السبت، 8 فبراير 2014

زحام.. ولا أحد




 


      

 نعيش هذه الأيام وسط صخب إنسانى غير عادى:
 الناس والأشياء والأوقات غير عاديين، نعيش تحولاً لا يتوقف ولا يتم.
 العيون والوجوه تتغير، لا تعرف فى أى طريق تسير.
 الطرق متعرجة، والكلمات آنية جوفاء فارغة.
 منذ فترة وأنا أشعر أن آلاف الناس يتكلمون فى لحظة واحدة، حتى الكتابة التى أطالعها فى الجرائد والمجلات والكتب، كلمات متطايرة لا تعرف لها مقصداً ولا تكشف عن حقيقة!

ولأننى أحب الكتابة الجيدة، المعتَنى بها:
 أحب الجهاد للوصول إلى التعبير الدقيق، فقد توقفت عند مجموعة القصص «ليلة دخلة شيماء» للكاتب الصديق «حمدى عبدالرحيم»الذى يعرف أغلب المشتغلين بالكتابة عنايته باللغة، وبالتعبير، وبتدقيق المعنى.

 قادتنى هذه المجموعة المكونة من 15 قصة، كما سبق أن عرفتنى روايته المتميزة «سأكون كما أريد» (2011)..
وقبلهما كتابه الكاشف «فيصل.. تحرير» (2009)
- أننى أمام كاتب من نوع خاص، يريد أن يقدم فناً حقيقياً جديداً، وأننى أمام كتابة متخلصة من كثير من الأمراض العصرية: الاستسهال والخلط، والذات المتضخمة.

المجموعة الجديدة: إضافة للقصة المصرية المعاصرة:
 فنية، وشجاعة، ومتنوعة، ورغم العنوان فإنها لا تسعى إلى تحقيق نجاح سهل، ولكنها تضرب فى أعماق اللحظة الحالية المرتبكة سياسياً واجتماعياً وإنسانياً..
 وتتجول فى حرية واقتدار فى أرجاء النفس المصرية المأزومة حضارياً وفكرياً.

تنوع الشكل القصصى فى هذه المجموعة ليس تقليدا أو تجريباً مقصوداً لذاته، ولكنه محاولة للوصول إلى تعبير عن حالة إنسانية واكتشاف معنى وراء الحالة الإنسانية الفوارة التى يعيشها المجتمع الآن.

وعلى الرغم من أن القصص تتكلم عن السياسة، وعن تجربة الثورة فى أيام ميدان التحرير، وعن الحب والغرام والجنس، وعن وحدة المثقف وغربته، وعن أولاد الشوارع والبغايا والناس العاديين
- فإن القصص كلها تدخل بك إلى درجة من المكاشفة والصدق تجعلك تشعر بأن الكاتب يصور عالماً يبحث عن حل أو كما يقول هو فى مكان ما «إن الأمة التى تتمسك بفنها تنجو».

«شيماء» التى تحمل المجموعة اسمها، شخصية مرسومة بعناية فنية وبدرجة عالية من الحساسية، هى محاولة لجمع الحالة الاجتماعية والسياسية التى صاحبت ثورة يناير وخلقت أسطورة أيام التحرير الثمانية عشر.

 هى بنت من الشارع تسقط أمام حقيقتها كل التصنيفات والأوصاف، فلا هى واحدة من البغايا، ولا هى بنت من بنات الشوارع، ولكنها حلم إنسانى تجسد فى وحدة مع المكان الذى صنع ثورة مصر، التى أشارت إلى طريق المستقبل والتغيير دون أن تكتمل الجملة أو يتم التغيير.

فتاة تروى حياتها لمحقق مختفٍ، غيابه حياد مؤلم قاتل، يملك الحكم ولا يتكلم، وهى تقول له كل شىء ولا تطلب شيئاً.

هى ضبطت فى الميدان بتهمة دعارة ملفقة بلا فهم ولا إنسانية ولا تقدير، بعد أن قتلوا كل ما فى حياتها من إنسانية وحلم بحياة مختلفة:
 تروى للمحقق الباشا كل تفاصيل حياتها، لا تنفى شيئاً ولا تدافع عن شىء، ولا تكذب، ولكن تعبر عن حلم مُنع منها. أسطورة عادية تصنع الفول وتبيع مناديل الورق وجسدها..

 وحلم كان قريباً وتبدد، فى النهاية تقول إنها ليست قاصرا ولا... إذا أردت شنقى فتفضل، ولكن لن أهب إلى الأحداث ولو سقطت السماء على الأرض، وهذا آخر كلام عندى.
 يمكن أن تقبل أى شىء إلا أن تعود إلى الوراء.
 وعندما حكت شيماء عن الميدان كتبت شعراً لا هو عامى ولا فصيح.

 لا قديم ولا حديث.. شعر من الأحلام قالت:
 «يا سلام يا باشا على التحرير وناسه، والله يا باشا كل ما أفكر فى الجنة أجد نفسى أتذكر التحرير.. يا.. التحرير ياباشا وناسه وأيامه ولياليه، سحر يا باشا، وكتاب الله العزيز سحر، وتصدق بالله أنا لم أركعها منذ (...)، الولد فى عربة قطار بضاعة متعطل فى محطة العياط، ركعتها فى التحرير يا باشا، مرة بوضوء، ومرة بتيمم، ومرة بلا وضوء ولا تيمم، ربنا رب قلوب يا باشا.
 أول ما الشباب يصطفوا صفوف الصلاة كان قلبى ينخلع على الصلاة وكأننى شيخة من مشايخ الأزهر».

القصة كلها شيماء تتكلم.
 وشيماء هى من هى، شيماء: من قاع الشارع ومع ذلك تجد القصة «مكتوبة» بلغة فريدة لا تتكرر.
إنها أمة تحاول بفنها أن تنجو.

رغم تنوع الشخصيات فإن إيقاعاً موسيقياً واحداً يحمل صوت المؤلف دون أن يكون مسيطراً أو طاغياً على تفاصيل الشخصية أو أزمتها أو حدود ملامحها، الإيقاع الشخصى كأنه ألوان مميزة لرسام مقتدر، أو هى تصنع وحدة زمان ومكان. تجارب الحب والجنس تخضع فى الكتاب كله إلى مقولة:

 أن لا سبيل إلى المعرفة إلا بالملاحظة والخبرة.
 لذلك تجد أن كل شخصيات القصص، وكل الأحداث موضوعة تحت ضوء كاشف لكنه ناعم، «كأنه ذرات ضوء العصر وهى تنفذ عبر النوافذ المغلقة فتضىء السرير بمطر ناعم من لذة مؤلمة».

امتلك حمدى عبدالرحيم فى قصصه هذه نوعاً من المعرفة الحسية بالواقع وبالناس أكسبت عمله كله حساسية خاصة جديدة كأنه اكتشف عيناً خاصة جديدة يرى بها الواقع ويفهمه ويقدمه فى بلاغة وإيجاز.

 يقول فجأة فيكسب عمله كله بعداً جديداً.
«كنت أبحث عن لحظة ميلاد الروح وهى تتحرر من قبضة الديكتاتور لتسقط فى فوضى الحرية».
تنقل هذه الجملة قصة حب عادية بين محرر حوادث وزميلته فى الأرشيف، دون تصنُّع أو افتعال.

 إلى بعد جديد وآفاق بعيدة، وتُبقى القارئ متحركاً بحرية فى أبعاد إنسانية وفكرية للعمل القصير البسيط.
 كما تحيره صورة «الشخصية التى تعانى من سأم عام، ورغبة فى الموت.. مع شبق للحياة».

وسط كل هذا الصخب الاجتماعى والإنسانى الذى تعبر عنه المجموعة بمهارة يتحرك بطل ليس جباناً.. لكنه يشعر أحياناً أنه صفر، وغالباً ما يبحث عن «سكينة الروح». غريب يبحث عن سجادة بنفسجية للصلاة.

 ويريد أن يعرف الجواد الرابح قبل المراهنة، لكنه يدرك أن الثعابين كلها واحدة، ليس بينها ثعبان طيب.

فى أوائل المجموعة قصة نادرة مشغولة بتجربة اجتماعية وإنسانية حية هى قصة: «مناقب سيد صومال» تكشف عن رغبة دفينة فى نفس المؤلف لصناعة جداريات روائية حديثة للواقع المصرى الجديد المتغير.

ولكن إذا كان لى أن أختار موضوعاً استطاع الصديق حمدى عبدالرحيم التعبير عن كل تفاصيل ودقائق مشاكله القديمة والجديدة دون ابتذال أو ادعاء أو تزيد، فهو موضوع العلاقة الإنسانية بين الرجل والمرأة فى ظروفنا الممتدة من الصعيد حتى قلب المدينة، يعبر بمهارة عن كل الأحلام والأمراض والمشاكل التى تشكل علاقة الرجل بالمرأة هنا والآن:

سمر. أحبك فبوحى، تقولى شيئاً يكسر محارة الحزن التى تغلفك، تقدمى نحوى ولو شبراً، أرسلى رسالة تعد بشىء غير هذا الصمت والحزن المكابر».

ليلة دخلة شيماء. قصص. حمدى عبدالرحيم.
 أوراق للنشر والتوزيع 2014.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 8 فبراير 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق