السبت، 28 يونيو 2014

الخراط.. نسر فوق صخور السماء

              
            

نتيجة بحث الصور عن إدوار الخراط
الحمد لله، وصلت جائزة النيل - أخيراً - إلى إدوار الخراط، رغم ابتعاده منذ سنوات عن موالد السياسة والثقافة التى توالت بين احتجاجات واستقالات، وتجمعات شللية وتربيطات مصالح. جائزة النيل - أهم جوائز الدولة - صعدت إلى حيث يسكن النسر الكبير، محلقاً فوق صخور السماء.
لم أجد ما يعبر عن سعادتى وفرحى: له وللأدب المصرى سوى أن أجمع كتبه وأوراقه، التى شغلت مكاناً خاصاً ليس فى مكتبتى التى تعمها الفوضى، ولكننى أيضاً راجعت مكان كتابته فى حياتى: فى العقل والقلب.. راجعت كل الأوراق والمواقف.. وها أنا أحاول أن أستعرضها معك فى هذه الكلمة السريعة
 «كل الكلام بعد ذلك للخراط: نسر الأدب المصرى، نسر الإسكندرية والصعيد».
الصعيد: مصر الصعيدية - هى مصرى - ليست فيها رخاوة ولا وداعة ولا مجرد طيبة قلب كما يقولون.
 ليس فيها ما يزعمونه من سهولة طبع وتسليم.
ليس فيها ما يدعونه على المصريين من مزاعم الرضا بالقدر والمسالمة والخضوع ولين الجانب.
 هناك: مصر الحقيقية.
 مصر حبى العميق:
 صلابة الصخر ودسامة التربة معا، لا نهاية الصحراء، وركن المأوى تحت النخيل والدوم، سموق أسوار الأديرة على الجبل، وثاقة المعابد والمساجد وهشاشة المصلى الحصير تحت جسر النيل معا.
 هناك الخالد والعرضى معاً.
 أبدو اللحظة الهاربة معا.
ضربة العصى تشق الجمجمة، والدموع تنحدر على صفحة الوجه الصخرى معا، عرامة العنف الشرس وحنو الرقة التى هى ذوب القلب معا.
 يكاد يكون وحشيا فى إطلاقيته ولمعة العين بالسخرية الخبيئة البارعة معا.
الصعيد هو مصر البناء والحضارة والبحث عن السر. مصر الاستشهاد والكبرياء. عشقى، ومحنتى، أظن أن حياتى القصصية وحياتى جميعا تدور بين طرفى هذين القضبين: الإسكندرية والصعيد.
الإسكندرية:
 هى بيتى «من: الميلاد: غيط العنب مارس 26، حتى إبريل 1955 الخروج إلى القاهرة»، الإسكندرية مازالت بيتى وموطنى، عابر سبيل فى القاهرة، كأننى على سفر، الإسكندرية مدينة سحرية ترابها زعفران «الزعفران: نبات زكى الرائحة طويل العمر من عائلة السوسن» هى شط يقع على بحر الأبد، حافة المطلق، وعندما أنظر منها إلى أفق البحر. أعرف كما علمونى فى المدرسة والكتب، أن هناك له شاطئ من الجهة الأخرى.
ولعلنى لا أصدق، ولا أقتنع بذلك حقيقة.
 أبداً - ليس وراء هذا الأفق شىء.
 هذا امتداد لعباب المجهول، إلى ما لا نهاية.
 كأننى انفعالية ورمزية وبتجارب لاذعة المرارة لا يمحى طعمها أبداً من على لسانى.
 الإسكندرية: عالم ساطع ونقى ونظيف وحی. متقلب بروائح خصوبة جديدة دائمة التجدد.
الفن.. والفكر: باستمرار أتصور أن الروائى الحق أو القصاص الحق أو الفنان الحق يجب «وأشدد على كلمة يجب» أن يكون سابحا باستمرار فى بحث فكرى.
 هذا هو ما نجده عند كل الروائيين الحقيقيين فى كل العصور.
ما يصيب أعمالنا الروائية بالهزال والضمور والجدب والنضوب هو تصور أن الفن المهم ينزل من أعماق الفنان البريئة مما يسمى: التفكير العقلى.
 المطلوب من الفن فى هذا الزعم أن يكون بريئاً وساذجا وشاعريا وفطريا.
 وهذا هو ما أصاب إنتاجنا بكثير من الفقر والهزال: وعدم الكفاءة.
حتى الشعراء: وراء كل شاعر عظيم مفكر بدون استثناء. الشاعر الذى لا يغذى الفكر بفنه: يسميه النقد «الشاعر الصغير، قد يكون غنائياً فى بضع قصائده، لكن ذلك قصاراه، أما الشاعر الكبير فهو بالضرورة مفكر كبير. لا أزعم أنه يجب أن يكون فيلسوفا أو صاحب نظام فكرى:
 ولكن يجب أن يكون هناك هذا الظمأ للفكر وللمعرفة.
لست أقصد إلى معنى مدور ومحبوك داخل العمل الفنى: مثل الأمثال والحكمة أو أبيات المتنبى.
 أريد أن يخرج القارئ من قصص أو روايات: وقد اشتد عوده وصلبت إرادته.
 ازداد حساسية بالحياة من حوله.
 وعمق حسه بالمأساة التى نحياها.
لا أتحدث عن نسق مفروض: هى محتومة أمامى لكى نقدم فنا حقا ولكنها ليست مفروضة.
 إن عندى الحرية أولا فى أن أكتشفها ثم أنميها، وعندى الحرية فى أن أعمى عنها وأشوهها وأخربها.
أملى أن يخرج قارئى ولديه حس يستبد به هذا المعنى. حس يمده بزاد خلقى جمالى أغنى قليلا مما أتانى به.
 هذا هو ما أملكه، وهو فى النهاية ليس لى بل له.
 ولكل من يطرق بابى.
اللغة والفن:
اللغة فى كتاباتى - رغم كل الأحاديث عنها، والتى صرت أضيق بها لأنها لا تلمس الحقيقة.
اللغة هى خبرة كاملة متكاملة بالحياة.
معظم كتابنا عودوا القارئ على اللغة السلسة الشفافة
«فى أحسن الأحوال» أو السهلة المبتذلة فى الأغلب. عودوا القارئ على نوع من الفقر فى الرصيد الذى يتكون منه العمل الفنى لا أرى اللغة إلا منصهرة لا يمكن فصلها عن العمل.
 الخبرة الفنية عندى هى مسعى نحو الاقتحام والسؤال، نحو المعرفة، واللغة جزء من هذا المسعى لا يمكن أن ينفصل، ونحن محظوظون لأننا نملك هذه اللغة الفنية - التى ليس لها شبيه داخل اللغة الفصحى، مستويات متعددة من الجاهلية حتى الآن ثم هناك اللغة العامية:
 من السودان إلى المغرب كل هذه الثروة الفادحة متاحة أمام الكتاب.
 فماذا نفعل؟
يكتفى أغلب كتابنا بكسرة خبز جافة فى هذه المائدة الزاخرة. المسألة ليست قيمة لغوية.
 مضافة إلى الخبرة الفنية، ولكنها هى ذات الخبرة الفنية، علاقتى باللغة هى علاقة: عضوية، جسدية، شبقية إلى جانب أنها علاقة: درس، ومعرفة ومحاولة لسبر الأغوار.
 منذ مجموعة ساعات الكبرياء (1972) وعلاقتى باللغة: علاقة عاشق.
علاقتى باللغة منذ ذلك الحين: صارت علاقة: الفطرة.
 لا أقول فطرة أخرى بل هى الفطرة الأولى.
كل هذه الكلمات: هى مقتطفات من مقال بعنوان:
«عن تجربتى الفكرية» مكتوب فى إبريل 1997.
أما بحار النسر المحلق فوق صخور السماء فإنها ستكون متاحة عندما تصدر قريبا أعماله الكاملة، التى أرجو أن تخرج فى أحسن شكل ممكن.
 ومبروك لنا جميعاً جائزة النيل فى الآداب لإدوار الخراط (2014).

إدوار الخراط - الأعمال الكاملة «تحت الطبع»
 دار التنوير - القاهرة

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 28 يونيو 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق