السبت، 6 يونيو 2015

حنا الأرمنى.. وسلطان القبط





يوحنا أو «حنا» الأرمنى: واحد من الفنانين المصريين القلائل الذين يعبرون بوضوح عن خصوصية وتفرد الشخصية المصرية فنياً واجتماعياً، هو واحد من أهم الفنانين الأقباط الذين شغلوا فترة القاهرة العثمانية، والتى ساد الاعتقاد بأنها فترة ركود فكرى واجتماعى، فى سياق التفكير الشائع بأن الاستعمار والحملة الفرنسية هما مطلع الحداثة والتنوير فى عالمنا الثالث، وهما الفكرة التى حرمتنا - ومازالت تحرمنا- من اكتشاف كثير من جذور النهضة فى الشرق كله، وكتاب «يوحنا الأرمنى» صاحب أهم وأجمل الأيقونات القبطية المصرية، ليس كتاباً عن فن الرجل ورسوماته ولكنه كتاب يناقشه كظاهرة اجتماعية نادرة، تلقى ضوءاً جديداً على مصر فى الفترة العثمانية.


الباحث المتخصص مجدى جرجس قدم فى دراسته لهذه الشخصية وحياتها وأعمالها بحثاً يتحدى كثيراً من الأفكار والأحكام المسبقة التى تحرمنا من رؤية غنى هذه المرحلة، وتحرمنا من رؤية خصوصية الكنيسة القبطية المصرية، والدور الاجتماعى والدينى الذى تتفرد به.

«حنا الأرمنى» فنان عاش فى مصر فى القرن الثامن عشر «توفى 27 يوليو 1786» ينتمى إلى جالية أرمنية استقرت فى القاهرة منذ زمن بعيد «القرن العاشر الميلادى».
وساهمت فى نواح متعددة من الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية أيضاً، وتفاعلت واندمجت مع المجتمع المصرى «خاصة مع القبط» إلى درجة أن يتبوأ أحد أعضائها المكانة الأولى بين رسامى الأيقونات القبطية، فعلى الرغم من وجود عدد من رسامى الأيقونات فى تلك الفترة: مصريين وأرمن وشوام وأروام، فإن حنا الأرمنى هو أكثرهم شهرة وأغزرهم إنتاجاً، الزائر للكنائس القديمة بالقاهرة سواء فى حارة الروم، أو حارة زويلة، أو كنائس منطقة مصر القديمة، سيدهش بالكم الكبير للأيقونات الرائعة التى تزين حوائطها «خاصة كنيسة أبوسيفين»، معظم هذه الأيقونات - كما تقول الكتابات والتواريخ المدونة عليها - ترجع إلى القرن الثامن عشر، كما أنها من صنع فنان واحد هو: حنا الأرمنى.


قدمت هذا الكتاب، الذى أعادت طباعته مكتبة الأسرة فى وقت مناسب، الباحثة المتخصصة الكبيرة الدكتورة نيللى حنا، لكى تؤكد فى المقدمة أن الجهد المبذول فى هذا الكتاب جهد بحثى غير عادى، فقد رجع المؤلف لكى يحيط بحياة الفنان وظروف عمله إلى وثائق المحاكم الشرعية، خاصة محاكم «القسمة» والمواريث، لكى يدرس عائلة الرجل، وكذلك قواعد العمل والمهنة وتنظيم الطائفة الأرمنية فى مصر.

وتلفت الباحثة الكبيرة النظر إلى التحول الهام الذى طرأ على الدراسات التاريخية فى الغرب الذى مازلنا نعتمد عليه فى أكثر معارفنا.

فبعد أن كانت مصر هى بؤرة الاهتمام التاريخى، بذلت جهود كبيرة لتحويل النظر إلى مصطلح دراسات الشرق الأوسط، لكى يتم التركيز على مناطق كثيرة أخرى من تركيا إلى بلدان الخليج توافقاً مع الفكر الاستعمارى الجديد، ومصادر التمويل للدراسات والمعاهد العلمية.

للدكتورة نيللى حنا فى هذا المجال كتاب هام - أعتقد أننا فى حاجة إلى الرجوع إليه فى هذا السياق- هو كتاب: ثقافة الطبقة الوسطى فى مصر العثمانية، الذى ترجمه الراحل رؤوف عباس، وصدر فى القاهرة عن الدار المصرية اللبنانية 2003.
كما تعيد الباحثة المتخصصة لفت الانتباه إلى كتاب آخر هام هو كتاب: بيترجران: الجذور الإسلامية للرأسمالية، ترجمة محروس سليمان. القاهرة 1993.

كل هذا الاستطراد يؤكد أن كتاب: مجدى جرس: يوحنا الأرمنى ليس كتاباً فى الفن فقط ولكنه كتاب يدرس ظاهرة اجتماعية وتاريخية مهمة فى خصوصية تاريخ مصر فى فترة غامضة مهمة محاطة بأقاويل كثيرة عن الجمود والاضطهاد والتخلف.


«حنا الأرمنى» يقدم مثلاً واضحاً على مدى التفاعل والتداخل بين القبط والأرمن، فبينما كانت العلاقات صعبة ومتوترة بين الكنيسة المصرية والكنيسة الكاثوليكية، فإن حنا تزوج مرتين من سيدتين قبطيتين الأولى أم أولاده والثانية التى تزوجها بعد وفاة الأولى ولم ينجب منها، وبينما كانت كلمة «أفرنجى» تستعمل كإهانة واحتقار خاصة فى الصعيد، فإن الجالية الأرمنية كانت توصف بأنهم «الأكثر أمانة، يعملون بمشقة ويعيشون بالكاد»، ولم يكن للأرمن فى مصر سوى دور محدود للغاية يعملون صياغاً، وجواهرجية، وساعاتية، وخياطين. الكنيسة الأرمنية لم تعرف الأيقونات، مع ذلك كان أهم رسام للأيقونات القبطية أرمنياً، وقد مارس الأرمن فى مصر كثيراً من العادات القبطية والتى تعود فى أصولها إلى تقاليد فرعونية قديمة مثل عادات الجنائز، حيث بالغ القبط بالاحتفال بالميت فى مناسبات متعددة: اليوم الثالث بعد الوفاة، واليوم الخامس عشر، واليوم الأربعين، ثم فى الأعياد المختلفة يزورون قبر المتوفى فى أيام «الطُلّع» «المقصود بها زيارة المقابر فى أيام الأعياد» فيقال: طلعة عيد الميلاد، وطلعة عيد القيامة.... إلخ، ويقوم الكهنة بالتبخير والصلاة عند كل قبر، ويدفع له أهل الميت مقابل هذه الصلاة.

وفى كتاب تاريخ أبوالمكارم وصف لأيقونات كنيسة حارة زويلة التى رسمها حنا الأرمنى للسيد المسيح يقول: «هذه الأيقونة ليس لها شكل ولا مثال فى جميع ما صور فى المسكونة».

وفى إحصاء شامل لأعمال حنا التى قام بها وحده أو قام بها مع شريكه فى العمل إبراهيم الناسخ، يصل الأستاذ مجدى جرجس إلى عدد 332 أيقونة خالدة ويرصد تميزاً خاصاً بأيقونات حنا الذى لم يكن من رجال الدين، ففى كثير من الأحيان يوقع على العمل باسمه، كما لم تقتصر الأيقونات على الشخصيات المقدسة بل أدخل فى الخلفية بعض الشخصيات من الشعب العادى، كما ابتكر أسلوب رسم قصة مسلسلة فى شكل أيقونات، فقد رسم فى كنيسة أبوسرجة بمصر القديمة قصة السيد المسيح فى خمس عشرة أيقونة متسلسلة.

ويبدو أن المعلم إبراهيم جوهرى قد كلف حنا برسم أيقونات دير مارمينا بفم الخليج، وكتب حنا على أيقونة السيد المسيح «وكان المهتم (من كلف وأنفق) بهذه الأيقونات الإحدى عشرة، هو المعلم إبراهيم جوهرى عوضه يارب فى ملكوتك وهى من تصوير الحقير حنا الأرمنى»، فمن هو المعلم إبراهيم جوهرى؟

يجيب مجدى جرجس فى هامش طويل وجميل قائلاً:
«يعد إبراهيم جوهرى من ألمع الشخصيات فى تاريخ القبط، توقفت جميع المصادر القبطية أمام سيرة هذا الرجل حتى وصلت مكانته فى الكنيسة إلى حد القداسة، وحظى إبراهيم جوهرى بترجمتين: الأولى من طرف أشهر مؤرخى العصر العثمانى «عبدالرحمن الجبرتى» والثانية من طرف أشهر أساقفة القبط فى هذا العصر (الأنبا يوساب أسقف جرجا وأخميم)، حيث كتب فى رثاء المعلم إبراهيم جوهرى قائلاً: «أرخن (رجل مال وسلطة ونفوذ) أرخن عظيم بار قديس، أدرجت سيرته ضمن السنكسار القبطى كشأن كبار القديسين والشهداء وتحكى قصته للأطفال الصغار كنموذج للحياة المسيحية الفاضلة، كما وصفته المصادر القبطية بلقب (سلطان القبط)، كذلك حرص إبراهيم جوهرى على ترك تذكارات له فى معظم الكنائس والأديرة، وعلى ذلك ذاع صيت إبراهيم جوهرى أكثر من غيره».

طوال قراءتى ومراجعتى لهذا الكتاب وأنا أشعر بمدى التقصير فى الاطلاع على هذا الجانب من التراث المصرى، أحسست بأننى أزداد غنى وفخراً بمصريتى القادرة على استيعاب كل هذا التنوع، إن ما تمثله الحضارة والفكر والفن القبطى المصرى هو شريان أساسى فى هذا الجسد المصرى القادر على احتمال كل ما مر بنا من حزن وشقاء وتعب، القبط والمسيحية فى مصر واحدة من ضفتى النيل، إنها أفق واسع، ورحابة صدر من دونها يصبح التنفس صعباً، رئة من الرئتين تحملنا إلى المستقبل الذى تحاول قوى كثيرة حجبه أو صرفنا إلى الوراء والخلف، كلمات مجرمة مثل التهجير أو مشاعر غبية مثل الاضطهاد أو التمييز. وباء وطاعون لا يحصننا ضده سوى نور المعرفة وهواء التعليم النقى والتمسك حتى النهاية بقيم الحرية والعدل.

بلا خطابة ولا شعارات: نحن نمر بلحظات فارقة ويجب أن نعرف السحر الكامن فيما تملكه مصر من خصوصية تبقيها، رغم الأحزان، قادرة على صناعة المستقبل.
يوحنا الأرمنى وأيقوناته القبطية. مجدى جرجس. مكتبة الأسرة 2015
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في جريدة المصري اليوم بتاريخ 6 يونيو 2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق