الثلاثاء، 15 يوليو 2014

متصوف يُشعل النار في الجليد





سهى زكي

1 - عقل جميل
هل فكرت يوما أن تذهب لزيارة متصوف زاهد يسكن في حضن جبل ثلجي، وما أن تدخل مغارته الذي يظهر من شفافيتها، تجده جالسا بجلباب كتاني خفيف، بلحية بيضاء وشعر مصفف بعناية، يفرك يديه علي نيران أشعلها سحر طيبته داخل تلك المغارة ؟!

أنا فعلت، ذهبت لزيارة ذلك الزاهد، ربما لن يحب هو أن أسميه «زاهداً»، أو لن يحب آخرون تلك التسمية، لكن يحلو لي ككاتبة تأخذ منحى الروحانيات في كتابتها أن أسمي أحد رجال أحلامي الذي تمنيته بالمتصوف الزاهد، في الوقت الذي تكتظ به المكتبات بكتب لعشرات وعشرات من الكتاب الجدد، وتزدحم البرامج الثقافية بمن صنع منهم نجوما للكتابة، وتحظى صفحات الصحافة الأدبية الجديدة بباب جديد عليها وهي «الكتب الأعلى مبيعا « تلك الظاهرة التي بحمد لله أخفتها ثورتنا المجيدة، ووسط أجواء حفلات التوقيع وندوات النقاد اللطفاء، والتي بدت أحيانا وكأنها حفلات سبوع أو طهور أو خطوبة، وليست حفلات لتوقيع كتب وسط كل هذه الأجواء المغوية، يجلس هناك بعيدا في ضاحية المعادي الهادئة، قاص وروائي وصحافي مبدع، لا يهتم لكل الصخب الدائر في الخارج، ولا يبهره شيء سوى كلمات مبدعة تدفعه دفعا للكتابة عنها، أو نشرها، علاء الديب، الكاتب الذي تلبسته روح امرأة تائهة ومعذبة في «قمر علي مستنفع»، حتى أنني وأنا أقرأ الكتاب نسيت فعلا أن من كتبه رجل، وهو الذي يحكي عن أوجاع الثوار، وأمل الشباب في غد أفضل، وحلم الثوار الذي لا يموت منذ 52 وحتي الثمانينيات في «أوراق مثقف مصري»، والذي أتمنى أن يقرأه الكثيرون، ليعرفوا روعة الكتاب في تسجيل الواقع، وليتأكد البعض أنه مصروف لبعض الكتاب نصيب نبي، ففي كتاب وقفة فوق المنحدر «من أوراق مثقف مصري» نبؤة كاملة للواقع المصري الآن من خلال تأمل بطل الكتاب للواقع الذي تحياه مصر، لن تجد اي شيء مختلف عما تمر به مصر الآن .

2 - علاقة عاطفية
بدأت علاقتي به، كما بدأت مع كل مبدع تأثرت به كلما أعجبني إبداعه، وهي غالبا علاقة حب من طرف واحد، فأنا متلق ساذج لأي إبداع، فما أن أقرأ أو أستمع أو أشاهد عمل إبداعي رائع، تسري في جسدي قشعريرة كتلك التي تنتاب عاشق وقع في الحب من أول نظرة، وهذا ما حدث بيني وبين أعمال الكاتب الكبير علاء الديب، كانت بدايتي معه شأني شأن كثيرين من الكتاب والمبدعين من خلال بابه الأسبوعي «عصير الكتب» في مجلة صباح الخير والتي كان لها دور كبير بتعريفي بعشرات الكتاب من خلالها، فقد كنت أعرف أسم الكاتب ومضمون العمل من خلال تقديمة علاء الديب شديدة الدقة، وشرحه التفصيلي المحترم للعمل دون التأثير على شغف القارئ بأن يذهب لشراء الكتاب وقراءته، حلمت كثيرا بأن يكتب عني علاء الديب، ولكنه لم يحدث، ومن ثم ظللت أتابعه، وأهديه أي كتاب جديد يصدر لي، أرسله له في مكانه، سواء في صباح الخير أو مقر جريدة القاهرة، عندما انتقل بعدها ليصبح مشرفا على القسم الأدبي بها، إعجابي بعلاء الديب، تجاوز المدح في كاتب مميز ومهم من وجهة نظري الخاصة طبعا، لأن هناك الكثير من الكتاب يتعاملون مع فكرة الاعجاب المفرط بكاتب علي أنها شيء غير لطيف، لأن الإعجاب المفرط تأليه والتأليه مرفوض، ولا أعرف من أين أتى هؤلاء المعارضون بفكرة التأليه أساسا لمجرد أنك تمتدح كاتبا تحبه، أو رواية عشقتها، او أغنية تأسرك، أو مخرج يؤثر فيك، علاء الديب هو الكاتب الذي جعلني أعيد النظر في كل شيء حولي، هو الذي جعلني افكر في نفسي وسعادتها، حتى وأن تنازلت عن بعض الصخب المحبب إلي في كثير من الأحيان قابلت محمد حسين بكر على مقهي شيهان في احد مساءات يناير 2004، كان آت لتوه، كما ادعى وقتها، من زيارة لمنزل الكاتب الكبير علاء الديب، جلس بيننا انا وصديقتي سلوي عزب وصديقي الكاتب محمد رفيع وهو يقول بكل ثقة:
- انا كنت عند حبيبي
حبيبك مين يا بكر؟
علاء الديب
قلت له بذمتك، أنت كنت عنده فين؟ انا نفسي اشوفه اقابله، والنبي قول فين
في المعادي كنت بزوره أصله عيان قوي ومش بينزل، ده صاحبي جدا جدا.


واستمر محمد حسين بكر في سرد حواديت متصلة عن علاقته الوطيدة بعلاء الديب، وأنا في كل مرة يتكلم عنه، أطلب منه زيارته معه، فيتهرب من الطلب بكل الطرق، إلى أن مرض محمد بالمرض الخطير الذي أصابه، ولزم المستشفى لشهور طويلة، وفي زيارة للكاتب علاء الأسواني له، سمعته وهو يقول له: «على فكرة يا محمد الاستاذ بيسلم عليك»، فرد عليه وقال له «والنبي، طب قوله انه وحشني قوي»، هنا تبددت شكوكي، وتأكد لي أن محمد لم يكن يتهرب مني، وانه يعرف علاء الديب شخصيا فعلا، ولكن لم تتأت الفرصة لنزوره سويا، ولكن المفاجأة التي توقعتها وكذبتها، ثم ظهر صدق توقعي، أن بالفعل محمد حسين بكر لم ير علاء الديب أبدا في حياته قبل ذلك التاريخ، إنما هو كون معه علاقة روحية من خلال قراءته كتبه، وكذلك علاء الديب عرف محمد حسين بكر من خلال مراسلته الدائمة له في القاهرة، حتى انه حفظ خطه، حرص الكاتب الكبير علاء الديب على الاتصال يوميا بي للاطمئنان على حالة قلب محمد، وعلي، وكان هناك يوميا وعد بالزيارة، ومحمد يؤكد ان «اصل الاستاذ تعبان وانا عارف ياما زرته وشفت تعبه قد ايه»، ويصف لي البيت بدقة وانا انظر له نظرة بها شك بابتسامة وهو يقول لي «بكرا تشوفي» وهكذا، حتى فاض الشوق بمحمد حسين بكر وبي لزيارة الرجل، وبالفعل كانت الزيارة قبل موت محمد بأسبوع واحد فقط، تأنق، وحصلت له على إذن نزهة من مستشفى معهد ناصر، ونزلنا لزيارة الكاتب الملهم المحبب لقلبينا، أنا وهو واقعين في حب الرجل، ربما ما جمعني به من الأساس كان حبه الشديد لعلاء الديب، وصلنا لفيلا بسيطة ورقيقة في المعادي، استقبلتنا الاستاذة عصمت زوجته بابتسامة طيبة جدا وكذلك هو بالجلباب الذي فوقه روب صوف وعصاه الابنوس الجميلة، وما إن دخلنا، حتى سمعت علاء الديب يقول لمحمد: «وحشتيني يا محمد»، ومحمد يقول له «وحشتيني يا استاذنا»، وأنا في ذهولي، إذا، لم يكن يكذب علي، ولكن تدخل الاستاذة عصمت لتقول: «صحيح هما عمرهم ما اتقابلوا بس يعرفوا بعض كويس»، نظرت إلى حوائط البيت والمكتبة والمكان الجميل الذي يجلس فيه المتصوف الزاهد، لأجده كما وصفه لي محمد تماما، لدرجة انه وصف لي شكل الجهاز الذي يستمع منه للموسيقى، واللوحة المعلقة فوق مقعده، نظرت للاستاذ وسألته، كيف يصف محمد بيتك هكذا وهو لم يزرك ابدا من قبل؟ قال لي: «حمد ابني» نحن على اتصال منذ زمن، وليس باللقاء يحدث الوصل، لم اندهش، ثم اهدى محمد حسين بكر للكاتب علاء الديب، لوحة ثمينة، استطاع اقتناصها من ردهات المعهد، محمد الشقي، وعلاء الأب الطيب، مشهد مدهش، كان الرجل يطعم محمد في فمه فعلا، وهو يقول له: «كل يا محمد، انت ابني.. كنت واحشني جدا».
لم تكن الحميمية التي ابداها الكاتب الانسان الرائع علاء الديب مع محمد حسين بكر هي حميمية انسان مع مريض يشرف على الموت، ولكنها فعلا حميمية أب مع ابن مبدع، ثم أخرج ملفا كبيرا به كتابات محمد المرسلة إليه، غير المنشورة وقال له: «طبعا ما نشر لن تجده في الملف» ثم ملف آخر به قصائد شعر، وقال له: «ودي قصائدك.. مش برضه أنت اسمك دينا»، ضحك محمد وقال له: كيف عرفت أن القصائد لي؟ نظر إلى زوجته الاستاذة عصمت، فقالت له : «أحنا بنقرا الحاجات سوا يا محمد، وعرفنا احنا الاثنين ان ده شغلك، ثم اعطاه الملفين» وهو سعيد جدا، ان الاستاذ قدر يعرف اسلوب محمد وكانت زيارة شديدة التأثير في وفي محمد ولا اعرف كم تأثيرها في الأستاذ علاء الديب، ولكنه حزن بشدة بعد وفاة محمد، واتصل بي يسألني اذا ما كنت أحتاج لشيء لأي شيء، وبالفعل وقف بجانبي وساندني وهو لا يدري.



علاء الديب أعطاني أمان روحي لا يقدر بثمن، وأعطاني سكن وهدوء وراحة بال لا يوازيها في قيمتها كل الجوائز الأدبية في الكون كله، فذلك الرجل ساهم في ترقية ذائقتي الأدبية وأنا أخطو خطواتي الاولى نحو الكتابة، وساهم في تكوين ملامح أسلوبي الصحافي وأنا أعمل في الصحافة الأدبية، وساعدني علي الوقوف علي قدمي، وباتصالي الانساني والروحي به، أخذت قرارات اعتقدها مهمة في حياتي معها اشعر بالهدووووووء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة النهار بتاريخ 15 يوليو 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق