السبت، 17 أغسطس 2013

غياب أعمدة الحكمة

            


الأستاذ الدكتور أحمد مصطفى أبوزيد:
 عمود آخر من أعمدة الحكمة فى العالم العربى يغيب.

 وسط هذه العواصف التى تجتاح حياتنا، وسط البرق والرعد والأمطار المحبوسة خلف غيوم داكنة:
 أتلفت حولى فأدرك أن عموداً آخر قد رحل.

 اختفى رجل علمنى: الحرف، والمعنى والقيمة، والأخلاق، غاب كأنه سار إلى البحر أو ابتلعته العاصفة.
 «أحمد أبوزيد»:
 أهم أستاذ أنثروبوليجى عربى «علم الإنسان» رحل فى الإسكندرية: 29 يوليو 2013: هو من مواليد 3 مايو 1921.

رحل أحمد أبوزيد عن 92 عاماً بعد أن تزرع فى كل أنحاء العالم العربى:
 معرفة، وأبحاثاً، وكتباً، وقيماً، وأخلاقاً، ومجلات، ومعاهد بحثية، بعدد أيام العمر المديد الخصب، الذى احتشد بالعمل وبالوطنية وبالإيمان، بالوطن والفكر والمستقبل.

أول كتاب علمنى القراءة فى مجالات الفلسفة، وعلوم الاجتماع كان كتاب الأستاذ ذو الغلاف الأزرق «دراسات فى الإنسان والمجتمع والثقافة».

أثار الكتاب فى عقلى مئات الأسئلة، وفتح عشرات المشاكل. أهم ما أذكره الآن من الكتاب: أنه علمنى أن أبحث بنفسى، وأن أفكر بحرية، أيامها شاهدت الأستاذ للمرة الأولى وهو يعبر المكتبة العامة فى الجامعة باحثاً عن مرجع أو قاموس:
 مسرعاً وسط المناضد المليئة بالطلبة، بقامته الطويلة وخطواته الرشيقة التى تشع فهما وذكاء وعيونه لا أنساها كما لا أنسى غلاف الكتاب الذى صاحبنى أياماً، لكى أستجمع أسئلته، وما يثيره من قضايا.

هو مؤسس علم الإنسان العربى.
حصل على الدكتوراه فى أكسفورد 1956، وكان عليه بعد العودة أن يؤسس للعلم الجديد، يقيم له قسماً خاصاً فى كلية الآداب، ينفع الناس بمعناه وأهميته.

وقبل التعريف ببعض كتبه وترجماته من المهم أن تعرف أنه بدأ عمله بـ13 شهراً قضاها فى دراسة المجتمع والواحات الخارجية، ثم انتقل لدراسة المجتمع البدوى فى شمال سيناء.

وبعد ذلك انتقل لدراسة ظاهرة الثأر فى أبوتيج.
 وأول دراسة أنثروبولوجية خارج مصر كانت فى سوريا عن مجتمع «العلويين» ثم عاد لمصر لكى يقوم بدراسة مازالت ممتعة ومهمة عن «الصبر كقيمة اجتماعية فى مصر».

الكتب الأساسية هى:
 المفهومات، الأنساق، المعرفة وصناعة المستقبل. والترجمات تفوق الحصر فى هذا العلم الجديد: أهمها كتاب عن «تايلور» وكذلك اشتراكه فى ترجمة أهم مرجع فى علم الإنسان كتاب: «الغصن الذهبى» كما أصدر فى مصر مجلة: تراث الإنسانية وظل يرأس تحريرها حتى أغلقت فى المذابح الثقافية التى أعقبت النكسة.

فى الكويت قام الدكتور أبوزيد بدور مهم كمستشار لمجلة عالم المعرفة وظل ينشر فيها مقالاً حتى آخر حياته وكذلك اهتم بدراسة الأقليات فى الشمال الأفريقى «ليبيا- تونس- المغرب- والجزائر» ضمن اهتمامه بدراسة تكوين هويته الثقافة العربية كما قام بتأسيس مركز تابع لمنظمة العمل الدولية فى جنيف.

دور المثقف المصرى فى دولة الكويت:
موضوع يثيره تطور حياة وعمل الدكتور أبوزيد:
 فمنذ الدكتور أحمد زكى أول من رأس تحرير مجلة العربى إلى أجيال: د. فؤاد زكريا، وأحمد بهاء الدين، ومصطفى نبيل، ومحمد المخزنجى، والمنسى قنديل «فى مجال الصحافة وحدها»:
 هذا الدور يستحق دراسة خاصة فهو وجه منير فى العملية التى لا تلقى ترحيباً دائماً وهى هجرة العقول والعمالة.

 فقد قام هؤلاء الأفذاذ بإنقاذ أنفسهم من مناخ مرعب كان يسيطر على مصر، وعملوا هناك بقدر كبير من الحرية ساعدهم كل بطريقة مختلفة على تطوير نفسه، وإضافة إضاءة ونور فى بلد رحب بهم وقدم لهم إمكانيات لم تكن موجودة يجب ألا ننسى هنا «الدكتور الراعى- الدكتور عصفور».

الدكتور أحمد أبوزيد، والدكتور فؤاد زكريا قدما هناك:
 عالم الفكر وسلاسل عالم المعرفة وهما فى اعتقادى من أهم المنشورات العربية خلال العقود الأخيرة.

من آخر الأفكار المهمة التى أشار إليها الدكتور أحمد أبوزيد فى الفكر والثقافة العربية أن أفكار التنمية والبناء كانت تولد فى العالم العربى قبل «العولمة/ الشرق الأوسط الجديد/ حرب العراق/ 11 سبتمبر» كانت الأفكار عندنا تولد من التمرد والرغبة فى تغيير الواقع ولكنه لاحظ بعد الأشياء السابق ذكرها:
 أن أغلب أفكار الإصلاح، ومحاولات التنمية، والتجديد أصبحت تتم بشكل أو آخر:
 طبقاً لتعليمات أو نصائح أو إيحاءات أمريكية
«فهم يعرفون مصلحتنا أكثر».. وبذلك تحول الإصلاح إلى تحرير، والتنمية إلى تهيئة مناخ صالح للاستثمار، واختفى أو تلاشى معنى الإبداع وراء النقل والتقليد.

كتابه «هوية الثقافة العربية» يبدأ من اختياره لتعريف واحد لكلمة الثقافة من ضمن أكثر من 200 تعريف متداول فى العالم يختار الأستاذ تعريف الثقافة على أنها:
 «هى ذلك الشكل المركب الذى يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والعرف وكل المقدرات والعادات الأخرى التى يكتسبها الإنسان من حيث هو عضو فى مجتمع، ومقوماتها ثلاثة: اللغة والدين والتراث».

وعن الدين والنظر للديانات المختلفة يقول الأستاذ:
«إذا كان القرآن الكريم ينص على أن المسلمين هم خير أمة أخرجت للناس، فإنه ينص فى الوقت ذاته وفى سورة البقرة على أنه لا إكراه فى الدين، وعلى الرغم من كل الهجوم الذى يتعرض له الإسلام، ونبى الإسلام فى الكتابات الغربية فإنه لا يخطر على بال مسلم أن ينال بسوء أحد الأنبياء والرسل الذين جاء ذكرهم فى الكتاب».

«فن القول» كما يقول شيخنا أمين الخولى سوف يبقى إلى جانب القرآن الكريم فخر اللغة العربية، وفى «فن القول» على الثقافة العربية أن تصون حرية الإبداع:
 الذى يتكون من أفكار مضاف إليها تصورات جديدة مبتكرة، ومن مهام الثقافة العربية للحفاظ على هويتها: إيقاف الاستيراد «وهو طبعاً غير الترجمة والاطلاع» والأهم رفع التعارض المفتعل بين الإبداع والاعتبارات الدينية.

بالنسبة للأقليات يرى أبوزيد أن صيانة حقوق الأقليات هى إثراء حقيقى للثقافة الأم. ويورد قصيدة مهمة لشاعر من صقلية يقول: إن شعب صقلية مستعد لأن يفقد كل شىء: البيت/ والطعام/ والأسرّة التى ينام عليها: ولكنه لا يزال غنياً:
إن الشعب يفتقر ويستعبد
عندما يسلب اللسان
الذى تركه الأجداد.
عندما يفقد الشعب لغته.. يضيع إلى الأبد!

لم أر الأستاذ بعد أن رأيته فى مطالع الصبا.. إلا منذ سنتين أو أكثر قليلاً كان جالساً أمام البحر فى الإسكندرية فى شرفة خالية، وإلى جواره أحد حوارييه.

 كنت ماراً من بعيد، وأظنه كان صامتاً لا أرى لماذا تذكرت أبيات بدر شاكر السياب من قصيدة «مطر»:
عيناك
غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر.
د. أحمد أبوزيد
هوية الثقافة العربية. هيئة الكتاب. القاهرة 2012

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في جريدة المصري اليوم بتاريخ 17 أغسطس 2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق