل أرجاء العالم.
 وكان أول تأثير واضح له على جيل «البيت» أو جيل الغضب فى إنجلترا وأمريكا.
 وتأثر بعمله هذا كتّاب من أمثال جاك كرواك، وساليتجر فى أمريكا وغيرهما كثير على شاطئ الأطلنطى.
 وقامت مدارس تعرف بمدارس الهايكو المعاصر، أو شعر الصورة والومضة، وأسماء أخرى كثيرة.

من الطبيعى أن هناك ترجمات أخرى كثيرة سابقة ولاحقة لترجمة بدر الديب إلا أن القارئ يدرك فى المقدمة القصيرة النافذة التى قدم بها الترجمة لهذا الشكل الذى يبدو سهلا بسيطا أن وراء هذه البساطة فهما ودراسة متعمقة للروح وللفلسفات والديانات الشرقية.
 ترى الجهد المبذول فى اختيار اللفظ والإصرار على كشف ما وراء النص البسيط.
 يقول هناك مفاهيم شعبية شائعة وهناك مفاهيم فلسفية تقودك إلى معرفة ما يحيل إليه النص البسيط الواضح من روح الديانة البوذية وطريق الزن، يقول بدر الديب فى المقدمة:
 الجهل هو أكبر الشرور فى الكون أكبر حتى من الشر الأخلاقى.
البوذية تعطى كل الأشياء حتى التافهة منها قيمة. وهى بذلك تضع أساسا لديمقراطية روحية:
ألست أنت أكثر قيمة من كل العصافير؟.
لا: هكذا يجيبك شاعر الهايكو البوذى: باشو:
من الذى يستطيع أن يراها؟
من يستطيع أن يعرفها
هى ليست فيما هو قائم
وليست فيما هو غير قائم
هذا نور القانون
السموات وهى فى نجم الربيع
تظهر مع قمر الخريف
متى هى حقيقة؟ ومتى هى حلم؟
ثم يحاول أن يشرح معنى طريق الزن عن طريق هذا القصيد الباهر:
المرآة المكسورة لن تعكس مرة أخرى
الزهور الساقطة لن تصعد إلى الغصن مرة أخرى
عندما كانت الزهرر تسقط
أغلق الباب الكبير للمعبد وانصرف
بعد أن سقطت الزهور ظهر المعبد
من خلال الأغصان
الحياة مثل السيف الذى يجرح
لكن لا يمكن أن يجرح نفسه
الحياة مثل العين التى ترى
لكن لا يمكن أن ترى نفسها
كل إنسان تحت قدميه ما يكفى من أرض
لكى يمارس «الزن»
أنا جالس بهدوء ولا أصنع شيئا
جاء الربيع ونما العشب من تلقاء نفسه
يلخص الصعوبات التى تقوم حيال التلقى الكامل لقصائد «الهايكو» الكلاسيكية فيقول:
 التجربة الشخصية التى يمارسها القارئ مع الترجمة هى الوسيلة الوحيدة لفهم المعنى الحقيقى الذى يهرب من كل التعريفات والأوصاف.
 وكما يقول «بلايث» إن فهم وتذوق الهايكو أصعب من فهم أى شعور آخر رغم شكل السهولة الخادع.
 إن فهم هذه الأشعار يتطلب الاقتراب من فنون ترتيب الأزهار اليابانية، وتقديم الشاى.
 إنه يتطلب قدرة على نفى الذات، والوحدة، ونعمة الرضا والتقبل، والصمت، والاستغناء عن الكلمات، وإحياء التناقض، وروح الفكاهة، وأخيرا: البساطة، والحب، والشجاعة.
 نعم الشجاعة، التى هى فضيلة كل الفضائل، فهى تتضمن كل ما سبق من خصال وفضائل.
سأختم بـ4 قصائد اخترتها من (981) قصيدة هى قصائد الربيع والصيف:
الأغصان المقطوعة
رغم أنها قطعت للحريق
إلا أنها بدأت تزهر
أضواء الليل أطفئت
وصوت الماء
يحمل الرطوبة
ما أروعه!
هذا الذى لا يفكر
فى أن الحياة عابرة
عندما يرى البرق
أيها العندليب
سوف أسمع بقية الأغنية
فى أرض الموتى
كان هذا الكتاب الجميل واحدا من آخر هدايا بدر الديب للأدب والفكر العربى.
 أهم وصايا هذا المفكر الحر كانت هى إعمال العقل والروح بحرية خلال منهج مستقل، والخروج من الخضوع الخانع للمركزية الأوروبية إلى آفاق الفكر الحر.

كلاسيكيات الهايكو: جمع: هـ.ر بلايث.
 ترجمة وتقديم: بدر الديب.
 المجلس الأعلى للثقافة.

القاهرة 2006
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 19 يوليو 2014

الثلاثاء، 15 يوليو 2014

متصوف يُشعل النار في الجليد





سهى زكي

1 - عقل جميل
هل فكرت يوما أن تذهب لزيارة متصوف زاهد يسكن في حضن جبل ثلجي، وما أن تدخل مغارته الذي يظهر من شفافيتها، تجده جالسا بجلباب كتاني خفيف، بلحية بيضاء وشعر مصفف بعناية، يفرك يديه علي نيران أشعلها سحر طيبته داخل تلك المغارة ؟!

أنا فعلت، ذهبت لزيارة ذلك الزاهد، ربما لن يحب هو أن أسميه «زاهداً»، أو لن يحب آخرون تلك التسمية، لكن يحلو لي ككاتبة تأخذ منحى الروحانيات في كتابتها أن أسمي أحد رجال أحلامي الذي تمنيته بالمتصوف الزاهد، في الوقت الذي تكتظ به المكتبات بكتب لعشرات وعشرات من الكتاب الجدد، وتزدحم البرامج الثقافية بمن صنع منهم نجوما للكتابة، وتحظى صفحات الصحافة الأدبية الجديدة بباب جديد عليها وهي «الكتب الأعلى مبيعا « تلك الظاهرة التي بحمد لله أخفتها ثورتنا المجيدة، ووسط أجواء حفلات التوقيع وندوات النقاد اللطفاء، والتي بدت أحيانا وكأنها حفلات سبوع أو طهور أو خطوبة، وليست حفلات لتوقيع كتب وسط كل هذه الأجواء المغوية، يجلس هناك بعيدا في ضاحية المعادي الهادئة، قاص وروائي وصحافي مبدع، لا يهتم لكل الصخب الدائر في الخارج، ولا يبهره شيء سوى كلمات مبدعة تدفعه دفعا للكتابة عنها، أو نشرها، علاء الديب، الكاتب الذي تلبسته روح امرأة تائهة ومعذبة في «قمر علي مستنفع»، حتى أنني وأنا أقرأ الكتاب نسيت فعلا أن من كتبه رجل، وهو الذي يحكي عن أوجاع الثوار، وأمل الشباب في غد أفضل، وحلم الثوار الذي لا يموت منذ 52 وحتي الثمانينيات في «أوراق مثقف مصري»، والذي أتمنى أن يقرأه الكثيرون، ليعرفوا روعة الكتاب في تسجيل الواقع، وليتأكد البعض أنه مصروف لبعض الكتاب نصيب نبي، ففي كتاب وقفة فوق المنحدر «من أوراق مثقف مصري» نبؤة كاملة للواقع المصري الآن من خلال تأمل بطل الكتاب للواقع الذي تحياه مصر، لن تجد اي شيء مختلف عما تمر به مصر الآن .

2 - علاقة عاطفية
بدأت علاقتي به، كما بدأت مع كل مبدع تأثرت به كلما أعجبني إبداعه، وهي غالبا علاقة حب من طرف واحد، فأنا متلق ساذج لأي إبداع، فما أن أقرأ أو أستمع أو أشاهد عمل إبداعي رائع، تسري في جسدي قشعريرة كتلك التي تنتاب عاشق وقع في الحب من أول نظرة، وهذا ما حدث بيني وبين أعمال الكاتب الكبير علاء الديب، كانت بدايتي معه شأني شأن كثيرين من الكتاب والمبدعين من خلال بابه الأسبوعي «عصير الكتب» في مجلة صباح الخير والتي كان لها دور كبير بتعريفي بعشرات الكتاب من خلالها، فقد كنت أعرف أسم الكاتب ومضمون العمل من خلال تقديمة علاء الديب شديدة الدقة، وشرحه التفصيلي المحترم للعمل دون التأثير على شغف القارئ بأن يذهب لشراء الكتاب وقراءته، حلمت كثيرا بأن يكتب عني علاء الديب، ولكنه لم يحدث، ومن ثم ظللت أتابعه، وأهديه أي كتاب جديد يصدر لي، أرسله له في مكانه، سواء في صباح الخير أو مقر جريدة القاهرة، عندما انتقل بعدها ليصبح مشرفا على القسم الأدبي بها، إعجابي بعلاء الديب، تجاوز المدح في كاتب مميز ومهم من وجهة نظري الخاصة طبعا، لأن هناك الكثير من الكتاب يتعاملون مع فكرة الاعجاب المفرط بكاتب علي أنها شيء غير لطيف، لأن الإعجاب المفرط تأليه والتأليه مرفوض، ولا أعرف من أين أتى هؤلاء المعارضون بفكرة التأليه أساسا لمجرد أنك تمتدح كاتبا تحبه، أو رواية عشقتها، او أغنية تأسرك، أو مخرج يؤثر فيك، علاء الديب هو الكاتب الذي جعلني أعيد النظر في كل شيء حولي، هو الذي جعلني افكر في نفسي وسعادتها، حتى وأن تنازلت عن بعض الصخب المحبب إلي في كثير من الأحيان قابلت محمد حسين بكر على مقهي شيهان في احد مساءات يناير 2004، كان آت لتوه، كما ادعى وقتها، من زيارة لمنزل الكاتب الكبير علاء الديب، جلس بيننا انا وصديقتي سلوي عزب وصديقي الكاتب محمد رفيع وهو يقول بكل ثقة:
- انا كنت عند حبيبي
حبيبك مين يا بكر؟
علاء الديب
قلت له بذمتك، أنت كنت عنده فين؟ انا نفسي اشوفه اقابله، والنبي قول فين
في المعادي كنت بزوره أصله عيان قوي ومش بينزل، ده صاحبي جدا جدا.


واستمر محمد حسين بكر في سرد حواديت متصلة عن علاقته الوطيدة بعلاء الديب، وأنا في كل مرة يتكلم عنه، أطلب منه زيارته معه، فيتهرب من الطلب بكل الطرق، إلى أن مرض محمد بالمرض الخطير الذي أصابه، ولزم المستشفى لشهور طويلة، وفي زيارة للكاتب علاء الأسواني له، سمعته وهو يقول له: «على فكرة يا محمد الاستاذ بيسلم عليك»، فرد عليه وقال له «والنبي، طب قوله انه وحشني قوي»، هنا تبددت شكوكي، وتأكد لي أن محمد لم يكن يتهرب مني، وانه يعرف علاء الديب شخصيا فعلا، ولكن لم تتأت الفرصة لنزوره سويا، ولكن المفاجأة التي توقعتها وكذبتها، ثم ظهر صدق توقعي، أن بالفعل محمد حسين بكر لم ير علاء الديب أبدا في حياته قبل ذلك التاريخ، إنما هو كون معه علاقة روحية من خلال قراءته كتبه، وكذلك علاء الديب عرف محمد حسين بكر من خلال مراسلته الدائمة له في القاهرة، حتى انه حفظ خطه، حرص الكاتب الكبير علاء الديب على الاتصال يوميا بي للاطمئنان على حالة قلب محمد، وعلي، وكان هناك يوميا وعد بالزيارة، ومحمد يؤكد ان «اصل الاستاذ تعبان وانا عارف ياما زرته وشفت تعبه قد ايه»، ويصف لي البيت بدقة وانا انظر له نظرة بها شك بابتسامة وهو يقول لي «بكرا تشوفي» وهكذا، حتى فاض الشوق بمحمد حسين بكر وبي لزيارة الرجل، وبالفعل كانت الزيارة قبل موت محمد بأسبوع واحد فقط، تأنق، وحصلت له على إذن نزهة من مستشفى معهد ناصر، ونزلنا لزيارة الكاتب الملهم المحبب لقلبينا، أنا وهو واقعين في حب الرجل، ربما ما جمعني به من الأساس كان حبه الشديد لعلاء الديب، وصلنا لفيلا بسيطة ورقيقة في المعادي، استقبلتنا الاستاذة عصمت زوجته بابتسامة طيبة جدا وكذلك هو بالجلباب الذي فوقه روب صوف وعصاه الابنوس الجميلة، وما إن دخلنا، حتى سمعت علاء الديب يقول لمحمد: «وحشتيني يا محمد»، ومحمد يقول له «وحشتيني يا استاذنا»، وأنا في ذهولي، إذا، لم يكن يكذب علي، ولكن تدخل الاستاذة عصمت لتقول: «صحيح هما عمرهم ما اتقابلوا بس يعرفوا بعض كويس»، نظرت إلى حوائط البيت والمكتبة والمكان الجميل الذي يجلس فيه المتصوف الزاهد، لأجده كما وصفه لي محمد تماما، لدرجة انه وصف لي شكل الجهاز الذي يستمع منه للموسيقى، واللوحة المعلقة فوق مقعده، نظرت للاستاذ وسألته، كيف يصف محمد بيتك هكذا وهو لم يزرك ابدا من قبل؟ قال لي: «حمد ابني» نحن على اتصال منذ زمن، وليس باللقاء يحدث الوصل، لم اندهش، ثم اهدى محمد حسين بكر للكاتب علاء الديب، لوحة ثمينة، استطاع اقتناصها من ردهات المعهد، محمد الشقي، وعلاء الأب الطيب، مشهد مدهش، كان الرجل يطعم محمد في فمه فعلا، وهو يقول له: «كل يا محمد، انت ابني.. كنت واحشني جدا».
لم تكن الحميمية التي ابداها الكاتب الانسان الرائع علاء الديب مع محمد حسين بكر هي حميمية انسان مع مريض يشرف على الموت، ولكنها فعلا حميمية أب مع ابن مبدع، ثم أخرج ملفا كبيرا به كتابات محمد المرسلة إليه، غير المنشورة وقال له: «طبعا ما نشر لن تجده في الملف» ثم ملف آخر به قصائد شعر، وقال له: «ودي قصائدك.. مش برضه أنت اسمك دينا»، ضحك محمد وقال له: كيف عرفت أن القصائد لي؟ نظر إلى زوجته الاستاذة عصمت، فقالت له : «أحنا بنقرا الحاجات سوا يا محمد، وعرفنا احنا الاثنين ان ده شغلك، ثم اعطاه الملفين» وهو سعيد جدا، ان الاستاذ قدر يعرف اسلوب محمد وكانت زيارة شديدة التأثير في وفي محمد ولا اعرف كم تأثيرها في الأستاذ علاء الديب، ولكنه حزن بشدة بعد وفاة محمد، واتصل بي يسألني اذا ما كنت أحتاج لشيء لأي شيء، وبالفعل وقف بجانبي وساندني وهو لا يدري.



علاء الديب أعطاني أمان روحي لا يقدر بثمن، وأعطاني سكن وهدوء وراحة بال لا يوازيها في قيمتها كل الجوائز الأدبية في الكون كله، فذلك الرجل ساهم في ترقية ذائقتي الأدبية وأنا أخطو خطواتي الاولى نحو الكتابة، وساهم في تكوين ملامح أسلوبي الصحافي وأنا أعمل في الصحافة الأدبية، وساعدني علي الوقوف علي قدمي، وباتصالي الانساني والروحي به، أخذت قرارات اعتقدها مهمة في حياتي معها اشعر بالهدووووووء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة النهار بتاريخ 15 يوليو 2014

السبت، 12 يوليو 2014

.. وكاد قلبى يطير

نتيجة بحث الصور عن صورة الشيخ مصطفى اسماعيل


              

يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغنى الحميد.
 إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد. وما ذلك على الله بعزيز. «سورة فاطر آية 15».
سمعت هذه الآيات الكريمة، يصدح بها صوت الشيخ مصطفى إسماعيل فى تسجيل نادر أهداه لى صديقى الفنان الخطاط الراحل حامد العويضى.

 والتسجيل من حفل خارجى ويرجع إلى قمة ازدهار صوت الشيخ الجليل فى الخمسينيات والستينيات.
مازلت أذكر هذا اليوم كأنه حدث بالأمس كنت وحدى فى مكان بعيد، وملأت كلمات الكتاب كما رددها الصوت القادر الكامل الفضاء حولى واحتلت كل كيانى:
«خلت أن فؤادى قد انصدع، وكاد قلبى يطير».

هكذا قال أعرابى مشرك عندما سمع رسول الله يردد فى الغروب بعض آيات الكتاب لم أكن مشركاً، ولكننى أدركت يومها أن الشيخ مصطفى فى تجلياته يعطى المستمع كل ما فى الكتاب من إعجاز فى الكلمة والمعنى واكتمال الوجود.

 لفظه المكتمل المعبر لكل حرف أو مد، أو وقف يحمل كلمات الكتاب إلى روح وعقل المستمع فيجعله صامتاً سعيداً متصالحاً مع الوجود.
أخيراً عثرت على الكتاب الجميل الذى كتبه الشاعر والناقد كمال النجمى بعنوان: الشيخ مصطفى إسماعيل حياته فى ظل القرآن: وهو الكتاب الذى أعده مستعيناً بالمهندس ورجل الأعمال: عاطف إسماعيل ابن الشيخ الذى يعيش ويعمل فى ألمانيا.

 وقد قدم للأستاذ النجمى ما وجده من أوراق قليلة تروى حياة الشيخ فى سنواته الأولى.
 ثم تتبع الأستاذ النجمى بعد ذلك حياة الشيخ وأعماله بالدراسة الاجتماعية والفنية بالتحليل.

يقول كمال النجمى ويقول معه ابن الشيخ المهندس عاطف إسماعيل بعد إحصاء غريب لساعات القراءة التى صدح بها الشيخ طوال حياته: «17 يونيو 1905- 22 ديسمبر 1978»: الرقم الذى وصل إليه الإحصاء هو:
 53096 ساعة ثلاثة وخمسين ألفا لم يبق منها إلا ثلاثمائة فقط وغالبيتها من الحقبة الأخيرة من حياة «أصيب فى سنواته الأخيرة بارتفاع كبير فى ضغط الدم مما أثر إلى حد كبير على قدرات الصوت».

يقول: خسارة فادحة لحقتنا بفقد الشيخ والأفدح فقد كل التسجيلات المهمة تقريباً إلا أن ما بقى من هذه التسجيلات على فرط قلتها يدل على صاحبه كما يدل شعاع الشمس عليها وهى خافية وراء الغمام.
ولكن لنرجع إلى البداية:
قرية ميت غزال. مركز السنطة غربية 8 كيلو من العاصمة طنطا. عائلة «أبوإسماعيل» أكبر عائلات القرية.

 والجد الذى تربى مصطفى فى كنفه من كبار الملاك ولكنه بدد كل أطيانه على الكرم الذى اشتهر به فى كل المديرية «المحافظة» ولم يبق له إلا 12 فدانا وفرت للعائلة حياة أكثر من مرتاحة.
ذكاء ونبوغ مبكر جعل الجد يقرر أن مصطفى لن يعمل فلاحاً ووهبه للقرآن، «فى وجود الجد لا يكون للأب دور كبير فى القرارات المصيرية: الكلمة كلمة الأب الكبير».
استغرق مصطفى إسماعيل فى حفظ القرآن وتجويده ثمانى سنوات.
آخر المشايخ كان الشيخ أدريس فاخر: على يديه أتقن الشاب حفظ القرآن وتجويده بقراءاته السبع أو العشر.
قال الشيخ بعد أن أنهى اختباره:أشهد أنه عظيم.. وله مستقبل كبير.
 كان والدى يستمع إلى هذا الكلام فبكى من شدة فرحه.
فى طنطا فى رحاب السيد البدوى كانت البداية.
وانتشر اسم القارئ الجديد فى وجه بحرى والإسكندرية ومنطقة القناة حتى أنه قرأ فى المأتم الذى أقامته دمياط ورشيد عند وفاة سعد زغلول عام 1927.

فى القاهرة سمعه مصادفة الشيخ درويش الحريرى الملحن وعالم المقامات وأستاذ كبار المطربين والقراء، الذى سأله:
 كيف تعلمت كل هذه المقامات ومن علمك؟.. فقال:
 التقطت أذناى كل ما سمعته واستنبطت طريقتى فى الأداء بالفطرة فكانت أول شهادة من عالم كبير هى:
- أن فطرتك أقوى وأصح من كل الدراسات ولا يمكن لمعهد فنى بأكمله أن يصل إلى ما وصلت إليه فطرتك التى هى موهبة من الله تعالى.

ما هو إذن أسلوب الشيخ المميز فى القراءة.
 وكيف تميز حتى صار قارئ الملك فى ليالى رمضان فى عابدين ورأس التين ثم صار قارئ السورة فى الأزهر وصار أهم قارئ فى العالم الإسلامى بعد وفاة الشيخ محمد رفعت 1950
«الشيخ رفعت مدرسة أخرى تماماً: الخشوع والتقوى والحزن الشيخ رفعت رأى القرآن بقلبه
«فقد بصره وهو فى الخامسة وله مكان لا يتزعزع فى قلوب المصريين والمسلمين».

أسلوب مصطفى إسماعيل كما وصفه كمال النجمى ووافق عليه محمد عبدالوهاب ورتيبة الخفنى يتلخص فى الفقرة الطويلة التالية يجب أن يكون معروفاً أن ألحان قراءة القرآن هى ألحان مرسلة أى خالية من الإيقاع وعلم التجويد علم راسخ لم تمسه يد التغيير والتبديل، والتغنى بالقرآن وفقاً للمقامات اللحنية بلا إيقاع ولا آلات مع الحفاظ على النطق الصحيح طبقاً للأحكام الشرعية.
«لم يفهم علماء الحملة الفرنسية الفرق بين التجويد وبين الصلاة، ولم يستطيعوا كتابة نوتة موسيقية لتجويد قارئ يقرأ الفاتحة».

لمصطفى إسماعيل أسلوب خاص فى التعامل مع آذان المستمعين: يبدأ القراءة بصوت منخفض ويستمر كذلك يجرب صوته ويعلو به درجة واحدة ثم درجتين ثم ثلاث درجات على السلم الموسيقى يغزله مرة أخرى لدرجة القرار ثم يرتفع مرة أخرى حتى يصل إلى الدرجة الرابعة ليعود بعد ذلك إلى القرار:
يعرف من هذا الصعود والهبوط أمران:
 طبيعة صوته اليوم ونوعية المستمعين ثم يصنع هيكلاً أو إطاراً للقراءة، ويضع الأساس المقامى لهذا الهيكل.

 لهذا ظل طوال عمره لا يستطيع أن يوافق على مدة النصف ساعة المخصصة للقراءة فى الإذاعة.
 كان الشيخ يرى أن مقام «البياتى» هو أساس كل النغمات: بخلاف الرأى المعروف بأن مقام «الرست» هو الأساس.
 كان يقول:
 مقام «البياتى» هو جذع الشجرة، منه تتفرع كل المقامات.
 وكان يقول نصف ساعة فى الإذاعة ليست مصطفى إسماعيل. إننى محروم من حريتى، ومن روح القراءة التى هى المستمعون.
كان رحمه الله فناناً وإنساناً متواضعاً لم يدخل أبداً فى صراعات المهنة التى نرى أشكالاً منها وألواناً وقد مر هو بأهوال من الحاسدين والحاقدين والمنافسين الصغار غير الشرفاء.

كانت أمنيته أن يلقى ربه وهو يقرأ، وقد نال هذا تقريباً.
كان يقرأ فى دمياط وركب سيارته بعد التلاوة وطلب من السائق أن يقصد بيته فى الإسكندرية.
فى الطريق طلب ساندويتشات فول: أكلها مع سائقه، وصل بيته فى حى رشدى بالإسكندرية قال لخادمة البيت:
انظرى يا ابنتى ماذا برأسى!
 وسقطت يده كأن شيئاً قد انفجر فى الدماغ.
كم نحن فى حاجة الآن إلى صوت يوقظ روح الأمة.
رحم الله الشيخ مصطفى وأدام ذكراه علينا.

الشيخ مصطفى إسماعيل: حياته فى ظل القرآن.
 كمال النجمى. طبعة خاصة 1992.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 12 يوليو 2014

الأربعاء، 2 يوليو 2014

الخروج فى النهار





العثور على الشاعر «محمد رياض» وديوانه الصغير:
الخروج الى النهار، كان حدثا جميلا وممتعا فى أيامى المزدحمة الصاخبة المرتبكة هذه: كأنى عثرت
على مكان نظيف.. حسن الإضاءة كما يقول عنوان
«قصة هيمجواي».

الديوان عن ثورة مصر فى يناير 2011:
عن ايام الميدان خلال صفحات الديوان التى لاتتجاوز
 الـ 70 صفحة تعود إلى 18 يوما وما بعدها وقد تحولت الأحداث والصور والأفكار الى موسيقى جديدة جميلة وصادقة، أحيانا صاخبة صادمة ولكنها دائما موسيقي:
 تحمل الميدان الى الدنيا، وتحمل الدنيا الى الميدان والشوارع..
... ونمت على صخرة فى البراري

وكنت أعرف أين تختبيء الثعالب

ومتى تبيض الثعابين

لأسرق حلمها باتساع الشر

كنت ملاكا مشردا

أتغذى على التوت والجميز والخرافة

وأسبح حتى أذوب فى الماء والشمس.

كتب لى الشاعر محمد رياض يحدثنى فى كرم عن نفسه:
«الخروج الى النهار» (دار ميرت. القاهرة 2014) هو عملى الشعرى الأول والأخير حتى الآن.

قصائدى قبل الديوان أراها الآن كأنها اطفال ولدت دون افواه تعبر عن مشاعرها بقوة الصراخ، لكننى أعتقد أننى أمتلك تجربة مع الشعر استغرقت مساحة لابأس بها من سنوات عمرى الست والثلاثين.


ولدت فى «جمجرة القديمة» قرية تابعة لمركز بنها محافظة القليوبية، تخرجت فى قسم اللغة العربية بكلية التربية، وفى المدينة التى تبعد عن قريتى 5 كيلو مترات بدأت علاقتى بالشعر، كنت أيام الثانوى مولعا بأرثر رامبو: مغامرا وشاعرا، أتذكر قراءاتى وقتها: جبران، الأعمال المترجمة، أمل، وصلاح عبد الصبور، أحببت أعماله النثرية، ربما أكثر من شعره، عرفنى عبد الصبور فى مقالاته البديعة بأعظم كتاب العالم، هؤلاء الذين يتوجب على أن أقترب منهم بعناية واهتمام وثقة، وهكذا قرأت: شكسبير، وكازانزاكي، وتشيكوف، وديستوينسكي، وماياكوفسكي، وكل من استطعت أن أصل اليه من كتابه المفضلين، الآن أرى هذه السنوات المزدهرة بدهشة القراءة ومغامرة الحلم والاكتشاف أراها بعيدة بالفعل الآن أعمل «ديسكاويا» بجريدة «المصرى اليوم» المهنة التى أمارسها منذ 7 سنوات. الديسكاوى أحد المعذبين فى مهنة الصحافة، هو الذى يصوغ عناوين التقارير، ويضبط متن الأخبار، ويعدل فى بنائها ويضيف ويحذف ويوجه. هكذا أصبحت واحدا ممن صاغوا عناوين الثورة، أجمل الأحداث التى قد تعصف بشاب قضى كل سنوات عمره تقريبا تحت الحكم المباركي، وبعد مرور الحدث الرئيسي، اعتصام الـ 18 يوما بشهور، كنت أسجل فيما يشبه السرد الذاتي، تجربتى فى أثناء الثورة.


فى الجريدة وفى الميدان:
 لم أكن أدرك فى البداية أنه وقت الشعر وحده. مدفوعا بقوة غامضة كتبت «الخروج فى النهار» دفعة واحدة كأننى أستعرض شريطا سينمائيا، ما فعلته هو أننى كتبت ما رأيته بعينى فى المعارك والزحام، وقتها بدت كل سنوات الحكم المباركي، السنوات الرتيبة التى شهدت طفولتى وتاريخى وقصائدى كلها، بدت شائهة بلا قيمة.. الآن عثرت على صوتى الحقيقي، وأدخلتنى الثورة فى تجربة لا تخص أحدا غيري»


الخروج فى النهار هو اسم من أسماء كتاب الموتي، هو بعث الميت عند المصريين القدماء هو خروجه من الموت الى عالم النور والخلود. والديوان الصغير من قصيدتين: الشاعر ينتصر. والخروج فى النهار، من المهم أن نذكر الإهداء فهو يقول: الى اوفيليا وشهداء 25 و 28 يناير فى السويس والاسكندرية والقاهرة، وشهداء مواقع «الجمل» ، «محمد محمود» الأولى والثانية، ومجلس الوزراء» و«ماسبيرو» و «العباسية» و«بورسعيد» والاتحادية :


ليس فى الديوان بعد ذلك صوت عال او صراخ او شعارات. عن الثورة يقول: لست آخر الموتى فالجثة التى عبرت قبل قليل/ خارجة من الميدان الى سيارة الاسعاف/ جثتي/ والذين يموتون يوميا فى عنابر المصابين/ خرجوا جميعا من دمى الغريب/ لقد فقدت عشرات العيون فى المظاهرات/ وجسدى ترسانة متنقلة بآلاف الطلقات.


(الثوار باسمون/ دقونهم نابتة كأشواك القناف/ جذابون، وعاطفيون، ومتفائلون/ حقيقيون بصورة غريبة/ حتى على الخيال/ ويستقبلون الرصاص بالوسامة التى يلطخها العناد/.... سيملك كل منكم نجمة فى السماء/ تضيء من أجله فقط/ وقبرا فخما وسط الحدائق/ لكى لا يرى الآخرون هشاشته وانهياره/ إننى مؤهل فى هذه اللحظة/ لأن أكتب المستقبل/ أكتب الأولاد القادمين، والشوارع المفتوحة على اللانهاية/ والموسيقى التى تطل من جميع الشرفات/ والتماثيل التى تبتسم للعابرين/ وهى تشير بعلامة النصر. الديوان كما قال صاحبه، سيناريو متصل لايتوقف، مروى بضمير المتكلم: أنا الشعر الثائر العاشق الشهيد، المتراجع، المأزوم، المتردد الشجاع كرة من الحرير والمخالب هو الجموع والفرد. وعن النخبة يقول: نقامر على حياتنا بعلب السجائر/ نحن المزيفين/ مجتمع النخبة المثقفة/ ومنظرى الهلاك والانحلال/ لاتنظروا الينا كى لاتتشقق أرواحنا كالمنازل القديمة/ لاتقرأوا أشعارنا أبدا/ ولاتحكوا أى شيء عنا/ لاتكتبونا/ الكتابة بؤس هائل، والهتاف احتفال.


ليست المأساة أن نتألم للشهادة/ ونضع شريطا أسود فوق صورة الماضي/ ثم نبحر هادئين فى برودة الحزن/ المأساة أن دما علق فى وجوهنا/ مثل شارة الحداد/ وكل مياه العالم لن نمحو صورتنا فى المرايا/ لكنها ستجعل عارنا أكثر تألقا.


بعد الأهداء أضاف محمد رياض كلمة لـ «تشى جيفارا» تقول «دعنى أقل لك، مخاطرا أن أقع فى السخافة: أن الثورى الحقيقى تقوده مشاعر عميقة من الحب».


هل يجوز لى أن أقول فى النهاية: القصيدة والثورة فى هذه الصفحات شيء واحد. وأقول مع الشاعر لا الشعر ولا الثورة سينتهيان من العالم. سنجد طرقا جديدة للتعبير عن الأحداث والرغبات والمشاعر نفسها ستظل القصيدة سيدة حتى لو نكلنا جميعا بها، وشو هنا وجهها بالعابنا الشريرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 نشر فى الأهرام بتاريخ 2 يوليو 2014