السبت، 10 أغسطس 2013

عربدة الوهم

              
          

كأنه يزداد حضوراً رغم الغياب.
 رشدى سعيد المصرى النادر الذى رحل عن عالمنا فبراير الماضى موجود معنا فى كل ما يجدُّ فى حياة المجتمع المصرى من مشاكل وأسئلة.

 أى اسم نطلقه عليه؟
عاشق النيل، حكيم مصر، الحجر الكريم النادر، أبوالجيولوجيا، سيف قاطع بين الوهم والحقيقة، شاب رحل بعد أن بلغ الثالثة والتسعين (1920- 7 فبراير 2013).

قال عنه نجيب محفوظ «ونجيب محفوظ يرى ما تحت جلد البشر»:
 «إن حديث رشدى سعيد يعشقه المثقف والعادى ومن هم دون هذا وذاك..

عرفت عن رشدى سعيد ما ينبغى أن يعرف عن جهاد عالم فريد من آثاره التى يهتم بها الغرب قبل الشرق، من أحلامه بالنسبة إلى وطنه وتقدمه العلمى والاقتصادى، علمت ما لم أكن أعلم، وما لا يجوز أن يجهل وما يملأ الإنسان فخراً وسعادة. إن من أقبح ما فى حياتنا جهلنا بعلمائنا وهم الجواهر التى يزدان بها تاج الحياة. هم أملنا فى المرور الحقيقى إلى العصر الحاضر».

أما الأستاذ هيكل فيقول عنه فى تقديم كتاب رشدى سعيد الكاشف:
 «الحقيقة والوهم فى الواقع المصرى (صادر 2002)» يقول هيكل:
«نحن أمام أستاذ فى الجيولوجيا خطا من الجامعة إلى المجتمع، ومن العلم إلى الثقافة حين استطاع أن ينفذ من طبقات الأرض إلى حياة البشر الذين يعيشون فوقها، ثم استطاع أن يحيط بطبقات الأرض وحياة البشر فى وطن بذاته إحاطة تربط الجغرافيا والتاريخ، تصل الحاضر والمستقبل، وتكشف بالعلم والحكمة مطالب التقدم والعمران حين تصنع نوعاً راقياً من المعرفة المتكاملة القادرة على الإلهام والتأثير.

 إن كثيرين من القادرين على الخدمة العامة مبعدون عنها، فى حين أن المجال مفتوح- إلى درجة العربدة- أمام ثلاثية الجهل والعجز والفساد.

 إن رشدى سعيد رجل تسعى إليه جامعات الدنيا وتستضيفه محافلها، ولكن وطنه بشكل ما لا يسمعه بالقدر الكافى».

رحل رشدى سعيد وترك الوطن رغم الثورة، يعربد فيه الثلاثى الذى قال عنه هيكل: 
عجز، جهل وفساد.

القبطى الذى يؤكد وجهه وملامحه وقامته واستقامة خلقه ومبادئه أنه ابن هذه الأرض منذ مائة وخمسين جيلاً، آخر ملك قوى قادر:
 كان رمسيس الثالث، وأول من همس بفكرة التوحيد فى أذن العالم كان إخناتون. فى أرض النيل ولد معنى الضمير الذى يحار العالم حتى الآن فى تعريفه أو التمسك به.

 حمل المسيحى الطيب كل تلك القدرات التى ورثها واستنبتها من هذه الأرض وعاش يحاول نقلها فى دراسته عن النيل، الذى قال عندما شاهد الحال الذى وصل إليه فى السنوات الأخيرة: تحول النيل من شريان يحمل الدم الصالح إلى وريد يصرفون فيه ما فسد من دمائهم.

 بعد أن ضاعت سيناء فى 67 بدأت مشاريع لتعميرها تعميراً حقيقياً، ولكن تُركت لبيوت الخبرة الأجنبية والمقاولين ودخلنا فى الاستثمار بدلاً من التنمية، لكى تمتد نفس الأفكار وتستشرى فى التعدين، وفى التعليم وفى السياسة.

يقول رشدى سعيد الذى تعلم على يد مربى الأجيال «يعقوب فام» فى جمعية الشبان المسيحيين، وشرب الفكر والثقافة من رجل الثقافة المصرية النادر سلامة موسى.

 يقول رشدى سعيد فى كتاب: رحلة عمر:
«إن الديمقراطية ليست شعاراً يُرفع بل هى نظام متكامل وطريقة للعيش ينبغى أن يُعدَّ لها الفرد منذ نعومة أظافره بتنشئته على تحمل مسؤولية المشاركة فى إدارة شؤونه، سواء فى المنزل أو المدرسة.. حتى يكون معدَّاً للمشاركة فى إدارة شؤون أمته».

كانت العائلة من شبرا من القللى، وأصولها طبعاً من الصعيد، وفدية أصيلة لم تترك الوفد رغم انفصال مكرم عبيد، فقد كان الوفد رمز وحدة الوطن. ويقول رشدى سعيد فى كتابه: رحلة عمر:
«لم يكن هناك أى طريق آخر لرفع شأن الوطن غير الأخذ بمنهج العلم الحديث الذى هو سمة الحضارة التى نسميها خطأ (بالغربية) على أنها حضارة جامعة، هى ملك لكل البشرية لأنها نتاج تراكم التراث الحضارى لكل ما سبقها من حضارات بدءاً من الفراعنة مروراً باليونان ونهاية بالحضارة الإسلامية التى كان لترجماتها أكبر الأثر فى توصيل ما كتبه اليونانيون للحضارة الحديثة».

كان المسيحيون يدخلون برلمانات ما قبل الثورة فى دوائر وبنسب تواجدهم، ولكن عندما قرر عبدالناصر فى برلمان 1962 تعيين عشرة أعضاء كان أغلبهم أو كلهم من الأقباط:
 وكان من بينهم رشدى سعيد
(غالباً رشحه هيكل لأنه كان يكتب مقالات مهمة فى الأهرام) يقول:
«لم أكن سعيداً بهذا الاختيار، فقد أكد لى ما كنت قد بدأت أشعر به منذ عودتى من البعثة من أننى بالفعل أصبحت (الآخر) فى الوطن».

لم يتحدث رشدى سعيد عن «الصغائر» التى تعرض لها طوال عمله فى الجامعة أو فى الحكومة مما يتعرض له المسيحيون من بعض ضعاف النفوس من «معاملة مختلفة» صارت تتصاعد مع سيطرة وتصاعد نجم التيار السلفى الذى أفرز مناخاً لا يختلف عن مناخ القرون الوسطى، يقول: «استمعت خلال عضويتى بالمجلس إلى مئات الخطب والمداخلات التى كانت تستشهد بقصص قديمة ومقولات ساذجة أُخرجت من كتب قديمة، لم يكن الأمر مقصوراً على الأعضاء بل امتد إلى الوزراء وصانعى القرار، الذين كان البعض منهم يحمل الأحجبة، ويستطلع الطالع ويستكشف المستقبل باستخدام المنجمين».

اشتغل رشدى سعيد على اللغة العربية فى ترجمة العلوم، وقام بتجهيز قاموس المصطلحات العلمية مع دائرة المعارف البريطانية، إلى جانب التحفة العلمية التى تحمل اسمه:
 عن نهر النيل، التى تطبعها أعظم دور النشر العالمية، وكان من آخر أقواله المطالبة بإعادة إصدار «موسوعة النيل» التى كانت تصدر سنوياً من وزارة الرى.

أما أزمة النيل الأخيرة فقد قال فيها وهو على فراش المرض:
 «إن الجريمة أننا سمحنا بتدخل صندوق النقد وعناصر أجنبية فى اتفاقيات المياه».

رحل رشدى سعيد ولا أدرى إن كان قد تابع جلسات مجلس الشعب الذى ابتلينا به بعد الثورة، ولكننى قرأت له مقالاً أخيراً كان يقول فيه:
«بينما العالم يبحث فى علوم الكمبيوتر والبرمجيات ينتشر عندنا فى مصر العلم، علم السميا والتنجيم».

دفن رشدى سعيد فى تراب غريب بينما يرتع فى أرض مصر من يقول «طظ فى مصر». هذه ليست النهاية، ولكنه فاصل مؤسف فى تاريخ مجيد.

رشدى سعيد:
 ناس مصر، وكذلك الطيور والأسماك ترسل: لك السلام.
فكرى أندراوس، رشدى سعيد،
دار الثقافة الجديدة 2013

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر في جريدة المصري اليوم بتاريخ 10 أغسطس 2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق