السبت، 24 مايو 2014

فجر الضمير وأبواب الأمل

       

                      
                     
الآن يدق الناس أبواب الأمل، لكى يدخلوا إلى وعد جديد بدولة مدنية حديثة، يحكمها «فجر الضمير» الذى علمته مصر لكل البشر.

يطلب الناس العدل والرحمة فى دولة بلا فساد قائمة على العلم وكرامة الإنسان.
فى هذه الانتخابات التى تجرى بعد أيام صعبة وفى ظروف عصيبة: لا يمكن أن تكفى الوعود والشعارات، الناس تريد واقعاً يتغير، تريد أن تكون مدعوة لعبور المسافة بين الحلم والواقع،. هذه الكلمات لم تعد كافية ولا الشعارات والأغانى، الدقائق محسوبة وهى تزيد مرارة الواقع وصعوبة الحياة. ناس مصر الذين اكتشفوا- قبل الدنيا- معنى الضمير يريدون الآن حكماً يدعوهم بالعلم للعمل على تحقيق العدل والرحمة وكرامة الإنسان.. لم تعد هذه كلمات ولكن حالات متجسدة ينزف الناس شوقاً إليها.

وقعت فى أيامى هذه على كتاب «العقل والسياسة» لفكرى أندراوس وهو كيميائى مصرى صعيدى قبطى يعيش فى الولايات المتحدة يعمل فى كبرى الشركات هناك قريباً من مطابخ الأفكار، وبنوك السياسة والمال التى تحكم العالم وهو عميق الاتصال ببلده الأصلى مصر:
 وكنا قد عرضنا له هنا كتاباً مهماً كتبه عن العلاقة بين الأقباط والمسلمين، كتبه بمعرفة وصراحة وإنسانية نادرة، كما قدم مؤخراً كتاباً جامعاً عن حياة وأعمال راهب النيل والجيولوجى الكبير رشدى سعيد الذى رحل بعد أن أمضى سنوات عمره الأخيرة مهاجراً بفكره وعلمه إلى الولايات المتحدة «أليس هذا نزيفا حادا يجب أن نفكر فى أسبابه وطرق علاجه».

«العقل والسياسة» كتاب عميق لكنه سهل وممتع عن الولايات المتحدة ومصر، ليس عن العلاقة بينهما ولكن عن صناعة السياسة والانتخابات وتسويق الأفكار، وبيع المصالح والأغراض، عن التجارة فى الدين هنا وهناك، عن كيف نبيع للناس حكماً ضد مصالحهم الحقيقية كما نبيع لهم السرطان فى الدخان والأمراض فى الأطعمة الحديثة. كيف نبيع للناس حكاماً يمثلون مصالح الشركات- ويمثلون على الناس- الصلاح والطيبة، وخدمة «شرع الله» هنا وهناك.

لقد باعت شركات التسويق السياسى وتجار الدين والسلاح بوش الأب والابن «مرتين» وريجان وغيرهم، ممن صنعوا الإرهاب وحروبا شملت الكون باسم الديمقراطية. تحت حكم الجمهوريين: وتحت وهم تخفيض الضرائب الذى استفاد منه كبرى الشركات فقط، وانتعشت بشكل غير مسبوق تجارة السلاح «ارتفعت ميزانية جيش الولايات المتحدة حتى أصبحت تعادل ميزانية جيوش العالم مجتمعة» يقول أندراوس:

 «يكفى للقارئ أن يلاحظ أن كلينتون عندما أنهى فترة رئاسته ترك فائضا فى ميزانية الدولة جاء جورج دبليو بوش بحروبه فى أفغانستان والعراق فالتهم ليس فقط الزيادة التى تركها كلينتون بل أضاف إلى ذلك بلايين عديدة»، تقترب من تريليون دولار، الغريب أيضاً رغم كل تلك التكاليف أنه عندما ضرب إعصار كاترينا ولاية لويزيانا سنة 2005 والذى راح ضحيته نحو 2000 شخص وشرد قرابة المليون شخص أغلبهم من جذور أفريقية أو من الفقراء البيض تحركت الحكومة الأمريكية ببطء وجهل شديدين فى مواجهة الكارثة، وراقب العالم كل شىء على شاشات التليفزيون كما كان يراقب المليارات التى تنفق فى حروب عبثية فى العراق وأفغانستان إلى أن أنهى بوش فترته الرئاسية بكارثة اقتصادية».

يعتمد الأستاذ فكرى أندراوس فى فهمه وتحليله لميكانيزم الحكم السياسى الحديث فى الولايات المتحدة على مفكرين جدد أهمهم: جورج ليكوف فى كتابه «العقل السياسى» وهو عالم لغويات يدرس ظاهرة بيع الأفكار الخادعة خلال استعارات وتشبيهات يستعملها رجال اليمين ورجال الدين الأمريكى «سابق التجهيز»- الكالفينية البروتستانتية التى تدعى أن جمع الثروة من الإيمان وهى دليل على رضا الرب بينما الإنجيل يقول إن دخول غنى للجنة أصعب من دخول الجمل من ثقب الإبرة. المفكر الثانى الذى نتعرف عليه خلال دراسة أندراوس لصناعة السياسة الأمريكية هو:
 فاميك فولكان، وهو مفكر وطبيب نفسى من أصول قبرصية يدرس ويعمل بالسياسة فى أمريكا وخارجها من خلال دراسات متعمقة للتحليل النفسى، وطرق عمل المخ والعقل والعواطف الفردية والجماعية ومن أهم كتبه «حاجة الإنسان للعدو والصديق» 1988.

يبدى الكتاب معرفة واسعة ودراية بمسائل «الإسلام السياسى» ويتابع عن قرب حركة الإخوان منذ حسن البنا حتى انتخابات 2012 والنهاية المأساوية فى 30 يونيو، ويقول:
 «على كل من يفكر بعقل الإخوان أو يفكر فيهم أن يسأل نفسه:
 كيف ولماذا تعاون الإخوان مع جميع الأحزاب والحكومات، ثم انقلبوا وتصادموا معهم جميعاً، وعندما وصلوا إلى الحكم فى ظروف معقدة تصادموا مع أغلبية الشعب المصرى.

 حتى أبوالأعلى المودودى الذى أثر فى تفكير البنا وسيد قطب، وهو من ساهم فى نجاح قيام دولة باكستان على أسس دينية اعتقل هناك ثلاث مرات، ثم حكم عليه بالإعدام 1953 ثم خفف الحكم إلى سجن مدى الحياة حتى مات إثر عملية فى القلب فى الولايات المتحدة 1979.

 «المودودى لم يحظ بأى تعليم غير التعليم الدينى، وله أكثر من ستين كتاباً، وأول من نال جائزة الملك فيصل العالمية».
من القضايا المحورية التى تثيرها المقارنة بين السياسة هنا وهناك هى طبعاً قضايا التعليم والحوار وأولاً قضية الشباب.

 رغم أننا نقول ونكرر أن مصر دولة شابة وأن نسبة الشباب فى السكان من أعلى النسب فى العالم، فإن الشباب بعيد عن الحكم ليس الآن فقط ولكن من زمن، منذ أن عرفنا رب العائلة.
 وتربية التلقين والسمع والطاعة. هناك بدل رب العائلة فكرة العائلة الحاضنة هناك الأم والأب لا أوامر ولكن شخصية مستقلة للذكر وللأنثى، ويذكرنا الكتاب بكلمات جبران خليل جبران فى كتاب النبى من ترجمة الدكتور ثروت عكاشة حيث يقول عن الأولاد فقرة خالدة جديرة بأن نقرأ فيها الآن:
«أبناؤكم ما هم أبناؤكم.. فقد ولدهم حنين الحياة ذاتها.. فبكم خرجوا للحياة وليس منكم.. وإن عاشوا كنفكم فما هم ملككم.. قد تمنعونهم حبكم ولكن دون أفكاركم.. فلهم أفكارهم.. قد تؤوون أجسادهم لا أرواحهم.. فى وسعكم أن تجتهدوا لتكونوا مثلهم ولكن لا تحاولوا أن تجعلوهم مثلكم.. فالحياة لا تعود القهقرى ولا هى تتمهل عند الأمس.. أنتم الأقواس منها ينطلق أبناؤكم سهاماً حية».

التعليم فى مصر ليس فى حاجة إلى ترميم أو إصلاح أو دعم، إنه فى حاجة إلى ثورة شاملة وتغيير كامل ظل أغلب المفكرين ينادون بها، ويكتفون بالمطالبة والنداء مع بقاء الحال على ما هو عليه، حتى تدهور الحال وأصبح من الصعب السكوت.
 إحدى الأفكار المطروحة للنقاش العلمى السريع، هى أن يدخل جهاز الإعلام الرسمى «التليفزيون» تحت إشراف هيئة من كبار الأساتذة المتخصصين لإنقاذ ما يمكن إنقاذه!
فى النهاية- ولكى نعود إلى اليوم- نذكر ما قاله مفكر كبير آخر هو الدكتور لويس عوض فى كتابه تاريخ الفكر المصرى الحديث قال ما معناه:
 أعداء مصر ليسوا دائماً من الخارج، إنهم فى أحيان كثيرة هم الشعب نفسه، وحكام يريدون لنفسهم عظمة أو أمجادا زائفة. لكرامة الشعب وعزته أبواب هى:
 الشرف والتدبير والعلم والعرق وضبط الشهوات والإيمان بالإنسان. 
ثم يقول:
 «البطش لا يصنع القوة، والخوف لا يصنع الرجال، والوطن القوى لا يبنيه المواطنون الضعفاء».
غداً وأنا أدلى بصوتى سوف أتذكر أن مصر هى التى اكتشفت فكرة الضمير.

العقل والسياسة. فكرى أندراوس.
دار الثقافة الجديدة. القاهرة 2014

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 24 مايو 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق