الأربعاء، 17 ديسمبر 2014

«ذاكرة ودهشة: من أرض النعام»





تحمل التفاصيل الصغيرة عندما توضع على الورق حية وطبيعية وغير متكلفة: قدرة غريبة على صناعة أثر فى النفس عميق وباق (الشيطان فى التفاصيل.. أو الملائكة).


«حاجات صغيرة قوى» كتاب عصام اللباد الثالث الذى صدر هذا العام عن دار ميريت للنشر كتاب يشغى بالحياة والحركة، وكأنك أمسكت بخلية نحل يتحرك صانعا رحيقا فيه شفاء للناس.


يقول عنه صاحبه إنه حكاوى بالعامية (72 حاجة صغيرة) يهديه إلى »روحه« وتوأم روحه »بنت أخته« التى شاركته طفولته فى أرض النعام.
هو يقدم (تاريخ شفاهى) لأرض النعام
(1ـ الطفولة: 5591 ـ 7691) لكن بعد أن تعيد قراءة الكتاب (511 صفحة) وتتوقف عند قطع أو صفحات منه تسمع صوتا بعيدا يوقظ العقل والقلب ويحرك المشاعر يحكى لك أنت ـ بشكل شخصى ـ فى همس سمر الأحبة أو الأصدقاء عن نفسه، حتى طفولته عن »أرض النعام« ذلك الحى الذى يجعل منه عينه ممثلة لما طرأ على القاهرة ـ بل على مصر ـ من تغيرات قاسية وعشوائية وغير إنسانية.



الكتاب كما يقول صاحبه عصام اللباد الطبيب النفسى الذى يعيش ويعمل فى الولايات المتحدة منذ سنوات ويعود إلى قاهرته كثيرا كأنه لا يستطيع أن يقاوم مغناطيسا قويا:
 يجول فى الشوارع ويبحث عن الأصدقاء ويندهش فى كل مرة، غرابة وقسوة وعشوائية التغيرات فيسارع بالعودة لكى يبقى وقتا طال أو قصر، وتجذبه نفس القوة ونفس الدهشة ونفس الحنين.



يقول عصام عن كتابه:
رحلة سلسلة تبحث عن ذاكرة مكان وجماعة، جزء أوشك أن ينسى أو يخفت ضيه وسط نوع جديد من أضواء القاهرة الآن (أضواء فقط أم صخب وحيرة وقسوة وارتباك: الأقواس من عندى).
 الحكاوى القصيرة فى أغلبها نشرت فى »الفيسبوك« وهو فى الغربة الباردة البعيدة بحثا عن دفء بيت الطفولة وحميمية الشارع والحارة والشلة والمقهى والجيران والأصدقاء.
حيرنى اسم هذه الحاجات. لا أحب كلمة »نص« وأراه مفتعلا ولا يقول شيئا.


وهى ليست قصصا قصيرة أو قصيرة جدا لأن كل منهما شكل فنى يحتاج إلى بناء واستيفاء شروط ومواصفات، كما لا يخفى على الطبيب المثقف لا أدرى أن الجيل الحالى مازال يذكر تعبير »الأوتشرك« الذى نقله فى الأدب الروسى أستاذنا الدكتور مندور، وأطلقه على الكتابة التى تقف على الحدود بين الصورة والقصة والاسكتش والمقال القصير ليس الاسم مهما على أية حال مادمت أمام كتابة حية حاملة للمعنى والشعور مثيرة للفكر والعاطفة.



القطع القصيرة، الجرنال، الجرنال 2 ـ الخروجة »حاجات صغيرة قوى« فيها كتابة محكمة إن الدقة والاحتراف.
أقرأ مثلا »الجرنال«.
»كنت وأنا صغير ـ باحب أبويا قوى كان بيصحى بدرى قوي، وأنا كمان
كنت أقعد قصاده على الكرسى، وهو على الكنبة البلدى فى الصالة عايز أعمله حاجة تفرحه
الحاجة الوحيدة اللى كنت أعرف أعملها له أنى كل شوية أتسلل للبلكونة أشوف الراجل حدف جرنال الأهرام ولا لسه.
كل شوية أتسلل، وفاكر إنه مش واخد باله من تسللى.
لما أرجع بالجرنال فرحان له، يأخده منى بفرحة، غالبا معمولة عشانى، عشان أفرح بفرحته.


دقة التعبير، والوصف والمشاهدة والاقتصاد فى الكلمات تجعل من القطعة فنا، كاشفا دون تفاصيل فى البيت والشخصيات، خاصة إذا أضفت لها القطعة (التالية جرنال 2) ترى رؤى العين الأب المحب الفنان ، والابن الرفيق الطيب
(كلمة طيب كلمة تتردد فى كل القطع مفتاح لفهم الكاتب، وروح المكان).
هناك عرق فنى صافى يسرى فى البيت والمكان، الأب أستاذ شريعة فى الأزهر ولكنه جميل الحظ والسلوك أنيق الملبس والتعامل والصوت.. تكاد تراه يحلق بالروح فى البيت ويشرح بفنية علاقات الناس فى الشارع. عندما كان الناس.. ناسا. هل تعرف كيف صارت أرض النعام الآن؟
وماذا فعل بها أدعياء الدين وسلفيو الفكر أجرامى والسلوك والأخلاق.
 هذا موضوع آخر، تجنب الطبيب النفسانى التحدث فيه بشكل مباشر، ولكنه استحضره وتناوله فى كل سطر من سطور كتابه. 


(صاحب السعادة بدر كاوتش) قصة قصيرة بامتياز عن صديق طفولة متمرد حر، رفض أى قوالب للحياة، وعاش سعيدا، يلعب بالكاوتش ويصلحه لما كبر ورفض التعليم والطريق المرسوم الغارق بالشقاء والخضوع والطموح، أصبح أفراد الشلة أطباء، ومهندسين، ناجحين بالمقاييس الاجتماعية أما هو فقد فتح دكان تصليح كاوتش:
 كلنا غالبا فشلنا فى أننا نكون سعدا، وراضيين فى معظم جوانب حياتنا.
 أما هو: فإن محله لتصليح الكاوتش »دائما زحمة« وحى ناس قاعدة على كراس أو براميل، أو فردتين كاوتش بيتكلموا ويضحكوا: وياخذوا من خير وجودة .


هذه الجملة الاخيرة أثارت عندى ملاحظة أخيرة لماذا العامية هنا؟
تاريخ الكتابة: خلال الخمسين عاما الماضية، وصلت بعد معارك ونقاشات طويلة إلى عربية سهلة معبرة مكتوبة ومنطوقة وبسهولة. لم أر أن تعمد العامية قد أضاف إلى رصيد الفن الكبير الذى حمله هذا الكتاب الصغير.. إن لم يكن قد سحب منه.


عرفنى عصام اللباد على عدد من الأصدقاء عم أشرف وبائع البلح الحيانى الضرير، وسعدية، كلهم صاروا أصدقاء.
لا حرمنا الله من غير وجودهم وأكثر من أمثاله وأمثالهم. ووقانا شر شياطين النعام الجدد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 نشر الأهرام بتاريخ 17 ديسمبر 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق