السبت، 18 مايو 2013

فن بناء الواقع







نتيجة بحث الصور عن انسي ابو سيفنتيجة بحث الصور عن انسي ابو سيف


أنسى أبوسيف، هو من يصنع من الخلاء مدناً وسفناً ومقاهى، يقيم فى الواقع وفى الصور التى تسكن خيالنا عشرات القصور، والحوارى، والحانات، والأضرحة.


يعيد لنا وقتما شاء أجزاء من تاريخنا حية ملونة.

السينما المصرية مدينة له بقيمة الثلث من الفن الذى تحققه.
 السينما:
 مؤلف، ومخرج، ومهندس مبدع للواقع! كلمة «ديكور» اصطلاح خطأ مأخوذ من الفرنسية، يعنى التزيين والتحلية والتجميل، بينما عمله أن يعطى لدراما الفيلم شكلاً، ويعطى لشكله بعداً درامياً.
 ولىّ الدين سامح ثم شادى عبدالسلام، وبعده جاء صلاح مرعى وأنسى أبوسيف، وقليل غيرهم، هؤلاء ومساعدوهم والفنيون الذين يعملون معهم، هم من صنعوا الأفق الرحب الذى تحركت فيه السينما المصرية الغنية، التى كانت مهتمة بنقل الواقع، أو إعادة ترتيبه، أو التعليق عليه، أو تحريكه قبل أن يكتسح المجال كله أفلام المقاولين، وأفلام اللامسؤولية واللا مبالاة.


 كانت موجة عالية أعقبت الإنفتاح والمد النفطى الوهابى، الذى أغرق البلاد فى أعقاب اتفاقيات السلام وما تلاها من حرب عراقية كويتية، وفوضى خلاقة، وتبعية وعولمة متوحشة.
نحن أمام كتاب غير عادى أبدعه المخرج الشاعر سيد سعيد، عن رحلة الفنان «أنسى» النادرة بمناسبة تكريمه فى المهرجان القومى العاشر للسينما المصرية 2004. كتب الكتاب بشاعرية ومحبة وصدق، فجاء خلقاً مختلفاً على غير مثال، وقدم لنا صورة حية لشخص وأعمال أنسى أبوسيف، إلى جانب تقديمه لتسجيل فنى لحقبة خصبة من تاريخ السينما المصرية وتحولات المجتمع كله.


ولد المهندس الفنان فى كوم أمبو 1943، وكانت مصانع عبود باشا قد ضخت الكهرباء، فى أرجاء المدينة الجنوبية، فأدمن الصبى حفظ الأفلام التى تعرضها دور العرض الثلاث فى المدينة، عاش طفولته الأولى مراقباً حساساً لحركة البيت والشارع ومحطة القطار والسوق.


 يقول «أنسى»:
 «كان السوق يسرقنى، يمثل لى انحرافاً عن نمطية الحياة اليومية فى البيت والمدرسة.

 فى السوق كان قلبى يدق من الفضول واللهفة.
 لاتزال ألوان السوق وأصواته ورائحته تسكن فى عينى وأذنى وأنفى، فى (وسعاية) السوق الكبيرة يباع كل شىء:
 الخضروات، والفواكه، واللحوم، والصابون، وقوارير ماء الورد، أجولة مترعة بالحنة الخضراء والسوداء، وأجولة البلح الأسوانى، والفول السودانى، والخروب والدوم.


 حركة صافية..
 مهرجان..
 فى نهاية السوق شارع ضيق على جانبيه دكاكين صغيرة متلاصقة:
 ورش لنجارين وحدادين وترزية، دكاكين لإصلاح الأحذية، وصنع القباقيب، مبيض نحاس وحلاقين...».
 حمل صوره وأحلامه وانتقل للحياة فى القاهرة، عاش فى شبرا.
 أمتع شىء بالنسبة له كان هو الترام.


 من نافذته المتنقلة عرف أن القاهرة مدائن، وليست مدينة تجمع حضارات متواصلة: فرعونية، وقبطية، إسلامية، وأوروبية متوسطية.
 مدينة تسهر حتى الفجر مضاءة طوال الليل، مدينة السينما والمسارح.

وهو يعيد ترتيب ذاكرته أرجع نزوعه الرومانتيكى إلى تربيته الدينية القبطية فى قلب عائلات الطبقة المتوسطة المحافظة فى الصعيد.
 كما شكلت الأيقونات جزءاً من مخزون ذاكرته البصرية، وكان انبهاره عظيماً، ومازال، بالنسيج القبطى، وبمدرسة الفيوم التشكيلية التى تبهر العالم.

عندما يعود الفنان بعد سنوات وسنوات لزيارة كوم أمبو يجد: مدينة مبقورة بطنها متناثرة على الأرض.
 دور السينما والمحطة والسوق، بيته، وبيوت الأهل والأصدقاء:
 كل ذلك أصبح كوماً من همهمات مبعثرة. انفجار معلق فى الهواء.
 فليرحمنا الله!
                ■

«قضيت أقل من شهر فى كلية الفنون الجميلة، وقبل أن يفتح معهد السينما أبوابه التحقت به» تخرج فى المعهد فى العام الشهير 1967، فى دفعة ضمت أغلب أسماء صناع السينما الجديدة، وكان منهم صديق العمر وشريك الفن المخرج الحكيم داوود عبدالسيد، الذى يصف صديقه أنسى أبوسيف، فى كلمات جديرة بالتسجيل، يقول «داوود» عن «أنسى»:

 «وجه من نسل أيقونات الفيوم، وعقل وذكاء موروثان من صناع الحضارة، وانفتاح المتوسطية على الشاطئ الآخر، حيث الحضارة الوارفة والوافدة، وروح تستمد مرحها من تدفق النهر وسهولة الوادى وخصوبة الأرض وطمأنينة واستمرار الحياة اللا نهائية، وسماحة الفلاح المصرى، ومحبة المسيحية القبطية مع إيمان فرعونى بالبعث والخلود.


تعلم القليل فى المعهد، لكن هناك درس على يد الأستاذ شادى عبدالسلام ثم اقترب منه وعمل معه فى مكتبه أثناء إخراج فيلم (المومياء)، فنهل من فنه ومعرفته وثقافته، وقيمه العالية فى الحياة والفن، اقترب كذلك وتزامل مع الصديق الغالى صلاح مرعى - عليه رحمة الله - وصنعوا جميعاً فهماً جديداً لدور مهندس المناظر كواحد من أعمدة ثلاثة يقوم عليها الفيلم:
 المؤلف - المخرج - مهندس المناظر.

السنوات العشر التى أعقبت خروج (المومياء) أمضاها الأستاذ (شادى) وجماعة التلاميذ والأصدقاء والمساعدين، فى الإعداد للفيلم الذى لم ير النور عن «أخناتون» ذلك لإصرار الأستاذ على مستوى معين للإنتاج، وعلى مصرية الإنتاج، كانت هذه السنوات مدرسة فى الصبر وفى إدراك قيمة الفن واللا «تنازل». «راجع متحف شادى عبدالسلام - مكتبة الإسكندرية - والعدد التذكارى رقم 145 من مجلة (القاهرة) الصادر فى ديسمبر 1994».

                ■

منذ الفيلم الأول الذى قدمه أنسى أبوسيف، فيلم «يوميات نائب فى الأرياف» من إخراج الأستاذ الكبير توفيق صالح، وهو يستكمل أسلوبه فى العملى، الأسلوب الذى سماه سيد سعيد فى كتابه «الواقعية الشفافة».


 أغلب أفلام «أنسى» يكون البطل فيها هو المكان الذى يعيد خلقه ويحمله بدلالات إنسانية واجتماعية..
 دلالات تصل همساً دون تصريح أو صراخ.

من تجربتى الشخصية مع أفلامه أستشهد بفيلم «سارق الفرح» من إخراج داوود عبدالسيد، غامت فى ذاكرتى مع الزمن أغلب عناصر الفيلم، وبقى واضحاً المكان الذى شكله «أنسى»، لحى عشوائى يسكن فى جنب من سماء القاهرة.


خلال ما يقرب من نصف قرن عمل «أنسى» فى أهم الأفلام التى قدمتها السينما العربية.

 عمل مع كل المخرجين الكبار، عمل مع الراحل العبقرى يوسف شاهين، رغم اختلاف المدرسة الفنية، كما عمل مع بركات، وصلاح أبوسيف، ثم عمل مع الراحل رضوان الكاشف، ومحمد خان، وخيرى بشارة، ولعل الإنجاز الأوضح والأهم هو اشتراكه مع داوود عبدالسيد فى جميع أعماله من «الصعاليك» و«الكيت كات» حتى «أرض الخوف» و«رسائل البحر».

كما ساهم مؤخراً فى فيلم «المسافر» لأحمد ماهر، وعمل للمرة الأولى خارج الفيلم السينمائى عندما خلق الواقع الذى تحرك فيه مسلسل «الجماعة» التليفزيونى.

               ■

فى مهرجان السينما المصرية الأخير، الذى عقد فى ظلال الإعلان الدستورى المشؤوم، الذى صدر لتمكين حكم جماعة الإخوان:
 رفض الفنان التكريم الذى قدمه له المهرجان فى درس جديد لموقف الفنان ودوره ومسؤوليته..

 هو لا يحب الكلام كثيراً فى السياسة.. لكننا نختم بما ختم به الكتاب أبيات من قصيدة «الفلاح الفصيح»:
هناك صدع فى السد
والمياه تندفع منه
لذلك أفتح فمى لكى أتكلم.
أنسى أبوسيف: واحد من البنائين.
 سيد سعيد. صندوق التنمية الثقافية. القاهرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في جريدة المصري اليوم بتاريخ 15 مايو 2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق