السبت، 14 يونيو 2014

سعد زهران.. راهب ماركسى مصرى



جاء هاتف من الصحراء يقول:
 غادر سعد زهران ولن يعود.
كان دائما يعود إلى المقهى. المنضدة البعيدة التى تطل على النافذة الواسعة التى يرى منها كل الميدان.
 أوراقه مرتبة لا تتطاير.
 هناك دائما صديق أو تلميذ يسمع.
 وهو دائما يعود فى الموعد دائماً يعود:
 من البيت، من السفر يعود، ومن المعتقل من المظاهرة، من المؤتمر.
 من لقاء سرى يظل مسرعا على ساقه ويعود، ضاحكا مصرا على الشرح وإكمال الحديث.
 يستجيب للحب وللحاجة وللرفاق، يعود لماضيه الصاخب المزدحم، ثم يقبض على المائدة، ويمسح بناظريه الميدان الواسع البعيد، يرى المستقبل ويضحك ممن يهاب السير فوق الماء وخوض أستار الظلام.. ويعود:
 الآن لن يعود سعد زهران:
الأستاذ، المعلم، الرفيق.. الأب الصديق الشريف. هل تجدى الآن الكلمات وقد صار روحا مرفرفا فوق مصر بلا صفات. مراقبا، ويطلب أن نعيد قراءة الكتب والأوراق التى تركها لأنه فى هذه المرة لن يعود.
أهدانى الأستاذ فريد زهران، حارس المحروسة، نائب الحزب المصرى الديمقراطى، طبعة جديدة: من «الأوردى» كتاب سعد زهران الخالد الفريد عن سنوات السجن ومحنة الشوعيين فى مصر وفى أنفسهم.
 كما أهدانى عملا فريدا فى قيمته وهو ثلاثة مجلدات:
 هى مختارت من الفكر السياسى لسعد زهران
(موليد 1926 رحيل 2014.اعتقال من 1954 - 1956، ومن 1959 - 1961، ثم منفى اختيارى فى الجزائر حتى أوائل الثمانينيات)
هذه المجلدات الثلاثة مختارة من آلاف المقالات والمشروعات المكتملة والمخططة لأعمال تشمل نفس القدر من التبحر التمكن، والإمكانية:
 تاريخ الحركة السياسية فى مصر الحديثة.
 أزمة الفكر الماركسى فى مصر.
 تاريخ التنظيمات السرية اليسارية من 1922 حتى اليسار الجديد.
متابعة السياسة الراهنة: التجربة الناصرية.
 العبور: محنة كامب دايفيد، والسلام الصهيونى الأمريكى، العمال المصريون فى الخليج، نداء للمغتربين، وفى الأعمال هم أساسى مسيطر:
هو نقد الانتهازية السياسية، واحتراف النضال، والارتزاق من العمل السياسى.. مدخل لفهم الأحزاب السياسية، مصر 1977، ثم التقدمية كمهنة قبل أن أحاول أن أقدم لك درة أعمال سعد زهران الفكرية: فى أصول السياسة المصرية»
 أجدنى راغباً فى أن أذكرك بلحن حزين تردد فى «الأوردى»: السجان يصيح دائماً: «وشك فى الأرض».
 السجين يقول لزميله: أقسى لحظة هنا: طلوع الفجر.
عشت دائما رافع الرأس. الآن فلتنعم بفجر دائم.
فى «أصول السياسة المصرية» يتمسك سعد زهران بالتفسير المادى الماركسى للتاريخ، ولكنه فى مصرية وطنية لا تعصب ولا شيفونية فيها، يتمسك بالواقع المصرى الحى رافضا الخضوع لا للمصطلح الغربى ولا للقوانين الجاهزة المستمدة من أوروبا: مثل الإقطاع، البلورتاريا، الصراع الطبقى.
كان سعد زهران مشغولا دائما بحركة الجماهير.
ولد سياسيا من لجنة الطلبة والعمال عام 1946: يقول:
«اللجنة الوطنية للعمال والطلبة» ربما كانت وحتى الآن: أصدق وأكمل تعبير عن الإرادة السياسية للطبقة المتوسطة».
كانت تجمع ممثلين للوفد - الإخوان - لليسار - للمستقلين (عبدالرؤوف أبوعلم - لطيفة الزيات - فؤاد محيى الدين - مصطفى مؤمن - سعد زهران).
ولد فى هذه الفترة أيضا تيار تقدمى يسارى داخل حزب الوفد بقيادة مصطفى موسى.
 ثم يقول سعد زهران.. جمعت هذا الشباب سواء فى خيوط الإنتاج أو فى مدرجات الجامعة، هموم حياتية ومشكلات نضالية واحدة، اشتركوا فى إدراك ما فى الإسلام والاشتراكية من مثل عليا أخلاقية وحضارية وإنسانية، وعرفت مصر - ربما للمرة الوحيدة فى التاريخ السياسى المعاصر - قيادة منزهة عن الغرض (لم يكن هناك أى صراع أو طمع فى سلطة)، كان الشباب القائد للحركة يعمل بعيداً عن كل التنظيمات الحزبية القائمة، فبعد حادث كوبرى عباس 9 فبراير، ظلت لجنة الشباب تحكم الشارع والبلد حتى يوم 21 فبراير، وعندما عادت الزعامات الحزبية تفرض سيطرتها على لجنة «الطلبة والعمال»:
 «دب الشقاق والانقسام والتمزق».
كيف تتكرر هكذا نفس الوقائع والمآسى؟
ترك سعد زهران دائماً الزعامة الفكرية لغيره:
 أولاً لشهدى عطية، الشيوعى الشهيد، أول من تمرد على نفوذ الأجانب (قتل فى المعتقل) ثم ترك الزعامة الفكرية لحزب الراية (الشيوعى المصرى) للرفيق فؤاد مرسى، الوزير السابق، (الرفيق خالد) واكتفى هو بالعمل التنظيمى وبالإشراف على إصدار المجلة الشيوعية الوحيدة التى ظلت تصدر بانتظام وبمستوى مهنى معقول لسنوات، مجلة «الراية»، وفى هذا السياق يؤكد صاحب التجربة الحقيقية فى العمل السياسى السرى والعلنى: لقد أسهم الاحتراف فى العمل السياسى التقدمى فى المحنة الدائمة للطلائع اليسارية وللحركة العمالية، وكان من أخطر آفاتها المزمنة.
يقول سعد زهران عن الجيش المصرى بالنص وكأنه يتحدث الآن:
 كان الجيش المصرى فى قلب السياسة، كان هو المؤسسة الأولى فى الدولة، وهو الأداة الأولى فى التحديث الاجتماعى والإصلاح الإدارى، والبناء الاقتصادى ومقاومة التسلل والغزو الاستعمارى، كان جيش مصر أيضاً قوة فاعلة فى المنطقة كلها، مصدر قلق وخوف للإمبراطوريات المسيطرة والمتسللة معا، كما أن تطويعه واستخدامه هدف ومطمع، وذلك بمحاولة تفريغه من إرادة الاستقلال ومن الطاقات الوطنية المصرية، لن أستطرد لأن كثرة الخصوم والأعداء حرمت مصر أكثر من مرة من حصاد بطولاتها العسكرية.
أما عن تجربته مع الإخوان فإنه يقول وكأنه يرد على بعض الأفكار التى مازالت تتردد:
«أما الإخوان فإن فكرة الجبهة لم تكن واردة بالنسبة إليهم أصلاً، حيث ظلوا يرون فى أنفسهم القوة الوحيدة الجديرة بالوجود المؤهلة للقيادة، ومن ثم استمروا - كشأنهم دائماً - يسارعون إلى سلاح التكفير، قبل أن تبدأ أى جهود جدية بحثاً عن موقف مشترك أو نضال موحد».
أما عن الطلائع المستنيرة فى الطبقة المتوسطة فإن عليها أن تغير تعاملها مع مطالب الحرية والديمقراطية، وبدلاً من أن تتخذ منها فرصة للهجوم على الخصوم، ومحاولة الوصول إلى مواقع النفوذ - تعتبر الحرية والديمقراطية منهجاً وأسلوباً فى الحياة، وقيمة حضارية يجرى تدريب القواعد على ممارستها فى الحياة اليومية، إذا لم تستطع الطلائع أخذ هذه المسؤولية والقيام بها، فإنها ستكون مسؤولة عن أن الانتخابات (أى انتخابات) لن تكون إلا تغيير للأسماء مع استمرار مظاهر الاستبداد فى السلطة والمجتمع، وتداعيات الاستبداد وأمراضه المزمنة، ومنها:
 العقم الفكرى، والتخلف الحضارى، وهمجية العلاقات بين البشر، والاستنزاف المعنوى والروحى.
فى مقاله القديم المدافع عن ثورة الشباب والطلبة فى كل العالم 1968، الثورة التى انطلقت فى الشرق والغرب من أمريكا إلى الصين إلى أوروبا وشملت مصر ودولاً أخرى كثيرة فى العالم الذى كان يقال عنه العالم الثالث: كانت الصرخة الأساسية أن العالم أصبح لا يحتمل، وأن قوانين الانتخابات الديمقراطية تحت ظل القوانين السائدة وقتها - هى شكل من أشكال تثبيت القمع، وأن الثورة إذا لم تغير أو ترفع الحواجز بين الحاكم والمحكوم - فكأنها لم تحدث.
ونختم تقليبنا فى صفحات المجلدات الثلاثة العظيمة القيمة بما يأخذ شكل وصية الرجل الذى ظل لسنوات يراقب حياتنا بعيون يقظة وضمير حى:
«إذا هبط الإنسان دون مستوى معين فليس ثمة حدود لتدهوره».
«الحرية كالحب والمعرفة نفقدها حين نغفل لحظة عن النضال من أجلها».

سعد زهران: مختارات من الفكر السياسى:
 3 مجلدات، مركز المحروسة للنشر - القاهرة 2009.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 14 يونيو 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق