السبت، 12 يوليو 2014

.. وكاد قلبى يطير

نتيجة بحث الصور عن صورة الشيخ مصطفى اسماعيل


              

يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغنى الحميد.
 إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد. وما ذلك على الله بعزيز. «سورة فاطر آية 15».
سمعت هذه الآيات الكريمة، يصدح بها صوت الشيخ مصطفى إسماعيل فى تسجيل نادر أهداه لى صديقى الفنان الخطاط الراحل حامد العويضى.

 والتسجيل من حفل خارجى ويرجع إلى قمة ازدهار صوت الشيخ الجليل فى الخمسينيات والستينيات.
مازلت أذكر هذا اليوم كأنه حدث بالأمس كنت وحدى فى مكان بعيد، وملأت كلمات الكتاب كما رددها الصوت القادر الكامل الفضاء حولى واحتلت كل كيانى:
«خلت أن فؤادى قد انصدع، وكاد قلبى يطير».

هكذا قال أعرابى مشرك عندما سمع رسول الله يردد فى الغروب بعض آيات الكتاب لم أكن مشركاً، ولكننى أدركت يومها أن الشيخ مصطفى فى تجلياته يعطى المستمع كل ما فى الكتاب من إعجاز فى الكلمة والمعنى واكتمال الوجود.

 لفظه المكتمل المعبر لكل حرف أو مد، أو وقف يحمل كلمات الكتاب إلى روح وعقل المستمع فيجعله صامتاً سعيداً متصالحاً مع الوجود.
أخيراً عثرت على الكتاب الجميل الذى كتبه الشاعر والناقد كمال النجمى بعنوان: الشيخ مصطفى إسماعيل حياته فى ظل القرآن: وهو الكتاب الذى أعده مستعيناً بالمهندس ورجل الأعمال: عاطف إسماعيل ابن الشيخ الذى يعيش ويعمل فى ألمانيا.

 وقد قدم للأستاذ النجمى ما وجده من أوراق قليلة تروى حياة الشيخ فى سنواته الأولى.
 ثم تتبع الأستاذ النجمى بعد ذلك حياة الشيخ وأعماله بالدراسة الاجتماعية والفنية بالتحليل.

يقول كمال النجمى ويقول معه ابن الشيخ المهندس عاطف إسماعيل بعد إحصاء غريب لساعات القراءة التى صدح بها الشيخ طوال حياته: «17 يونيو 1905- 22 ديسمبر 1978»: الرقم الذى وصل إليه الإحصاء هو:
 53096 ساعة ثلاثة وخمسين ألفا لم يبق منها إلا ثلاثمائة فقط وغالبيتها من الحقبة الأخيرة من حياة «أصيب فى سنواته الأخيرة بارتفاع كبير فى ضغط الدم مما أثر إلى حد كبير على قدرات الصوت».

يقول: خسارة فادحة لحقتنا بفقد الشيخ والأفدح فقد كل التسجيلات المهمة تقريباً إلا أن ما بقى من هذه التسجيلات على فرط قلتها يدل على صاحبه كما يدل شعاع الشمس عليها وهى خافية وراء الغمام.
ولكن لنرجع إلى البداية:
قرية ميت غزال. مركز السنطة غربية 8 كيلو من العاصمة طنطا. عائلة «أبوإسماعيل» أكبر عائلات القرية.

 والجد الذى تربى مصطفى فى كنفه من كبار الملاك ولكنه بدد كل أطيانه على الكرم الذى اشتهر به فى كل المديرية «المحافظة» ولم يبق له إلا 12 فدانا وفرت للعائلة حياة أكثر من مرتاحة.
ذكاء ونبوغ مبكر جعل الجد يقرر أن مصطفى لن يعمل فلاحاً ووهبه للقرآن، «فى وجود الجد لا يكون للأب دور كبير فى القرارات المصيرية: الكلمة كلمة الأب الكبير».
استغرق مصطفى إسماعيل فى حفظ القرآن وتجويده ثمانى سنوات.
آخر المشايخ كان الشيخ أدريس فاخر: على يديه أتقن الشاب حفظ القرآن وتجويده بقراءاته السبع أو العشر.
قال الشيخ بعد أن أنهى اختباره:أشهد أنه عظيم.. وله مستقبل كبير.
 كان والدى يستمع إلى هذا الكلام فبكى من شدة فرحه.
فى طنطا فى رحاب السيد البدوى كانت البداية.
وانتشر اسم القارئ الجديد فى وجه بحرى والإسكندرية ومنطقة القناة حتى أنه قرأ فى المأتم الذى أقامته دمياط ورشيد عند وفاة سعد زغلول عام 1927.

فى القاهرة سمعه مصادفة الشيخ درويش الحريرى الملحن وعالم المقامات وأستاذ كبار المطربين والقراء، الذى سأله:
 كيف تعلمت كل هذه المقامات ومن علمك؟.. فقال:
 التقطت أذناى كل ما سمعته واستنبطت طريقتى فى الأداء بالفطرة فكانت أول شهادة من عالم كبير هى:
- أن فطرتك أقوى وأصح من كل الدراسات ولا يمكن لمعهد فنى بأكمله أن يصل إلى ما وصلت إليه فطرتك التى هى موهبة من الله تعالى.

ما هو إذن أسلوب الشيخ المميز فى القراءة.
 وكيف تميز حتى صار قارئ الملك فى ليالى رمضان فى عابدين ورأس التين ثم صار قارئ السورة فى الأزهر وصار أهم قارئ فى العالم الإسلامى بعد وفاة الشيخ محمد رفعت 1950
«الشيخ رفعت مدرسة أخرى تماماً: الخشوع والتقوى والحزن الشيخ رفعت رأى القرآن بقلبه
«فقد بصره وهو فى الخامسة وله مكان لا يتزعزع فى قلوب المصريين والمسلمين».

أسلوب مصطفى إسماعيل كما وصفه كمال النجمى ووافق عليه محمد عبدالوهاب ورتيبة الخفنى يتلخص فى الفقرة الطويلة التالية يجب أن يكون معروفاً أن ألحان قراءة القرآن هى ألحان مرسلة أى خالية من الإيقاع وعلم التجويد علم راسخ لم تمسه يد التغيير والتبديل، والتغنى بالقرآن وفقاً للمقامات اللحنية بلا إيقاع ولا آلات مع الحفاظ على النطق الصحيح طبقاً للأحكام الشرعية.
«لم يفهم علماء الحملة الفرنسية الفرق بين التجويد وبين الصلاة، ولم يستطيعوا كتابة نوتة موسيقية لتجويد قارئ يقرأ الفاتحة».

لمصطفى إسماعيل أسلوب خاص فى التعامل مع آذان المستمعين: يبدأ القراءة بصوت منخفض ويستمر كذلك يجرب صوته ويعلو به درجة واحدة ثم درجتين ثم ثلاث درجات على السلم الموسيقى يغزله مرة أخرى لدرجة القرار ثم يرتفع مرة أخرى حتى يصل إلى الدرجة الرابعة ليعود بعد ذلك إلى القرار:
يعرف من هذا الصعود والهبوط أمران:
 طبيعة صوته اليوم ونوعية المستمعين ثم يصنع هيكلاً أو إطاراً للقراءة، ويضع الأساس المقامى لهذا الهيكل.

 لهذا ظل طوال عمره لا يستطيع أن يوافق على مدة النصف ساعة المخصصة للقراءة فى الإذاعة.
 كان الشيخ يرى أن مقام «البياتى» هو أساس كل النغمات: بخلاف الرأى المعروف بأن مقام «الرست» هو الأساس.
 كان يقول:
 مقام «البياتى» هو جذع الشجرة، منه تتفرع كل المقامات.
 وكان يقول نصف ساعة فى الإذاعة ليست مصطفى إسماعيل. إننى محروم من حريتى، ومن روح القراءة التى هى المستمعون.
كان رحمه الله فناناً وإنساناً متواضعاً لم يدخل أبداً فى صراعات المهنة التى نرى أشكالاً منها وألواناً وقد مر هو بأهوال من الحاسدين والحاقدين والمنافسين الصغار غير الشرفاء.

كانت أمنيته أن يلقى ربه وهو يقرأ، وقد نال هذا تقريباً.
كان يقرأ فى دمياط وركب سيارته بعد التلاوة وطلب من السائق أن يقصد بيته فى الإسكندرية.
فى الطريق طلب ساندويتشات فول: أكلها مع سائقه، وصل بيته فى حى رشدى بالإسكندرية قال لخادمة البيت:
انظرى يا ابنتى ماذا برأسى!
 وسقطت يده كأن شيئاً قد انفجر فى الدماغ.
كم نحن فى حاجة الآن إلى صوت يوقظ روح الأمة.
رحم الله الشيخ مصطفى وأدام ذكراه علينا.

الشيخ مصطفى إسماعيل: حياته فى ظل القرآن.
 كمال النجمى. طبعة خاصة 1992.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 12 يوليو 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق