السبت، 18 أكتوبر 2014

«مليم» من ذهب

    
                  

يقول الأستاذ نجيب محفوظ تعليقاً على رواية «مليم الأكبر» لعادل كامل، وعلى توقفه عن الكتابة بعدها:
«تعرفنا فى عام 1942، كان عادل كامل على المستوى الأدبى قد سبقنا فى نشر أعماله، مثل (ويك عنتر) التى أصدرها على حسابه الشخصى وأصدر معنا فى (لجنة النشر للجامعيين) روايته (ملك من شعاع) ثم (مليم الأكبر) وبعد ذلك وابتداء من عام 1945، بدأ يتشكك فى دور الأدب وجدوى الإبداع، وأخذ كلامه كله يدور فى هذا المعنى، بحيث إنه لو أن كلامه أثر فينا تأثيراً حاسماً لكنا جميعاً هجرنا الأدب مثله».

ثم يقول الأستاذ:
ليست هناك تغيرات محددة لأن يتوقف الكاتب فجأة وللأبد عن الإبداع، وأذكر أن مثل هذه الحالة قد أصابتنى عام 1952، حين أخبرت زملائى أننى قد انتهيت ككاتب لأننى سأتجه إلى العمل ككاتب سيناريو للأفلام. ومرت سنوات، وعندما عدت إلى الكتابة الأدبية أخبرت زملائى
«أن الحركة قد رجعت مرة أخرى».

 هناك إذن أسباب غير معروفة لدى الكاتب نفسه تدفعه لهجر الأدب أو العودة إليه مرة أخرى.
«وعادل كامل كزميل أديب فإننى أكن له كل الاحترام. أما كصديق فهو من أعز أصدقائى، ومن يوم تعارفنا عام 1943، والود متصل والصفاء متبادل».
رحم الله الجميع.

عادل كامل أديب فنان مثقف، ومحامٍ بارع هاجر إلى الولايات المتحدة، وحقق نجاحاً كبيراً ونشرت له فى آخر أيامه أعمال قديمة بتدخل من صديقه المقرب المخرج الكبير المرحوم توفيق صالح.
يكتب عادل كامل مقدمة طويلة ومهمة لرواية «مليم الأكبر» فيها غضب واحتجاج ويعتبرها كثير من الكتاب أساساً من أسس الحداثة المصرية.

عادل كامل «1916-2005» أصدر الطبعة الأولى من
«مليم الأكبر» 1944، ويقول فى صدر المقدمة الطويلة
«150 صفحة» التى كتب لها عنوان:
 مقدمة فى تأديب مليم فى فنون اللغة والأدب.

 وعلى الرغم مما فى المقدمة من دراسة تفصيلية لحال الأدب العربى- فى ذلك الوقت- وتاريخه القديم والحديث، فإنه يعطى المقدمة شكلاً فنياً ساخراً فى هيئة حوار بين الكاتب وبطله مليم يعطيه دروساً فى تاريخ الأدب العربى والآداب الأجنبية ودور الكاتب فى المجتمع وحالة الأدب فى مصر.

 يبدأ فيقول:
«قدمت رواية (مليم الأكبر) فى مباراة فاروق الأول للقصة المصرية التى تنظرها لجنة الأدب بمجمع فؤاد الأول للغة العربية. ولأمر ما رأت اللجنة أن تبيع سمسماً مقشوراً بغير مقشور، فرفضت أن تعطى مليم بضعة الجنيهات المقررة أو أن تعطيه جائزة بدون جنيهات».

كان نجيب محفوظ قد قدم فى السنة نفسها رواية «السراب» وهى الأخرى خرجت بلا جوائز.

رأى الكاتب أن هذا الموقف يعلن عن رأى المؤسسة الرسمية الكبرى «المجمع اللغوى» فى الأدب، وجاءت المقدمة مرافعة رائعة دفاعاً عن فهم جديد للأدب ودوره، ودفاعا تمهيديا لثورة مكبوتة ستنطلق لتشمل الذائقة الفنية والأدبية الجديدة.

 وجاءت دروس المقدمة مقنعة مرتبة أقنعت حتى قارئاً مثلى يتناولها بعد أكثر من نصف قرن، ولا أدرى شيئاً لتوقف هذا الفيلم العبقرى إلا أسباباً شخصية غير مفهومة شكلت بلا شك خسارة للأدب المصرى.

الرواية والمقدمة معاً عمل بديع كما يقول الأستاذ أحمد عباس صالح، أما الصديق الروائى الراحل خيرى شلبى فإنه يقول عن المقدمة
«أهم بيان حداثى فى تاريخ الأدب العربى»
أما أستاذنا شكرى عياد فيقول عن المقدمة:
 باكورة من بواكير الحداثة.
 لن يغنى تلخيصى للبيان أو للرواية عن تتبع تفاصيلها ومعاودة قراءتها، فهى تمثل فى طبعتها الجديدة التى تقدمها مختارات الكرمة تحفة أدبية بحق تزداد قيمتها مع الزمن.
يقول عادل كامل إن المقاييس التى قيست بها روايته وغيرها مقاييس فاسدة مستمدة من فهم مغلوط لدور الأدب يجب مراجعته وتصحيحه. إنهم مازلوا يقيسون الأدب بمقاييس مستمدة من أدب الجاحظ. أليس هو أمير البيان؟!
هذه رسائل الجاحظ، وهذه أشهرها: رسالة التربيع والتدوير، وهذه فقرة من فقراتها:
«احتملها وقل لى ماذا فهمت؟!»:
 جعلت فداك، قد شاهدت الإنس مذ خلقوا، ورأيت الجن قبل أن يحجبوا، ووجدت الأشياء بنفسك خالصة وممزوجة، وأغفالاً وموسومة، وسالمة ومدخولة، فما تخفى عليك الحجة من الشبهة، ولا السقم من الصحة، ولا الممكن من الممتنع، ولا المستغلق من المستبهم، ولا النادر من البديع، ولا شبه الدليل من الدليل. وعرفت علامة الثقة من علامة الريبة، حتى صارت الأقسام عندك محصورة، والحدود محفوظة، والطبقات معلومة والدنيا بحذافيرها مصورة».
من مثل هذه المقاييس كانوا يقيسون الأدب.
 اللفظ فى حجم النيل، والفكر فى حجم النملة.
موسيقى فطرية زنجية موسيقى أدغال.
 الأديب بالتالى تابع وليس متبوعاً.
 لا يقدم جديداً.
 وهم يعتقدون لسبب غير مفهوم أن اللفظ تابع للفكرة، وأن اللغة العربية أعظم لغات العالم وأغناها وأجملها- ولست أدرى لِمَ- فأحبوها لنفسها.
 لقد حرموا أنفسهم من جمال النغم المتصل الذى يعلو ويهبط بغير ضابط.
 جمال اللحن الثائر المجنون الذى يحطم القواعد ويثور على القوانين لأنه هو نفسه القاعدة والقانون.
 جمال الجبال البيض والبطاح الصفر والوديان الخضر، يطوف بها جميعاً طير الفكر فيحط أينما شاء ويغرد فوق أى فنن حيثما يروق له التغريد.
شارك الرجلَ فى فكره هذا (الأساتذة توفيق الحكيم، وأحمد بك أمين، ومحمود بك تيمور، وإبراهيم عبدالقادر المازنى، وناقد أصيل هو أحمد الشايب ونجم جديد فى سماء النقد هو محمد مندور فى «الميزان الجديد»).
أما الدكتور أحمد زكى فقد كان يطالب بترجمة الجاحظ إلى العربية حتى يكون حاضراً فى ميدان الأدب.
يقول عادل كامل مستشهداً على جمال الأسلوب:
اسمع معى يا مليم هذه الفقرة للأستاذ توفيق الحكيم، وقل لى ما رأيك فى هذا اللحن:
طالما جلست فى صباى ساعات طويلة أتأمل قوافل النمل تسير على الحيطان، وكنت أحياناً أدنو منها وأصيح بأصوات مدوية، فما يبدو عليها أنها سمعت شيئاً، فالنظام هو النظام، والخطى هى الخطى، والتجارة الضخمة المحمولة على الأعناق، وهى جناح «صرصار» كبير. مازالت تتهادى مطمئنة إلى عاصمة المملكة العتيدة داخل ذلك الثقب البارز فى أسفل الجدار (توفيق الحكيم «من البرج العاجى»).
رحلة طويلة طويلة قطعها الأدب العربى بعد عادل كامل، ليته ظل معنا، ذلك الذى كان شعاعاً من نور وانطفأ مبكراً.


مليم الأكبر- رواية ومقدمة- عادل كامل
- مختارات الكرمة 2014
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر في جريدة المصري اليوم بتاريخ 18 اكتوبر 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق