السبت، 20 سبتمبر 2014

التعذيب: الميراث الملعون

                   
                

تركنى كتاب «ذاكرة القهر» مع عدد من الأسئلة الثقيلة على الروح والعقل:
 أبسطها وأكثرها ثقلاً على القلب لماذايتحول الإنسان إلى كائن بشع، يمارس تعذيب إنسان مثله حتى يقترب من الموت فيتركه.. ليعود مرة أخرى ليكرر التعذيب نفسه مرة أخرى، ويستمر هذا الطقس الملعون مرة ومرات: ويطلق عليه «الحفلة» أو الاستقبال.

تقول مؤلفة الكتاب: بسمة عبدالعزيز «طبيبة نفسية، كاتبة وفنانة تشكيلية، ووجه حاضر فى الحياة العامة، السياسية، والحقوقية منذ ثورة 25 يناير وما قبلها».

 تقول فى الصفحات الأولى:
«بعيداً عن الغرائز الأولية التى جمعت منذ قديم الأزل بنى البشر والحيوان، هناك من السلوكيات والأفعال ما يقتصر ممارسته على الإنسان وحده:
 لا يكذب الحيوان مثلاً ولا يغش ولا ينافق، ولكن البشر يفعلون لا يقتتل الحيوان مع آخر عن رغبة خالصة فى الإيذاء، لكن البشر أحياناً يفعلون، لا يحتجز الكلب كلباً ويعذبه ولا يفعل الذئب أو الفهد هذا، كما لا تفعله الحشرات ولا الطيور. لكن بعض الأشخاص يعذبون أشخاصاً مثلهم متعمدين.

 هكذا يمكننا أن نرى بوضوح أن التعذيب- أحد أعنف السلوكيات وأقصاها دونية وعدواناً- فعل يتفرد به البشر تماماً، ولا يرى ما يتشابه معه من قريب أو بعيد لدى الكائنات الأخرى، هذا السلوك البشرى الخالص الذى يمارس على نطاق واسع منظم فتتبناه مجتمعات متقدمة متحضرة، وأخرى نامية متأخرة، والذى يترك فى ضحاياه آثاراً لا تنمحى بمرور الزمن، لهو بالفعل سلوك يستحق التوقف عنده ودراسته قبيل الإجابة عن السؤال المطروح:
 «ترى لماذا وكيف يفعل أى شخص بآخر مثل هذا الأمر المريع».
ثم يقدم الكتاب صفحات تفصيلية عن التاريخ البشع للظاهرة، فى العالم القديم حيث السحر والخرافة، ثم ينتقل مع الإنسان عبر تطوره مع مختلف الديانات، سماوية أو أرضية، لينتقل مع الأفكار والمبادئ: شرقية أو غربية، من سيبيريا وموسكو، إلى واشنطن وجوانتانامو، من أبوغريب إلى داعش ودمشق إلى العقرب والواحات قبل وبعد الربيع.

 ويسكن فى الصين وعند الخمير الحمر.
 يخترق التعذيب الفكر والعقل والدين وتتطور وسائله مع العولمة والتكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة!
تلك الصفحات المكتوبة بخبرة طبيب ممارس عايش الحالات الفردية ودرسها وتعامل معها.
 رسم صور الضحية والجلاد.

 فى مراكز التأهيل والدفاع «مركز النديم وغيره» وفى المصحات والمستشفيات العصبية حيث عملت مع ضحايا التعذيب والاضطهاد.


التاريخ القديم والحديث- هنا وفى أماكن ممتدة عبر خريطة العالم المتمدن- وضعت أمام ناظرى القارئ مرآة:
 من له عينان للنظر فلينظر!
ليس مجرد حالات فردية فتاريخ ما حدث لظاهرة التعذيب بشع: ولكن بالنظر إلى المجتمع الإنسانى ككل، إلى الحكومات التى تدعى الديمقراطية، وتفاخر بحقوق الإنسان والحريات والعدل والحقوق الدستورية.

تحت البدلة الأنيقة والثياب الغالية:
 جسد بشع شديد الكذب والقذارة!
تقول الكاتبة:
«رغم القوة والشراسة والجموح، رغم جروح وأوجاع البدن، احتفظ بعض من عاشوا ويلات التجربة بصفاء أرواحهم وصلابتها، تمكنوا من النجاة ومواصلة الحياة، وأحياناً المعركة. آثر آخرون الانسحاب وأغلقوا من حولهم الأبواب كلها.
 محاولين رأب الصدوع التى أصابتهم وزلزلت حيواتهم، وأحالت عالمهم المتماسك إلى أنقاض».

هذا عن الضحية فماذا عن الجلاد؟!
 من هو الجلاد:
 المعذب المباشر الذى يمسك الكرباج وجهاز الكهرباء أم الرئيس المباشر الذى يصدر الأمر، ويشرب القهوة فى المكتب:
أم أن المسؤول هو رأس النظام والمسؤول السياسى الكبير الذى يسمح بوجود هذا، وهو عالم وساكت أو متغافل منكر لوجود مثل هذه الأفعال الشائنة.

الكذب وأفكار وجود التعذيب فى الأقسام والمعتقلات جريمة أبشع، لأنها تعلن القصدية والتعمد ونية الاستمرار.

تقول الباحثة قرب نهاية الصفحات القاسية الدامية:
«يبرز اللجوء إلى التعذيب فشلاً سياسياً، وعجزاً عن القيادة كما يكرس غياب الشرعية عن الأنظمة التى تمارسه، عندما يصبح الاعتراض على النظام خطأ يستوجب العقاب فإن شيئاً من انهيار الثقة يصيب المواطنين، يتبعه استسلام وشعور بالفشل والعجز. 
ولكن التاريخ لا يعرف نظاماً قمعياً دام أو استقر».

تنص المادة «55» من الدستور المصرى المستفتى عليه فى مطلع عام 2014
«كل من يقبض عليه أو يحبس أو تقيد حريته تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامته، ولا يجوز تعذيبه ولا ترهيبه ولا إكراهه، ولا إيذاؤه بدنياً أو معنوياً، ولا يكون حجزه أو حبسه إلا فى أماكن مخصصة لذلك، لائقة إنسانياً وصحياً، ومخالفة شىء من ذلك جريمة يعاقب مرتكبها وفقاً للقانون».

كثيرون بحثوا عن القانون، ولم يجدوا إلا ثغرات، وأفكاراً وتستراً، طريق مصر إلى التقدم والحرية، طريق إسقاط أقنعة الأنظمة القديمة البشعة، يمر أولاً بالاعتراف بالواقع والعمل المتصل على تغييره. تقول الطبيبة الدارسة الفنانة فى إهداء كتابها:
إلى هؤلاء الذين سحقت أبدانهم واقتنصت أرواحهم بأيدى الجلادين.. إلى ندماء الطريق المقاومين الصامدين.. عل الغد يأتينا بريح نشتهيها.

ذاكرة القهر- بسمة عبدالعزيز
- دار التنوير- القاهرة 2014

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر بجريدة المصري اليوم بتاريخ 20 سبتمبر 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق