السبت، 6 ديسمبر 2014

.. والآن أتكلم.. مرة أخرى!

             
              

«بيت شرقى ساحر، فسقية فى منتصف الحديقة الواسعة المليئة بالأشجار والورود والتمرحنة، لم يكن بيتاً عادياً، إنه (تكية) السادة النقشبندية»، هنا قبر الجد الأكبر لأمى الشيخ الخليفة«محمد عاشق» هنا أيضاً مسجده، ودراويش الطريقة النقشبندية يشغلون الدور الأول من التكية، وأنا ووالدتى وجدى الشيخ عثمان خالد، شيخ الطريقة وناظر الوقف، نشغل الدور الثانى.

باسم جدى لأمى سميت، وفى رحاب التكية عشت طفولتى، ألهو فى حديقتها البديعة، وأستمتع بعبق حياة دينية سمحة وهادئة، المسجد يعلو فيه الأذان - كل يوم خمس مرات - ودراويش التكية ونحن معهم نصلى، أنا أذهب إلى المدرسة، وجدى يشرف على شؤون الدائرة فى الغرفة المسماة بالديوان، والدراويش يحيون حياة تعبد تثير الاهتمام، بل لعلها هى التى ألهمتنى وحتى الآن هذا الإحساس الرفيع بالتدين السمح المتفانى فى حب البشر.


ذهنى أفندى، أيوب أفندى، عثمان أفندى.. أسماء لا يمكنها أن تبتعد عن ذاكرتى، كذلك صورتهم فى «جلاليب» بيضاء، وحياة تستمتع بثلاثة أشياء جميلة: تعبد، وقراءة، وخدمة الناس».


... هكذا أراد الرجل صاحب قلادة النيل ووسام لينين للسلام الصاغ الأحمر، وزعيم حزب التجمع اليسارى، وصاحب التاريخ النبيل فى 52 و54 و56 خالد محيى الدين «مواليد 1922»، هكذا أراد الرجل الصادق المصرى الشجاع أن يقدم نفسه للقارئ الذى انتظر سنوات طويلة، لكى يسمع هذا الرجل يتكلم عن: يوليو. وعن أزمة الديمقراطية فى مارس 54، وعن صديقه الحبيب الذى اختلف معه، إلى حد القطيعة والنفى، ولكنه لم يكذب أبداً عنه أو عليه: تاج الطبقة الوسطى المصرية، وزهرة يوليو الخالدة: جمال عبدالناصر.


كتاب «والآن أتكلم» لخالد محيى الدين، الذى صدرت طبعته الأولى عن مؤسسة الأهرام عام 1992، كتاب مشحون بالصدق والوطنية.. رغم كل الحرص والدقة والحساسية، التى يتناول بها الناس والأحداث، أساس الكتاب «كراسة زرقاء» سجل فيها خالد محيى الدين أفكاره وذكرياته عن العواصف التى أدت إلى إبعاده إلى سويسرا لكى يهدأ جو الجيش والشعب الغاضب بعد مارس، وإبعاد محمد نجيب، حتى يستطيع ناصر ورجاله الجدد ترتيب البيت من الداخل، دون شوشرة سياسية، كان خالد يثيرها مطالباً بأن تسير الثورة فى مسار داخل إطار ديمقراطى، بينما ناصر كان قد وصل إلى مرحلة اقتنع فيها بـإما.. أو.. إما ثورة وإنجاز أو ديمقراطية تربك الخيوط وتختلط فيها القوى الجديدة بالقديمة.


صور قلب الكتاب - الذى ساعد رفعت السعيد فى صياغته وترتيبه - قلب الكتاب أعطى صورة نادرة لنمو وحش السلطة الذى تتوارى إلى جواره المبادئ والقيم، أو ترتدى ثياباً تلائم النبات المتوحش الذى ينمو - السلطة - دافعاً كل شىء غيره إلى مكان خلفى أو جانبى أو تال فى الأهمية، تأخذ السلطة لنفسها ما تشاء من أسماء:
 الوطنية، الدولة، الاستقرار، الإنجاز، دون أن توجد طريقة لكى يشترك الناس فى عمل خاص وعام، شخصى واجتماعى، ستظل السلطة هى السلطة.. نفس السلطة القديمة القديمة، والتى كانت تجمع الفلاحين للحرب فى الجيوش التى تحارب حروباً، خاصة بها فى البعيد. استطاع الكتاب عن طريق التجرد والصدق أن يرسم صورة واقعية لتأسيس سلطة يوليو فى غياب أى اشتراك سياسى من بقايا أحزاب الوفد أو غيره، وفى تخاذل دور أساطين القانون والدستور وتسارعهم فى تلبية ما يطلب منهم أو المبادرة بتقديم تبرير أو حلول، ساد أفق الوطن كله تأييد جارف ومحبة ملتبسة لزعيم خرج للناس مجسداً أحلاماً قديمة، ورغبات دفينة فى عدل ورخاء مادتهما هلامية، أمام واقع قاس غليظ خشن، تؤكد سطور الكتاب خاصة فى قلبه - أزمة الحكم والديمقراطية - الفارق الجوهرى بين التأييد والمحبة والحشد الجماهيرى - وبين اشتراك الناس فى العمل وفى صناعة مستقبل بلادهم، كما يرسم بألوان زاعقة فجاجة وخطورة الدور الذى يمكن أن تلعبه ماكينة الإعلام إذا أدارتها يد ذات أغراض خاصة، أو جاهلة، أو منافقة، لأن خالد كان قريباً وصادقاً ومحترماً من الزعيم ناصر فقد خرج من معركة مارس دون جراح قاتلة، وسافر إلى سويسرا لكى يعود بعد قليل إلى بيت قد أحسن تربية وتوزيع الأثاث والأدوار فيه، بل لكى يصدر خالد محيى الدين أول جريدة يسارية تابعة للدولة وهى «المساء»، لماذا المساء؟!

 لكى تقل إلى حد ما من قدرتها على التوزيع والتأثير!
كانت السلطة قد نضجت وبدأت تتصرف بأعصاب هادئة وبخطة محسوبة.


الفارس النبيل دخل خلال رحلة حياته من تكية الدراويش التى تعلم فيها محبة الناس، وتقديم الخدمة لهم فى رضا وسعادة صوفية، إلى كهف الإخوان المسلمين بحثاً عن طريق، فى عالم توحشت فيه المصالح الخاصة، وكان قد أقام فى التكية لكى يبتعد عن بيت العائلة الذى كان مشغولاً بالأطيان والمال والقطن، فى كهف الإخوان أقسم مع عبدالناصر يميناً على المصحف والمسدس فى غرفة مظلمة، وعندما خرج إلى النور تبدد الحلم والقسم وعاد إلى صراع المصالح المنفر، كما قاده بحثه إلى منظمة «إيسكرا»، أولى المنظمات الشيوعية فى مصر، ولم يبق إلا شهوراً ونفر من سيطرة الأخطبوط مسيطر غامض يدعى «الصحن» يريد أن يدير المنظمة لحسابه، ثم ارتبط لفترة بـ«حدتو» «الحركة الوطنية للتحرر الوطنى»، حيث تتلمذ لفترة على يد السكرتير العام «سيد سليمان الرفاعى» الذى كان يعمل ميكانيكياً فنياً فى سلاح الطيران، وظل ناصر يذكره فى النقاش بأن أستاذه كان مجرد ميكانيكى، فى حين أن علاقته بهذا التنظيم وهذا الرجل قد زرعت فيه، كما زرعت الصوفية، فهما إنسانياً حقيقياً للاشتراكية، غير تلك الشعارات المتكلسة، التى تشققت وسقطت مع الأيام، ولم يبق إلا السعادة الحقة والرضا والرغبة فى خدمة الآخر، ومعنى متجدد كينبوع الماء: للتضحية من أجل الإنسان.


أزمة 4 فبراير، وحصار الإنجليز لقصر عابدين، وضياع الدور الوطنى لحزب الوفد، توحش وعنف الإخوان وانكشاف تحالفاتهم السرية مع السراى والإنجليز، وقبول الشيوعيين لقرار تقسيم فلسطين، كلها جراح قديمة أثخنت جسد الفارس الوطنى، حتى كانت أزمة مارس ودخل فى صراع مع الصديق، والذين صنعوا معاً يوليو واضعين حياتهم على أكفهم من أجل مصر.. يقف الكتاب فجأة ويتركنا فى بحار عاتية عالية.


ولكنه يقول أشياء كثيرة غير صورة البطل الصادق المتجرد النبيل الذى تراه من بين السطور: يقول الكتاب للمرة المائة إن التاريخ الذى يدرس للتلاميذ فى المدارس ويشاع ليس حياً ولا موحياً ولا محركاً لمشاعر إنسانية، يلفت الكتاب النظر إلى ضرورة إعادة تقييم دور وشخصية: محمد نجيب، ويوسف صديق، وإلى ضرورة إعادة فهم وتقييم دور الأحزاب السياسية من مختلف الاتجاهات، من الوفد إلى الشيوعيين إلى الإخوان، وإعادة تقييم دور النخب المثقفة وتخليهم عن لعب دورهم القائد والكاشف.


بعد عودته من جنيف اتصل بخالد محيى الدين شخص كان وثيق الصلة بمصطفى أمين، وقال له إن عبدالناصر مرتاح جداً لمقابلتى معه وقال:
 أنا كنت عايز أعرف إذا كان خالد لسه زعلان منى ولا لأ، لكنى وجدت قلبه صافياً، أدركت مغزى الرسالة وقلت لزوجتى سنعود إلى مصر نهائياً!

نحن أمام كتاب سياسى ورواية فنية تصور يوليو من الداخل وتقدم لنا قطعة عزيزة صافية من.. مصر.


... والآن أتكلم. خالد محيى الدين. الطبعة 3
- مكتبة الأسرة - هيئة الكتاب 2014
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر في جريدة المصري اليوم بتاريخ 6 ديسمبر 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق