السبت، 13 يوليو 2013

منتصف نهار الثورة

                                     
               

يوما بعد يوم نرى أن للثورة تياراً قوياً واحداً يتدفق منذ
«25 يناير» شعاراته ثابتة أصلها نابع من قلب الناس ليس للقوات المسلحة أو للإسلام السياسى فيه دور إلا المساعدة والدعم، أى دور غير ذلك هو دور مغتصب أو مصنوع وإذا زاد فهو ثورة مضادة: عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية.

راجع الكلمات البسيطة وتمسك بها، وابحث لها عن معنى فى عقلك وقلبك، قس الأحداث والتطورات والانحرافات، والصعود والهبوط على هذه المسطرة، اقبل ما يتفق مع ذلك ودون ذلك فليذهب إلى الجحيم.

انتصف نهار الثورة، نريد أن نبقى تحت شمس منتصف النهار بعد أن انتفض الناس ضد مجلس عسكرى، كأننا لم نشبع من الكاكى، وانتفضوا مرة أخرى ضد تيار دينى اغتصب الثورة وكأن الشعب كافر، نسى الجميع أن هؤلاء أحفاد صناع ثورة 1919. 

الثورة الأم التى كانت قدوة «للنهضات والثورات فى الشرق»، بنت هوجة عرابى وأم حركة 52: ضد الاحتلال والظلم والفساد من أجل كرامة الفلاح، صنعت «بلادى»، وزجرت الاستعمار القديم، وتراسلت مع الهند الناهضة، وكشفت مبكراً الدور الانتهازى الذى ستلعبه الولايات المتحدة من الدكتور ويلسون إلى الرئيس أوباما.

«الأيام الحمراء» مذكرات الشيخ عبدالوهاب النجار عن ثورة 1919، كتاب فى التاريخ ومنشور ثورى لناشط سياسى حقيقى يعيش بيننا الآن، أقرأ الكتاب وأتوقف فى صفحاته وأحداثه كى أتطلع إلى وجه الشيخ «عماد عفت» وإلى ملامح «مينا دانيال» وأسترجع كلمات الأبنودى:
حب الوطن م الإيمان.. فيا غافلين اصحوا
باب للأمل.. من سنين تعبنا فى فتحه
إحنا بتوع الوطن نموت فداه فعلاً
وبماء قلوبنا الوطن نسدله جرحه
أقل فلاح فى مصر قضاها صوم وصلاة
فماتقولوش إنكم حراس كلام الله
ياللى قتلتوا الشباب دفاع عن الأطماع
وعن المناصب فإنتوا أهل دنيا وجاه
نحن الآن فى منتصف.. نهار الثورة علينا أن نسلك الطريق البسيط المستقيم وأن نعود لنتمسك بالشعار الأصلى القديم وأن ندخل من الباب الضيق.

الشيخ عبدالوهاب النجار «1862-1941» واحد من فقهاء زمانه المستنيرين، مواليد قرية «القرشية» قرب طنطا، من تلاميذ محمد عبده، من مؤسسى جمعية مكارم الأخلاق وجماعة الشبان المسلمين «وهى غير الإخوان!» وهو مؤلف كتاب «قصص الأنبياء» الذى أثار ضجة، واعترض عليه بعض علماء الأزهر، ثم سمح بطبعه وأورد الشيخ «النجار» فى الطبعات المتأخرة اعتراضات العلماء والرد عليها «وكان أغلب الاعتراضات متعلقة بنساء الأنبياء».

 سافر الشيخ إلى الهند، وكتب كتاباً متقدماً عن تاريخ الهند ودياناتها وحضاراتها، كما سافر للتدريس فى السودان وألقى دروساً فى الشريعة والقانون فى مدرسة البوليس فى أول إنشائها.

نحن فى الحقيقة أمام «ناشط سياسى» بمصطلح هذه الأيام، وقد حقق الكتاب ووثقه وضبط الهامش وراجع النشر فى صحيفة «البلاغ» المؤرخ الأستاذ الدكتور أحمد زكريا الشلق، رئيس مركز تاريخ مصر المعاصر التابع لدار الكتب والوثائق القومية، فقدم لنا كتاباً ممتعاً نسترجع به نبض أيام مليئة بالعزة والفخر والكرامة.

فى الساعة الـ5 والدقيقة 30 بعد ظهر يوم السبت 8 مارس ألقى القبض على سعد باشا ومحمد محمود باشا وحمد الباسل باشا وإسماعيل صدقى باشا وبدأت بوادر «الأيام الحمراء»، بات سعد باشا وأعضاء الوفد المصرى ليلة الأحد فى القطار، ثم رحلتهم السلطة العسكرية فى القطار الذى يقوم فى الساعة الحادية عشرة قبل الظهر حتى وصلوا بورسعيد ومنها نقلتهم إحدى السفن إلى مالطا.

ولما كانت الجرائد المصرية ملجمة عن قول الحق، مكتوفة عن الصدق فى الرواية لا تقدر أن تشرح حادثة أو تفصل نكبة من النكبات بأكثر من قولها«حصل فى جهة كذا ما يكدر.. وعادت السكينة فى الحال» فى حين أن ذلك الحادث يكون قد حصد فيه أرواح عشرات وأصيب فيه بالجراحات ما لا يصاب عدد مثله فى واقعة حربية كبيرة، لهذا رغبت فى خدمة التاريخ والحقيقة فى تدوين حوادث هذه «الأيام الحمراء» على وجه الصواب، متحرياً فى ذلك الحقيقة جهد الطاقة ملغياً ذكر الشائعات الباطلة التى تروج فى مثل هذه الأوقات المحزنة.. ليكون وجه الحقيقة أبيض ناصعاً.

ومما امتازت به مظاهرات القاهرة فى هذا اليوم أن السيدات من كرام العقائل خرجن فى حشمة ووقار ليعربن عن مشاركتهن للرجال فى إبداء العاطفة الوطنية نحو بلادهن، وقد ألفن موكباً فخماً يتقدمه أربعة من طلبة الأزهر، أمسك كل واحد منهم بطرف العلم المصرى منبسطاً كما يفعل المسيحيون فى بساط الرحمة عند تشييع موتاهم.

 ووضع الصليب داخل الهلال موضع النجوم فى هذا العلم، ولم يسبق لى ولا لأحد أن رأى مثل ذلك قبل هذا اليوم. وكان خلف الأربعة الأزهريين أزهريان أيضاً يحملان علماً آخر رسم فى أعلاه هلال معانق لصليب. وكتبت على العلم الجملة الآتية «الحرية من آيات الله الحرية غذاؤنا والاستقلال حياتنا»، وسارت السيدات فى صفين على جانبى الطريق تتوسطهن واحدة منهن حاملة علماً أبيض علامة للسلام وفيه الهلال بلون أحمر.

ذهب الشيخ شاكر وقابل السكرتير «البريطانى» الذى اقترح أن يكون الكلام بينهما وهما يسيران فى الحديقة، قال الشيخ «جئت لمقابلتك فى أمر هام وهو أنى أعلمك بما حصل من العساكر الإنجليز أمس من التعدى على مسجد الحسين ابن بنت رسول الله، وهذا ما جرح له فؤاد كل مسلم.

إنكم بهذا العمل أوجدتم فى كل بيت من بيوت مصر مأتماً، فلم يبق مجلس من مجالسنا العامة أو الخاصة إلا وفيه عيون تذرف الدموع، أنا لا أفهم ولا أقدر أن أفهم..

 فى العراق ترجل جنرالاتكم وعساكركم وهم مارون بمكان مقتل الحسين، وفى مصر تضربون المكان الذى دفن فيه بالمدافع، ما بال الحسين يكرم بالعراق ويهان بمصر».

تتوالى الأخبار عن العزيزية وتفصيل ما حصل فيها.
 فمما يقال اليوم أن الإنجليز نزلوا إلى العزيزية، وهى قرية قرب البدرشين، وأمروا أهل البلد بأن يأخذوا معهم ما يخافون عليه من نقود ومصوغات، ويخرجوا من بلدهم، ففعلوا، ولما صاروا خارج بلدهم حاصرهم الإنجليز وانتهبوا ما حوته أيديهم من مصوغات ونقود وقتلوا بعض أهل هذا البلد، وضربوا بعضهم الآخر وافترسوا النساء وافترعوا العذارى.

فى جريدة الأفكار وقعت على قصيدة ألقاها محمد أفندى الهوارى بمناسبة عيد الفصح يقول فى بعض أبياتها:
حى الكنائس عن مساجد أحمد
وانشر أحاديث الإخاء وردد
أنا أناس لا تخالف بيننا
رغم المذاهب فى سبيل المقصد
قل للذى يسعى يفرق شملنا
فى وجه سعيك كل باب موصد
أحبابنا الأقباط هذا عيدكم
لاحت بشائره بفأل مسعد

كتاب «الأيام الحمراء» نبع فياض بروح ثورة مصر الخالدة المتجددة.
الأيام الحمراء. الشيخ عبدالوهاب النجار.
 تحقيق أ. د. أحمد زكريا الشلق. دار الكتب والوثائق 2010.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر في جريدة المصري اليوم بتاريخ 13 يوليو 2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق