السبت، 6 يوليو 2013

النخبة وشريان الإرادة

                


لا أحد يستطيع أن يرفع عينيه فى الشارع الآن، أو يغفل لحظة عن دقات قلب البلد التى تتسارع وتكاد تصم آذان من يسمع أو يرى.

 مشهد الجمع الهائل هو وحده الذى يبدد القلق.
 جموع الناس معاً تصنع المستقبل، كأنها تعرف الطريق.
عندما تعود وحدك لا تبقى إلا حيرة وقلق!

أين النخبة؟
 شباب تمرد البديع قدموا الحركة البسيطة رائعة العبقرية والجمال، وتدفقت مصر العفية اليقظة، أنهار إرادة فى الشوارع والميادين تطلب أن يذهب الوجه القبيح، أن تنقشع عن السماء سحب الكآبة والغباء وضيق الأفق!
 وقد حدث!
 أجريت عملية جراحية دقيقة، وأفاق المريض..
ثم بعد:
 قلق دقات قلب البلد تتسارع وتكاد تصم الآذان.

 ولأن ظرفاً صحياً كئيباً ممتداً يمنعنى من أن أذوب فى جموع الإرادة العفية التى تصنع التاريخ وتحدد الفعل فإننى أبقى فى البيت أسير القلق، معرضاً لكلمات النخب المحيرة، الزاعقة بلا معنى، المختلطة المختفية وراء أغراض متنكرة فى هيئة أفكار، وانتهازية مقنعة: بدين أو أيديولوجية، تشدد أو جهل أو تطرف، وحدى: بعيداً عن إرادة الملايين أدرك أن عصر الأيديولوجيات انقضى، وأن صراع الأصوليات فى العالم كله أصبح كأنه صراع الديناصورات، صاخب وعنيف وبشع ولكنه حتماً سينتهى- الآن أو بعد فترة- بأن يقضى الجميع على الجميع كل الأصوليات ستختفى لأن العالم يتغير كل لحظة كل ثانية.

الصناعة التى أراها من موقعى، الصناعة الوحيدة التى أحسبنى قادراً على متابعتها هى صناعة: الفكر، والأخلاق، والقيم، لها كل لحظة وجه جديد.

 لها كل ثانية إضافة، ولها رغم ذلك ثوابت منذ فجر الضمير عند الفراعنة ومنذ الصياغات اليونانية للعدل، والحق، والجمال، ثم ديانات الشرق التى وحدت الكون وقطعت المسافة الغامضة بين الحياة والموت، إلى أن قدم قلب العالم «القدس، ودمشق، وطيبة، ومنف، ومكة» ديانات السماء الثلاث التى مازالت تحرس الوجود وتشعل فيه نيران القداسة والحرب والحب والكراهية.

أعتذر عن هذا الاستطراد الطويل الذى دفعتنى إليه:
 الثورة المشتعلة حولى والكتاب النابض بالصدق والحرارة الذى أهدانى إياه الصديق أحمد الخميسى «أوراق روسية»، فقد كان العنصران معاً وقت الثورة والكتابة كأنهما حجران أخرجا هذه الشرارة.

أحمد الخميسى المصرى القح يحب روسيا التى سافر إليها وعاش فيها يحبها حباً جماً، ويفهم روحها حتى إنه يقول بعد أن اضطر لأن يودعها:
«لمن عاش فى روسيا وقتاً فإنها تشبه (النداهة) ساحرة، فاتنة، ذات جمال طاغ، عليك وأنت ترحل عنها ألا تلتفت خلفك، لأن نظرة واحدة إلى عينيها قد تقيدك فى مكانك إلى الأبد».

فى كتابة أحمد الخميسى شىء من هذا قصصه«المجموعة الأخيرة كنارى:
حسبتها أهم وأجمل مجموعة منذ يوسف إدريس» مع صدق جديد ومعرفة حديثة بتطورات السرد:
 كتاب «الباب المغلق بين الأقباط والمسلمين»
«الهلالى القاهرة: 2008 ثم 2012» من أوضح وأصدق المعالجات للعلاقة الأبدية لست فى مجال سرد أعماله ولكننى أريد أن أشير إلى خصوصية مكانه فى الحركة الفنية والثقافية المصرية، وإلى النوع الخاص من المصداقية التى يتمتع بها المزينة بالشرف والاستقامة.
فى الأوراق الروسية:
 نص لم يترجم من قبل لتشيكوف «على الأقل لم أر له ترجمة عربية من قبل» هو «حكاية ذبابة حمقاء» اسمحوا لى بأن أنقله لكم: دون أن أقصد شيئاً بذلك!

«ذبابة طارت فى أرجاء الغرفة تتشدق بصوت مرتفع بأنها تعمل فى الصحف أخذت تئز فى الجو(أنا كاتبة! أنا صحفية! افسحوا الطريق أيها الجهلاء!)» سمع البعوض والبق والصراصير والبراغيث أزيز الذبابة.
 شعروا ناحيتها باحترام خاص.

راحوا يدعونها إلى بيوتهم لتناول الغداء، بل أخذوا يقرضونها المال، أما العنكبوت الذى يخشى الظهور علناً فقد انزوى فى ركن وقرر ألا يلوح أمام عينى الذبابة.

- استفسرت البعوضة- التى تتمتع بجرأة كبيرة- من الذبابة فى أى صحف تكتبين يا ذبابة أيفانوفنا؟
- تقريباً فى كل الصحف! حتى إن هناك بعض الجرائد التى أضفى عليها بدورى الشخصى صبغتها العامة ونبرتها بل اتجاهها العام!
 من دونى لكانت صحف كثيرة قد فقدت طابعها المميز.

- وما الذى تكتبينه فى الصحف يا ذبابة أيفانوفنا؟
- أنا أترأس قسماً خاصاً.
- أى قسم؟
- نعم أى قسم.
وأشارت الذبابة الكاتبة إلى بقع كثيرة من وسخ الذباب..
على سطح ورقة جريدة!

يملك أحمد الخميسى، كما يملك الشعب الروسى نوعاً من السخرية الفكرية الكاشفة والموجعة التى يستعملها فى مكانها فتصل كأنها سهام. يقول فى كلمة الوداع الأخير التى يختم بها كتابه ويودع بها روسيا الأرض التى عشقها وراقب عن قرب ما حدث بها من تحولات:
من السوفيت، عبر البرسترويكا إلى الديمقراطية وتفتت القوميات:
«سمة أخرى من سمات هذا الشعب هى التطرف والانتقال الحاد من جانب إلى آخر، من الدعوة لتغيير العالم بالمحبة عند تولستوى، إلى المدافع واغتيال القياصرة من المسيح إلى كارل ماركس، من الشيوعية إلى الابتهالات الدينية.

«فى حديث مع مواطن بسيط قال لى وهو يضرب فخذه بيده: (لم تعطنى الشيوعية أكثر من سروال واحد، يالها من مأساة، لكن الأكثر إيلاماً أن الديمقراطيين حين جاءوا إلى السلطة انتزعوا منى ذلك السروال)».

أحمد الخميسى
أوراق روسية- كتاب اليوم. دار أخبار اليوم. القاهرة 2013

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر في جريدة المصري اليوم بتاريخ 6 يوليو 2013 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق