السبت، 3 مايو 2014

جهل.. وتماثيل من ورق

                  


  



ولحدش خالى من الهم حتى الحصى فى الأراضى.
ولحدش خالى من الهم حتى جلوع السفينة.
كان هذا من أول «المربعات» الشعرية التى سمعتها قادمة من الصعيد الأمجد، فيه حزن نبيل، وجمال شعرى يغلب على النواح والشكوى، لذلك ظل جماله باقياً معى منذ سمعته فى الستينيات المبكرة.

 وما أدراك- حقاً- ما الستينيات.
 لم تكن الدنيا زحاماً، ولكن الأمة وكل الناس كانوا محتشدين، يشغون بالأمل والحلم، والرغبة فى العمل لصناعة المستقبل.
 فى هذه الأيام رأيت عبدالرحمن الأبنودى يتردد على صلاح جاهين هو وزملاء له، يصنعون مع عبقرية جاهين أوركسترا يعزف كل ساعة ألحاناً جديدة:
وفى الأفق البعيد فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة فؤاد حداد، وجوده طاغ وإن لم يكن أحد يراه.

 الثلاثى القناوى عبدالرحمن ويحيى الطاهر وأمل دنقل كان لهم- كل فى مجاله- وقع وتأثير ملحوظ.
 الأرض كانت خصبة مهيأة للزراعة: البلد يغلى بالحركة السياسية والاجتماعية والفنية: عبدالرحمن الشرقاوى كان قد ألقى بقنبلته الشعرية والفكرية: «من أب مصرى للرئيس ترومان»، وأصدر أحمد رشدى صالح كتابه «الفنون الشعبية».

 أنجز كل من صلاح عبدالصبور وحجازى بدايات أصواتهم الشعرية الجديدة، كذلك المسرح والتشكيل والكتابة.
 صدر لعبدالرحمن «الأرض والعيال» «64»، وكان وقتها على ما أظن يعمل فى تجربة «حراجى القط» «69» الذى يسجل فيه تجربة العمل فى السد العالى:
 فى واحدة من بواكير إنجازاته الشعرية الكبيرة، وكان صوته قد صار مسموعاً فى عشرات الأغانى الجديدة الطعم والمذاق. حرة فى الشكل خالية من الزيف والادعاء.

ثم دخل السجن لشهور هو وعدد من اليسار المؤيد للنظام فى واحد من التناقضات الغريبة ليخرج فى إبريل 67: شهور قليلة قبل يونيو البائس الحزين.

 وأغانيه وكلماته واكبت الحشد والهزيمة ولم تتنكر للناس ولم تتعال ولم تكابر.
 كان الشاعر رغم الألم والحيرة والتناقض قد أدرك وظيفته، وأن عليه دوراً يجب أن يؤديه ومعه سلاح عليه أن يطوره ويستعمله.

 لم يتوقف الأبنودى عن الحديث الشعرى إلى الناس، من السد إلى الاشتراكية ومن الهزيمة إلى الاستنزاف إلى أكتوبر وما بعده.
وطوال كل هذا العذاب والمشوار الطويل لم يتوقف عن تقديم كلمات الحب لكل صوت جميل «عبدالحليم- نجاة- رشدى» وكل ملحن صاحب مذاق.

 أعتقد أن سر الأبنودى يكمن فى معرفة أن الشكل فى الشعر مهم كما الموقف، ليس فى الشعر الجديد مكان للكذب أو الادعاء أو اصطناع اللغة، أو اختراع جمهور متصور، من قلب الناس يخاطب الناس، ملتزماً أولاً بالجمال الشعرى، يصوغ القيم صياغة بسيطة باقية جميلة تصاحب الروح والأذن فى الواقع الصعب المرتبك.

لم يتوقف الأبنودى عن الشعر إلا سنوات قليلة، يقول إنه كان يحس أنه يسير عارياً، ومع ذلك عمل على إصدار خمسة أجزاء من السيرة الهلالية، وكتاب نثرى جميل «ليالينا الحلوة» إلى أن وصلنا إلى «يناير» فكانت أشعاره مع أشعار جاهين ونجم وأمين حداد وكل الجدد، ميلاد فرح أيقظ آمالاً وأحلاماً..

 حتى كانت الخيانة، وأعقبها الكابوس. نحكى كل هذه الرحلة لكى نصل إلى تجربة نادرة بين أيدينا: «مربعات الأبنودى»:
نشرة شعرية يومية ظلت تصدر يومياً طوال عام «الكابوس» عام الجهل وتماثيل الورق.

 عام غلط أسود كئيب ظل الأبنودى طواله واقفاً بشهامة ورجولة شاعر، ونبل صعيدى متنور جدع، يطل علينا كل يوم يؤنس وحدتنا ويلومنا ويشجعنا على الاحتمال ويتباحث معنا عن سبب المرض وطرق الشفاء.
ثلاث كلمات يقولها الأستاذ هيكل فى المقدمة النادرة التى كتبها للمربعات:
 هى الشراع، والأفق، والناس: الأبنودى شراع قادم مع النيل من الجنوب يحاول أن يظل مراقباً أفق البحر البعيد متحدثاً من الناس للناس: عن التاريخ والآن والسياسة.

يا مصر، يا بهجة الدنيا... يا زهرة فى حلم/ الحلم ماله انطفى فى العاصفة السودا؟
فى اتصال شعرى مسموع كان الأبنودى يخرج عند إبراهيم عيسى فى جريدة التحرير لكى يقول:
أنا الوطن.. جزء مسلم جزء «نصرانى»/ فى قلبى شلت البشر حتى اللى كارهينى/ الناقص اللى هنا.. بيكمله التانى/ مسلم أنا.. والمسيحى.. شايله فى الننى!
«مينا الصعيدى بن دانيال» نزل عن صليبه.. وجانى/ قاللى: «اللى صالبنى يا خال لو أنزل بيصلبنى تانى».

صوتك.. شعاع الشمس لما يطل/ كنا على ضى الشعاع دا نشوف مال اتساعك ضاق فى وش الكل ورجعنا تانى نشم ريحة الخوف!؟

يقول إننا بلد عجيب يخلط الكسل بالدين ومحروسة بلد العجب والوهم والتخاريف/ بلد الرضا والتململ والسكوت والآه. ويقول لسلاطين الكابوس الذى طوله عام:
بتفرقوا الجهل وتقولوا عليه الدين/علشان تسوقوا وطن أطرش متغمى/ الدم دمى ولو ماعرفش صاحبه مين/ والجزارين لاغبيا.. برضك ولاد عمى.

طوال هذا العام كان علينا أن نتبين ما الذى حدث فى الحقيقة، وأين الخطأ الذى قادنا إلى هذا الحائط السد. وكان الأبنودى يفكر معنا كل صباح بالشعر فيقول:
وطنى ماخيبش ظنى/لكنما الوقت خانه/صحى الشهيد جنب منى
لقينى بايع مكانه!/مأساتى شعبى اللى قاصده عمره ما بيقرا/ حياة تعيسة.. لا فيها كتاب ولا جورنان/ وبالطشاش بس.. يسمع شىء عن الثورة/ وما شافش لا اسود ولا ابيض من ورا الميدان.. الفلاحين.. مازالوا منتظرين/ ناس يفهموا فى الأرض والإنسان/ ناس يعشقوا عرق البنى آدمين/ مش كلمتين فى ميكرفون وصوان!

عباد.. تعرفش غير تكره/ وشبه الناس.. لكن مش ناس/ دا انا احفر بير بالإبرة/ ولا اسألش اللئيم على فاس.
رغم كل ما حدث مازالت الثورة فى خطر.. بل زاد الخطر وأصبح حاضراً فى الشقوق والحوارى، وتلوين الكلام وتلويع المعانى:
الشمس غامت مش غابت/والبين عادلنى وكافينى/9تمن ما هزينا ثوابت/وسمحنا بالحزب الدينى
عمر الطغاة ما اتعلموا من بعض/عمر الطغاة ما اتعلموا م الزمن
ولا فهموا إيه بين العباد والأرض/ولا حبوا- زى الناس- عيون الوطن
من أجمل وأقسى مربعات الديوان:
واقف على باب وداع/واللحظة- فعلاً- حزينة/ع البعد.. شايف شراع/ماشايفش تحته سفينة
الميدان الحر.. فاضى/ فيه كآبة.. واكتئاب/ وكأن الثورة.. ماضى../ شاى شربناه ع الحساب!
ولأننى عجوز مثل صاحب المربعات أقول معه فى الختام:
لا ريح حتكسر الجناح/وتعطل الطيران/ولا ليل حيمنع الصباح/يهل على الأوطان ... سلمت ودمت يا عبدالرحمن.

مربعات الأبنودى- شعر عبدالرحمن الأبنودى
الهيئة العامة للكتابالقاهرة 2014.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 3 مايو 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق