السبت، 17 أكتوبر 2015

هنا وهناك.. عدل وحرية





جون ماكسويل كوتسى مواليد كيب تاون جنوب أفريقيا في 9 فبراير 1940، يعتبره كثير من النقاد والأكاديميين أهم كتاب اللغة الإنجليزية الآن «البوكر الأصلية مرتين، ونوبل 2003»، يعيش في أستراليا الآن بعد أن ترك جنوب أفريقيا وأخذ الجنسية الأسترالية 2006، يبتعد قدر الإمكان عن الصحافة والإعلام، يركب الدراجة لساعات كل يوم، لا يأكل اللحم، ولا يدخن ولا يشرب، يكتب كل يوم لساعة على الأقل كل صباح، قدمنا منذ أسابيع في هذا الباب واحدة من تحفه «فى انتظار البرابرة» واليوم نحاول أن نقرأ معاً تحفته المحورية «العار» رواية أعتقد أنها من عيون الأدب الحديث شكلاً وموضوعاً.

تصدى لترجمتها إلى العربية الشاعر عبدالمقصود عبدالكريم في سلسلة الجوائز، لغة الرواية وموضوعها يحتاجان إلى دقة وعناية وفرهما لها المترجم، فخرجت نصاً فنياً جديراً بالقراءة المتأنية والعناية.

روايات المؤلف أغلبها معمار فنى جميل دقيق البناء، ليس فيه جملة واحدة زائدة وليس فيه فراغ ناقص، قطع حية من الواقع، تأمله يمتع ويثير الفكر دون تعمد ولا وعظ، جمل الرواية تبقى معك بعد القراءة كما تصاحب شخصياتها وتفكر فيها كأنك قد صرت من المعارف أو العائلة، أظنها موهبة خاصة يملكها المؤلف الذي يستطيع أن يكسو الأفكار لحماً حياً ولا يقدم شخصيات فارغة لا تملك وسائل لحياة مستقلة.

تخصص كوتسى في مطلع حياته في دراسة صمويل بكيت، كاتب مسرحيات العبث الأشهر، الأيرلندى الذي طور مع أستاذه جيمس جويس كثيراً من قواعد ودعائم الأدب الحديث، هو طبعاً لم يقف فكرياً عند بكيت الذي كتب عنه رسالة الدكتوراه، ولكنه مازال يردد حتى الآن أن تركيب الجملة عند الأيرلندى الفنان مقصود لذاته ويحمل دائماً رسالة فنية وفكرية.

«العار» رواية ليست سهلة ولكنها ممتعة، تستطيع بما تملك من سحر الفن الحقيقى أن تعيش معك هنا الآن، تناقش قضايا هنا.. والآن، رغم أنها مكتوبة منذ سنوات بعيدة «1999» وعن بلاد في آخر القارة العزيزة الغامضة، بطل الرواية الأستاذ الجامعى ديفيد لورى، أستاذ الأدب والشعر الرومانسى، ولكنه يدرس لطلبته طبقاً لمناهج الجامعة علوم الاتصال الحديثة التي يجدها هو وتلاميذه فارغة ومملة، بينما هو ملىء في روحه بالشعر والموسيقى اللذين يراهما مع الغناء قلب الإنسانية، ومبرر الوجود. الرجل تعدى الخمسين، تزوج وطلق أكثر من مرة، حياته فارغة إلا من زيارة أسبوعية يقوم بها أسبوعياً في رتابة لبيت من بيوت اللهو حيث يلتقى لمدة ساعة ونصف مع ثريا الأنثى الغامضة التي تصر على أن تبقى العلاقة قاصرة على هذا الوقت وتخفى عنه بقية حياتها، حتى يراها بالصدفة، في مطعم أسماك مع طفلين يحسبهما ولديها، بعد هذا اللقاء تصر على الاختفاء من حياته، لتتركه يتخبط في البيت مع فتيات حديثات السن قليلات الخبرة.

الفراغ الجديد يدفعه إلى الوقوع في لهيب علاقة مفاجئة مع واحدة من تلميذاته السمراوات، التي فتنه شبابها وبعث في روحه حياة الشعر والغناء وذكريات لورد بايرون الذي يحلم بكتابة كتاب عن غرامياته الملتهبة في إيطاليا.

من الطبيعى أن تقود هذه العلاقة التي دخلها دون حسابات أو تحفظ، إلى فضيحة في الجامعة، تجمع صديق الفتاة «ميلانى» وعائلتها ليرفعوا شكوى إلى الجامعة ضده متهمين إياه باستغلال نفوذه لاغتصاب الفتاة، هو يقول التهمة ملفقة ويرفض قرار لجنة التحقيق بالاعتذار العلنى، حيث يرى أنه هو وميلانى دخلا في علاقة دون إرغام أو استغلال وأن الاعتذار اعتداء على حريته وحريتها، ويقبل قرار الجامعة بالفصل حفاظاً على حرية الإنسان «أبيض أو أسود» في التصرف والارتباط، وينتهى الجزء الأول من الرواية الملحمية بالأستاذ يترك الجامعة والمدينة، ويقصد ابنته لوسى التي تركت المدينة منذ سنوات لكى تقيم في الريف الشرقى تزرع الخضر والزهور وتبيع بضاعتها في سوق السبت كل أسبوع.

تستقبل الابنة «لوسى» أباها الذي تركته لتبدأ حياة جديدة في ريف جنوب أفريقيا الذي يعيد تشكيل نفسه بعد انتهاء عصر التفرقة العنصرية ودخوله إلى العصر الذي بدأ بعد قرارات مانديلا بلجان الحقيقة والمصالحة بين الأبيض والأسود، «الحياة» تبدو هادئة ساكنة، ولوسى تدير أرضها الصغيرة بمساعدة بطرس العامل الأسود، الذي تحول في العصر الجديد إلى جار وشريك محتمل في ملكية الأرض، تربى لوسى في مزرعتها عدداً من الكلاب التي ترعاها بمساعدة جارة تدير عيادة بيطرية لرعاية الحيوانات والرفق بها، خاصة الكلاب والقطط الضالة، التي تتزايد في القرية بلا حدود، ويشترك الأب الأستاذ السابق في المزرعة وفى العيادة البيطرية، وتمضى الأيام هادئة في إيقاع جديد خال من الطموح والأحلام، تقول لوسى لوالدها: هذه هي الحياة الممكنة لنا فنحن لسنا من هنا وهذا هو المكان المسموح لنا به، هذه فقط هي الحياة التي نستحقها.

في تطور صادم يتغير كل شىء عقب اعتداء مفاجئ من ثلاثة شباب من السود يقتحمون المزرعة وينهبون ما فيها، ويشعلون النار في الأب بعد أن أغرقوه في الكحول ويغتصبون الابنة لوسى، ويتركون المكان في دمار كامل.

الابنة ترفض إبلاغ البوليس عن جريمة الاغتصاب، ويبلغون فقط عن الاقتحام والسرقة خاصة السيارة، ليتمكنوا من الحصول على التأمين.

الشرطة طبعاً مشغولة بأشياء أهم ولا داعى لإثارة فضيحة في ريف يجد تسليته الدائمة في تداول الحكايات وتضخيم الشائعات، تكشف الأيام عن أن أحد المقتحمين الثلاثة صبى صغير يمت بصلة قرابة إلى زوجة بطرس الذي كان قد اختفى فجأة في يوم الاقتحام. لكى تكتمل الكارثة يفاجأ الأب بقرار لوسى بالاحتفاظ بالجنين الذي تحمله نتيجة للاغتصاب في استسلام غريب لقدر أحمق غامض يشكل حياة لوسى التي تستغرب فقط درجة العنف الذي مارس به السود عملية الاغتصاب، ولا يجد الأستاذ إجابة على سؤال ابنته سوى أن يقول لها إنهم ينتقمون من التاريخ. الفتاة ترى في قرارة نفسها أن من حقها الاحتفاظ بالجنين فهذا هو ما يستحقه، خاصة أن قرارات المصالحة لم تشتمل تعويض السود عن الظلم الذي حاق بهم منذ بداية العنصرية.

بطرس يحتفل بتمام حقه في امتلاك جزء من المزرعة، وفى أثناء الاحتفال يعثر الأب على الصبى الأسود يتلصص على لوسى فتنطلق من داخله رغبات عنصرية قديمة لم يكن يعرف أنه مازال يحملها فيجلد الصبى ويضربه بعنف السيد للعبيد، ثم تنتهى الرواية دون حل، ويدخل الأب إلى العيادة البيطرية لكى يساعد في قتل مجموعة من الكلاب الضالة عن طريق الحقن ثم الحرق في طقس مثير للتساؤل حول المعنى.

أثارت الرواية اعتراض السود والبيض، وأدانها المؤتمر الوطنى الأفريقى سياسياً، ولكن الرواية حققت نجاحاً جماهيرياً في جنوب أفريقيا، وترجمت إلى أغلب لغات العالم.

ترك كوتسى جنوب أفريقيا، واستقر في القارة الجديدة أستراليا، في محاولة جديدة للبحث من جديد عن الإمكانية الإنسانية لتحقيق الحرية والعدالة معاً.

العار- رواية. ج. م. كوتسى. ترجمة عبدالمقصود عبدالكريم. سلسلة الجوائز 2009
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في جريدة المصري اليوم بتاريخ 17 أكتوبر2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق