الأربعاء، 14 أكتوبر 2015

جمال سندس والملك








فى آخر زيارة للقاهرة أهدتني الطبيبة الاستشارية النفسية جمال حسان عددا من رواياتها ومجموعاتها القصصية التى صدرت لها ف القاهرة خلال السنوات التى ظلت تعمل بها فى لندن، وكلها صادرة فى القاهرة، لتخاطب فى إتقان واهتمام فنى وفكرى خاص القارئ المصرى الغارق حتى أذنيه الآن فى الشأن السياسى وأحداثه المتلاحقة، المجموعات القصصية بالذات خاصة مجموعة سندس والملك الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية 2009 تملك كما يقول الناقد الكبير ابراهيم فتحى طرقا خاصة لرؤية قطاعات أساسية من الوجود الانسانى المتنوع فى مصر. الريف والحضر.

الآن وفى ماض قريب. إنها ليست غارقة فى تحليل نفسى أورطان علمى مأخوذ من عملها الذى اتصل لأكثر من ثلاثين عاما، كما أنها - رغم تمكنها الملحوظ من أسرار البيان واللغة العربية البسيطة المستقيمة، ليست مشغولة بشاعرية اللغة وجمالها، ولكن المفاجأة الجميلة أن السيدة مشغولة باكتشاف وتكوين شكل قصصي، وبناء أدبى خاص بها ومتميز، نحن أمام مجموعة قصصية شديدة الاخلاص لفن القصة القصيرة.

فى قصة أم حنونة نحن فى وداع بطلة القصة نعمة التى حملت لقب أم حنونة لعملها فى خبز الحنونات وبيعها فى سوق القرية مع زوجها جودة الذى رحل، ولم يبق منه سوى صورة أخذاها معا عند مصور القرية. بعد يوم ناجح فى السوق أكلا بعدها فى احتفال نادر سمكا وأرزا أحمر عند فرج السماك حلت ضفائرها وأزاحت غطاء رأسها وانسال شعرها فوق ثوبها المشجر بكشكشة على الصدر. كل هذا معلق فى الصورة الصغيرة على جدارها الطيني: السؤال الذى لا تفهمه هو: كيف تأتيها دفعة الحياة تتلبسها مرة واحدة، رغم سنى عمرها، فتحيل بدنها الدقيق شعلة من القوة والنشاط، فتنجز وتنجز دون كلل، ثم تهمد فجأة وتنعدم قواها حتى ليظنها مريضة أو ميتة، وهى بعد يقظة يمتلئ بها المكان تعمره بحلم صبية وبغى وقديسة يتبرك بها الخلق.

ان الأمور تختلط عليها أحيانا، فى حر الشوارع تنام مذهولة مخذولة وتسير مقطوعة الأنفاس دون اتجاه؟
تصنع القصة من أم حنونة عالما كاملا وزمنا يرحل ويقاوم الرحيل، مات الزوج، والابن الغالي التحق بالدير، وصار لا يمكن الاتصال به فهو الآن من أهل السماء وهى من أهل الأرض، رغم الصيام الأربعيني إلا أنها مطلوبة اليوم لتخبز الحنون فى ثلاثة بيوت، وتستيقظ فى الصباح وليست متأكدة إن كانت قد سمعت آذان الفجر أم لا. ولكنها غارقة فى أحلام بالابن الغالي ساكن الدير، المستحيل الوصول إليه، وأحلام بالزوج الراحل يبعث فى الجسد العجوز شهوة مراهقة:
الأحلام تضيء وتتوالد، والأرض تكف عن الدوران، فليس هناك ماض ولا حاضر.

ماتت. ماتت. يادى النايبة، والعجين الخامر!
أم حنونة قصة قصيرة مصرية نادرة!.
فى ليل القاهرة قصة قصيرة جدا جارحة مزعجة، شديدة الواقعية مثيرة للغضب من خلاله التخلف الانسانى الذى وصل إليه بعض المتشددين ممن يدعون الإسلام والفضيلة ويضعون نساءهم وعقولهم وعورات وجودهم خلف خيم سوداء من ظلام عقلى دامس.

أيقظت زوجها بعد منتصف الليل وقالت:
- انصت معي. هناك من يصرخ ويستغيث:
- من فضلك نامي. واتركي الناس فى حالها، لم تفعل. ولم تستطع معاودة النوم، أيقظت البواب الذى دلها على شقة الأستاذ نعمان المعروف (والله أعلم) انه يضرب زوجته، على باب الأستاذ نعمان دقت الجرس وفتح:
- انت عارفة الساعة كام؟ حضرتك عاوزة إيه؟
- سمعت زوجتك بتصرخ
- وانت شأنك إيه؟ - أنت بتضربها؟
- وأنت فين جوزك المحترم؟
- نائم.
سؤال ليس من حقك، ثم إن دى زوجتى وأنا حر فيها.
أغلق الباب وتركنى أتلفت فى فراغ السلم والطرقة نصف المظلمة، التجريد العارى الذى تعمدته الكاتبة جعلنا أمام عالم كابوسى مفزع.

فى المجموعة إحدى عشرة قصة، كل واحدة تجربة خاصة فى الشكل القصصى خاصة قصة روحي والقصة الأخيرة سندس والملك حيث تجرى القصة فى استراحة ملكية لملك سأمان من الحكم يسلى نفسه فى استراحة خاصة مع عشيقة مفضلة، بينما الخادم يحاول اختراع شراب جديد اكتشفه ابنه على شبكة الانترنت، ونقله فى ورقة لوالده، على الورقة نسى وكتب على ظهرها بالقلم الرصاص:
هل يمكن تغيير مسار بلادنا باحتراق حلقة المنافقين والطبالين والمنتفعين حول الملك؟ وبمن أبدأ؟

تجارب الطبيبة جمال حسان تستحق دراسات نقدية ومتابعة، ولا يمكن أن يكون غيابها مبررا للإهمال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 14 اكتوبر 2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق