السبت، 19 يوليو 2014

أصبع يشير إلى القمر

                 
            

من آخر الهدايا التى تركها المفكر الحر بدر الديب قبل رحيله، الترجمة البديعة التى أنجزها لـ«كلاسيكيات الهايكو»، والتى صدرت فى مجلدين «الربيع والصيف» والثانى «الخريف والشتاء».
«الهايكو» شكل، أو نوع من قصيد الشعر اليابانى القصير جدا (ثلاثة أبيات، مقطعان إلى: 5 - 7 - 5 مقاطع صوتية) القصيد ومضة لا تثير جدلا أو أفكارا، لا تستعمل تشبيهات أو توريات، لوحة طبيعية صامتة، منظر، قد يثير تناقضا أو سخرية: «أصبع مفرد يشير إلى القمر»، يقسم «الهايكو» إلى فصول السنة الأربعة، التى تتمايز بوضوح فى الطبيعة اليابانية.

 وهو بالطبع شكل نابع ومرتبط بالديانات والفلسفات الشرقية: البوذية، والكونفوشسية والطاوية التى تعتمد طريق «الزن» أى التأمل والاستغراق المطلق فى سكون الوضع الجالس حتى يصل العقل إلى حالة الاستنارة، أو معاينة «البوذا» أو الحلول فيه.
«كلاسيكيات الهايكو» إشارات ضوء، نفحات بصرية وشعورية فى طريق تأمل الكون. ترجع القصائد الكلاسيكية إلى أربعة شعراء هم:
 باشو - وأسا - وبوسن - وآخرهم شيكى (1866 - 1902) وقد اعتمد باشو تصنيف القصائد إلى فصول السنة (1644 - 1694).

الذى قام بجمع هذه القصائد وإخراجها إلى العالم فى ترجمة إنجليزية العالم الباحث الإنجليزى: هـ. ر. بلايث الذى توفى ودفن فى اليابان 1964.
 ولد بلايث فى إنجلترا، ودخل السجن فى أول شبابه عند بداية الحرب العالمية الأولى، حيث انضم إلى جماعات مقاومة الحرب. خرج بعد انتهاء الحرب وغادر إلى الهند حيث وقع مرة أخرى فى مشاكل مع قوى الاستعمار والشركة الشرقية، فغادر إلى كوريا التى كانت تحت الحكم اليابانى، ارتبط باللغة والفكر والديانات اليابانية والصينية وترك كوريا إلى اليابان:
 طلق زوجته الإنجليزية وتزوج يابانية وأنجب منها بنتين، عندما قامت الحرب العالمية الثانية اعتبر فى اليابان من الأعداء ووضع فى السجن طوال فترة الحرب.

 وهى الفترة التى بدأ فيها تجميع قصائد «الهايكو» وأنجز أهم عمل فى حياته.
 بعد انتهاء الحرب عمل مع القوات اليابانية والأمريكية كضابط اتصال فى مكتب القائد الأمريكى لإقرار وضع اليابان الجديد بعد الحرب، ويقال إنه اشترك فى كتابة البيان التاريخى الذى تخلى فيه الإمبراطور عن صفات القداسة وأعلن تحوله إلى ملك شرعى دستورى. وكتب كتباً عن الديانات الشرقية، جمع أشعار طوكيو الساخرة القديمة وقام بالتدريس فى عدد من الجامعات ودَّرس لولى العهد فى القصر الإمبراطورى.

 مات 1964، ودفن فى مقبرة يابانية جميلة.
الأجزاء الأربعة من عمله التاريخى الكبير أحدثت ثورة فى الشعر الأوروبى مازالت أمواجها تتردد حتى الآن فى أوساط شعراء التجديد والحداثة فى كل أرجاء العالم.
 وكان أول تأثير واضح له على جيل «البيت» أو جيل الغضب فى إنجلترا وأمريكا.
 وتأثر بعمله هذا كتّاب من أمثال جاك كرواك، وساليتجر فى أمريكا وغيرهما كثير على شاطئ الأطلنطى.
 وقامت مدارس تعرف بمدارس الهايكو المعاصر، أو شعر الصورة والومضة، وأسماء أخرى كثيرة.

من الطبيعى أن هناك ترجمات أخرى كثيرة سابقة ولاحقة لترجمة بدر الديب إلا أن القارئ يدرك فى المقدمة القصيرة النافذة التى قدم بها الترجمة لهذا الشكل الذى يبدو سهلا بسيطا أن وراء هذه البساطة فهما ودراسة متعمقة للروح وللفلسفات والديانات الشرقية.
 ترى الجهد المبذول فى اختيار اللفظ والإصرار على كشف ما وراء النص البسيط.
 يقول هناك مفاهيم شعبية شائعة وهناك مفاهيم فلسفية تقودك إلى معرفة ما يحيل إليه النص البسيط الواضح من روح الديانة البوذية وطريق الزن، يقول بدر الديب فى المقدمة:
 الجهل هو أكبر الشرور فى الكون أكبر حتى من الشر الأخلاقى.
البوذية تعطى كل الأشياء حتى التافهة منها قيمة. وهى بذلك تضع أساسا لديمقراطية روحية:
ألست أنت أكثر قيمة من كل العصافير؟.
لا: هكذا يجيبك شاعر الهايكو البوذى: باشو:
من الذى يستطيع أن يراها؟
من يستطيع أن يعرفها
هى ليست فيما هو قائم
وليست فيما هو غير قائم
هذا نور القانون
السموات وهى فى نجم الربيع
تظهر مع قمر الخريف
متى هى حقيقة؟ ومتى هى حلم؟
ثم يحاول أن يشرح معنى طريق الزن عن طريق هذا القصيد الباهر:
المرآة المكسورة لن تعكس مرة أخرى
الزهور الساقطة لن تصعد إلى الغصن مرة أخرى
عندما كانت الزهرر تسقط
أغلق الباب الكبير للمعبد وانصرف
بعد أن سقطت الزهور ظهر المعبد
من خلال الأغصان
الحياة مثل السيف الذى يجرح
لكن لا يمكن أن يجرح نفسه
الحياة مثل العين التى ترى
لكن لا يمكن أن ترى نفسها
كل إنسان تحت قدميه ما يكفى من أرض
لكى يمارس «الزن»
أنا جالس بهدوء ولا أصنع شيئا
جاء الربيع ونما العشب من تلقاء نفسه
يلخص الصعوبات التى تقوم حيال التلقى الكامل لقصائد «الهايكو» الكلاسيكية فيقول:
 التجربة الشخصية التى يمارسها القارئ مع الترجمة هى الوسيلة الوحيدة لفهم المعنى الحقيقى الذى يهرب من كل التعريفات والأوصاف.
 وكما يقول «بلايث» إن فهم وتذوق الهايكو أصعب من فهم أى شعور آخر رغم شكل السهولة الخادع.
 إن فهم هذه الأشعار يتطلب الاقتراب من فنون ترتيب الأزهار اليابانية، وتقديم الشاى.
 إنه يتطلب قدرة على نفى الذات، والوحدة، ونعمة الرضا والتقبل، والصمت، والاستغناء عن الكلمات، وإحياء التناقض، وروح الفكاهة، وأخيرا: البساطة، والحب، والشجاعة.
 نعم الشجاعة، التى هى فضيلة كل الفضائل، فهى تتضمن كل ما سبق من خصال وفضائل.
سأختم بـ4 قصائد اخترتها من (981) قصيدة هى قصائد الربيع والصيف:
الأغصان المقطوعة
رغم أنها قطعت للحريق
إلا أنها بدأت تزهر
أضواء الليل أطفئت
وصوت الماء
يحمل الرطوبة
ما أروعه!
هذا الذى لا يفكر
فى أن الحياة عابرة
عندما يرى البرق
أيها العندليب
سوف أسمع بقية الأغنية
فى أرض الموتى
كان هذا الكتاب الجميل واحدا من آخر هدايا بدر الديب للأدب والفكر العربى.
 أهم وصايا هذا المفكر الحر كانت هى إعمال العقل والروح بحرية خلال منهج مستقل، والخروج من الخضوع الخانع للمركزية الأوروبية إلى آفاق الفكر الحر.

كلاسيكيات الهايكو: جمع: هـ.ر بلايث.
 ترجمة وتقديم: بدر الديب.
 المجلس الأعلى للثقافة.

القاهرة 2006
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 19 يوليو 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق