السبت، 31 مايو 2014

مائة عام من العنف والتذكر



       


اقتربت من صفحات أدب أمريكا اللاتينية الحقيقى، احترقت أصابعى، وسرت فى الجسد والروح رعدة كأنها النار أو الكهرباء. هناك شىء غريب وقريب فى هؤلاء الناس وفى كلماتهم عندما تخرج صادقة صادمة عنيفة:
 مثل موسيقاهم ورقصهم، وعلاقتهم المباشرة الحميمة بالحياة، مثل الجمال الوحشى الصاخب للنساء.

لست متجراً فى معرفة هذا الأدب وفنونه، فقد بقينا بعيدين عن الإسبانية، وأخيراً فتحت أبواب الترجمة على يد رواد فى مصر والشام «الأستاذ صالح علمانى.. وفى مصر محمد مبروك».

 سرعان ما تحول بعض هذا الأدب إلى «مودة مبتذلة»
«الواقعية السحرية، وصورها الماسخة المقلدة البلاستيكية» ليس هذا ما أقصده!
أذكر الآن منذ ما يقرب من نصف قرن أن صديقاً أهدانى كتاب: «ذكريات التخلف» للكاتب الكوبى: أدموند ديزنوس، وهى رواية واقعية عن أزمة مثقف برجوازى مع الثورة الكوبية وما حدث له ولعائلته، وقد كان أثر هذا العمل على نفسى وعملى وتفكيرى كبيراً، مما دفعنى إلى تسجيل أوراق كتاب «وقفة قبل المنحدر» إن كنت قد سمعت به.

بيننا وبينهم شىء قريب وغريب:
 قد يكون الفقر والتخلف، قد يكون الاستعمار الأوروبى، والعلاقة التنويرية والتدميرية مع المركزية الأوروبية، قد يكون العلاقة بالدين والتاريخ القديم، وقد يكون الجهل والأمية والخرافة.. قد يكون كل هذا وغيره. المهم أن هناك الكثير لكى ننظر فيه ونتبادله معهم.

رواية «النسيان» للكاتب: أكتور أباد فانسيولينسى:
 «من كولومبيا» يبدو أنها ستكون حادث آخراً مهماً فى طور حياتى هذا المتأخر.
 أسرنى صدق هذا العمل:مباشرته وفنيته فى نفس الوقت.
 شاعريته المختفية وراء أحداثه العنيفة.

 الكاتب يروى حادثاً واقعياً اغتيل فيه والده: أستاذ الجامعة الطبيب:
 مسؤول لجنة حقوق الإنسان فى مقاطعة «أنتيوكيا» فى 24 أغسطس 1987، وهى مقاطعة جبلية جميلة شهدت عقوداً من العنف والقتل المتبادل، بين اليسار واليمين، بين الحكومة والجيش وعصابات التهريب والخطف.

تروى الرواية حياة واغتيال هذا الأب السياسى والمفكر والإنسان وتحكى تاريخ كولومبيا السياسى الصاخب وعلاقة الأسرة النادرة بابنه الكاتب، الذى يحمل نفس الاسم
«الكاتب مواليد 1958 فى مدينة ميديين عاصمة المقاطعة» وهو يهدى الرواية إلى زملاء الوالد الناجين من حوادث الاغتيال، ويقول:
 إنه يحمل نفس وجه أبيه من أجل الذكرى، كان يوقع أوراقه باسم أكتور أباد الثالث:
 لأنه كان يعتبر والده اثنين، انتقامه الوحيد من القتلة هو أن يروى بصدق كامل ما حدث!.. وسط كل هذا العنف والأرتباك، هل يعرف أحد حقيقة ما حدث؟ القتلة يقولون: إنهم أرادوا «إطفاء العقل».

لقد تأخر عشرين عاماً لكى يروى ما حدث، احتفظ بقميص أبيض يحمل دماً جافاً، ورصاصة شاردة، أهملها رجال التحقيق الشكلى الذى أجرته السلطات عشرون عاماً وهو يحمل حزناً جافاً، بلا دموع حزناً نام لعشرين عاماً، «ولكنه حزن مشدود. الآن وقد كتبت: يمكننى البكاء الشىء الوحيد الذى أصرخ به: يا أبناء العاهرة»!

لم يكن الطبيب الأستاذ الذى تم اغتياله أباً عادياً يجعل منه الكاتب أسطورة كائناً جميلاً مشرقاً عادلاً كأنه الشمس يروى الكاتب وهو طفل عن علاقته بوالده:
«هناك شىء أسوأ بكثير من موتى: موت أحد أبنائى. إنه هكذا وبلا تخفيف شىء لا يدركه المرء برأسه بل بأحشائه».

«أحببت أبى حباً حيوانياً. أحببت رائحته، وذكرى رائحته فوق الفراش، حين يسافر كنت أتوسل للخادمات ولأمى كى لا يبدلن الملاءات أو كيس الوسادة. أحببت صوته، أحببت يديه، أحببت نظافة ملابسه وبدنه الدقيقة. كنت إذا انتابنى الخوف ليلاً أذهب إلى فراشه، حيث كان دائماً ما يفسح لى مكاناً لكى أنام، لم يقل لا قط. كانت أمى تتنمر قائلة إنه يدللنى، أما أبى فينسحب إلى طرف الفراش ويتركنى أبقى إلى جواره».

تحمل هذه العائلة التى نعيش معها كل الأحزان والأفراح، نفس الانقسام والصراع الذى يعيشه المجتمع: صراع بين التدين الكاثوليكى المتشدد، وبين التقدم والتحرر، والتنوير العقلى الذى يحمله الأب ويكافح من أجله. العائلة تتعايش وتتفاهم، حتى فى أشد أوقات الضيق والأحزان«موت: الأخت الصغرى مارتا بالسرطان»، أما المجتمع فلا يكف عن العنف والصراع والقتل المتبادل بين المحافظين والليبراليين، حيث يصدر عن أحد القساوسة المتشددين فتوى معناها:
«إن قتل الليبراليين إثم مغفور».

كرد على الحركات الثورية التى انتشرت بعد الثورة الكوبية دعت الكنيسة إلى «صلاة المسبحة» وهى مظاهرات دينية حاشدة تطوف شوارع المدن ليلاً فى أدعية وابتهالات صاخبة، كان الوالد وجماعته من التقدميين يقولون عنها «مسيحية الدفوف».

يسجل أكتور أباد بطريقة فريدة ونادرة الصراع بين صور التدين المتشدد المزيف الذى يحمى الأنظمة الفاسدة ويتستر على فقر الناس وأمراضهم بالدعاء والصلوات وسلطات رجال الدين الحمقاء، وبين محاولات التغيير والخدمة الاجتماعية الحقيقية، التى تلصق بها مباشرة اتهامات: الثورة، والشيوعية، والتمرد.
الأب الطبيب الذى تم اغتياله كان نموذجاً لكل محاولات النضال تلك، من أجل إحداث تغيير حقيقى فى المجتمع، ومن أجل ذلك وجهت له فى المجتمع وفى جامعته كل أنواع الاتهامات، وتلقى مختلف أنواع التهديد ولكنه كان يقول:
ألن يكون موتاً جميلاً لو قتلت بسبب أعمالى.

 وكان يعترف لخاصته أنا مسيحى الديانة، ماركسى فى الاقتصاد، وليبرالى فى السياسة، زرع فى كلية الطب فروعاً جديدة لدراسة الفقر والأمراض الاجتماعية المؤثرة على صحة الأطفال والداعمة لظواهر العنف وكان يحلم بطبيب المجتمع، أصدر مجلة لطلبة الطب الجدد كتب هو افتتاحيتها، يقول لهم:
«أجل أيها الأطباء الصغار ليست الغاية هى التمتع بالوسامة وتقاضى الأجور الضخمة، وبيع أقراص غذاء ملكات النحل.. بل الغاية هى إرسالكم إلى جميع الأنحاء للعلاج والابتكار، أو باختصار لخدمة الناس».

عندما جمع الرجل فى روحه المعرفة والحكمة والطيبة أقالوه من الجامعة، وعندما عمل طبيباً للمجتمع لمقاومة وباء العنف قتلوه، لكى يطفئوا العقل الذى يصر على تعبيد طريق التغيير ومواجهة الفقر ليس بالسلاح ولا بالعنف ولكن بالعمل الجماعى المشترك.
أعتقد أن الرواية التى صدرت 2006 بالإسبانية وترجمت إلى أغلب لغات العالم وأخيراً إلى العربية حدث أدبى وفكرى مهم، قادم من بلد «سيمون بوليفار» الذى يقال عنه جورج واشنطون أمريكا اللاتينية: وبلد جابرييل جارثيا ماركيز: الذى مات مرتين، وبلد شاكيرا أيضاً.

زار المؤلف القاهرة مرتين وله كتاب بعنوان:
«القاهرة مدخل إلى الشرق» وفى روايته هذه وقصصه القصيرة شعر مندمج مع فكر وسرد جديد يليق بهذا الزمن القاسى الصعب.
 كان الأب يحمل فى جيبه عندما اغتالوه قصيدة لبورخيس تقول: «نسير إلى النسيان. تحت سماء زرقاء لا تبالى».

النسيان- رواية. أكتور أباد فانسيولينسى.
 ترجمة مارك جمال.
 العربى للنشر والتوزيع القاهرة 2014

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 31 مايو 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق