السبت، 15 أغسطس 2015

من يوميات عائلية




قصة عائلية أو «يوميات عائلية» للكاتب الإيطالى فاسكو براتولينى «فلورنسا 1913-1990» عمل روائى «فريد»، كما يقول كثير من نقاد الأدب الإيطالى، هو أولاً من البذور المبكرة للواقعية الجديدة التي شغل بها الفن الإيطالى في الأدب والسينما مطالع ومنتصف القرن العشرين، كما أن الرواية تكشف عن طريق جديد لدمج السيرة الذاتية للكتاب مع الخيال والشعر والبناء الروائى المحكم.

فاسكو براتولينى، واحد من مؤسسى الواقعية الإيطالية، يؤمن بوضوح في كل مراحل حياته بالوظيفة الاجتماعية بل والتعليمية للفن، هو ابن عائلة من الطبقة العاملة من مواليد مدينة فلورنسا ذات التاريخ الثقافى والسياسى والفنى الخاص، مهد عصر النهضة وكثير من الحركات الفنية والفكرية الحديثة، عاصر بداية الحرب العالمية الأولى. وفقد والدته وهو طفل في الخامسة، عاش حياة صعبة في بيت جده وجدته لوالده، وبعد ذلك في بيت الزوجية الجديد لوالده، لم يتلق تعليماً منتظماً وعمل مبكراً في مهن مختلفة في الشارع، حتى استقر لفترة كعامل طباعة، اقترب من الكتب وأدمن القراءة «دانتى- كلاسيكيات اليونان- ديكنز- والأدب الفرنسى» أصيب بمرض السل، وعاش في مصحة لمدة عامين «1930-1932»، وخرج ليعمل بالسياسة فيما كان يطلق عليه «اليسار الفاشيستى»، وسرعان ما اكتشف الخدعة وانضم للحركات اليسارية وقوات المقاومة ضد الاحتلال الألمانى، وانتهى مع الحزب الشيوعى الإيطالى الذي تركه في إدانة معلنة عند احتلال الاتحاد السوفيتى للمجر، أصدر في فلورنسا مجلة أدبية فكرية صادرها الفاشيست، وله أكثر من 19 رواية، وفى الستينيات اشتغل بالسينما وتخصص مع كبار مخرجى الواقعية الإيطالية في كتابة السيناريو والمسرحيات القصيرة، له رواية بعنوان «الشوارع العارية»، ترجمها في الستينيات الأستاذ إدوار الخراط.

بعد ساعات ممتعة حقيقية مع الرواية والفيلم، لم أعرف من المسؤول عن بعد الأدب والفن الإيطالى عن حياتنا الأدبية والفنية والفكرية، هم يقدمون غذاء حقيقياً للروح! الغربة فيه قليلة والذائقة قريبة، البحر المتوسط يجمعنا رغم كل شىء؟!

الرواية تقع في ثلاثة فصول وهى مكونة من 50 قطعة أو مشهداً قصيراً، يلخص أحد النقاد الإيطاليين الرواية ببراعة فيقول: فاسكو كان عمره خمس سنوات و«فيروتشو» عمره خمسة وعشرون يوماً فقط عندما تتوفى أمهما، البؤس يدفع الجد إلى اتخاذ قرار مؤلم بالتنازل عن الأخ الأصغر ليتبناه مدير منزل أحد البارونات الإنجليز الذي يسكن في «فيلا روسا» قصر على الجبل في ضواحى فلورنسا، الأب يعترض في البداية ولكنه يرضخ لإدراكه أنه لن يستطيع أن يوفر لابنه حياة أفضل.

هكذا يقضى الأخوان شبابهما منفصلين مادياً ومعنوياً، رغم الزيارة الأسبوعية المتقطعة إلا أنه لا يوجد تفاهم بين الأخوين، بل عداوة صماء، «كل شىء حولك لم يكن يشجعنى على حبك»، ولكن البارون يموت ويضطر رئيس الخدم أن يهبط الجبل ويعيش في غرفة مستأجرة مع فيروتشو، الذي تربى على قيم ومعايير مختلفة، علموه أن يحتقر أهله وأعطوه معلومات خاطئة عن أمه، وحتى اسمه فقد غيروه كان دانتى الذي اعتبروه «سوقى» اسم بلدى.

يستجمع الفتى ما بقى في روحه من شجاعة ليواجه عالماً عدائياً ليس أمامه إلا أن يبحث عن بقايا حب في نفس أخيه يستعين بها على احتمال حياته الجديدة، أخوه وجدته وذكرى أمه: «لقد فكرت في أمى طوال الليل، واكتشفت لماذا كنت أشعر دائماً بالوحدة في حياتى، لقد افتقدتها هي، لو كانت حية، لكان كل شىء في حياتى قد تغير».

الأخ الكبير فاسكو يحيا حياة صعبة، باحثاً عن مكان في الصحافة والأدب لكن بذور الحب تعاود النمو بينه وبين أخيه الأصغر، خاصة بعد وفاة الجدة التي كانت تجمعهما أحياناً عندما تخرج من دار المسنين في إجازة لنصف يوم.

الفقر والبطالة والأشغال اليدوية الشاقة التي يضطر إليها دانتى القديم توقعه صريع المرض، ويعود جدار أصم جديد يفصل بين الأخوين: الموت، الذي لا حل معه ولا مفر.
هناك كما هو واضح تشابه بين حياة المؤلف والرواية، وهو يؤكد هذا التشابه وينفيه في حيلة فنية شاعرية حيث يقول في تقديم الجزء الأول من الرواية والذى أعطاه عنوان «زهور سنواتك الرغدة الساقطة» يقول: إلى القارئ:
«هذا الكتاب ليس وليد الخيال، بل هو حوار الكاتب مع أخيه المتوفى، هدف الكتابة هو البحث عن السلوى.. لا شىء غير ذلك، الكاتب يشعر بالذنب لأنه لم يدرك البعد أو المعنى الروحى في حياة أخيه إلا بعد فوات الأوان، لهذا فهذه الصفحات تسعى بلا أمل للتكفير عن الذنب».

تعيش طوال الرواية- التي ليست طويلة 200 صفحة في هذا الوهم المخاتل الذي يكسب الأحداث نوعاً من الألم المفارق الذي تكاد تشعر به على جلدك وفى روحك وأنت تعانى صعوبة التواصل بين الشقيقين، ومحاولاتهما التقارب والتباعد، والتذكر والنسيان يقول الكاتب «الأخ الأكبر»: «كل إنسان يحمل ذكرياته ابتداءً من يوم معين: البعض تبدأ ذكرياته بلعبة، البعض بنكهة طعام، أو بمكان، أو بوجه.. أول واقع تعرفت عليه في ذاكرتى: هو هيئة أمى على فراش الموت، بقيت طوال عمرى لا أفصل بين أمى والموت، خادم اللورد الذي رباك كان يكرر.. أمى ماتت بسببك.. لم أعد أكرهك لهذا السبب، أمى كانت ستموت على أية حال، كونك أنت السبب كان جزءاً من الغموض الذي يحيط بالمشهد الأول والوحيد الذي أذكره لها.. لذلك فأنت كنت تنتمى إليها: كنت قد مت معها».

واقعية الرواية وما تخلفه على الجلد وفى الروح من وجع لا تعتمد فقط على هذا الخلط المتعمد بين السيرة الذاتية والخيال ولكن في اختيار التفاصيل والمواقف وطريقة ترتيبها ورسمها، فمثلاً تراه يصف فيلا روسا أثناء زيارة الطفل لأخيه فتكون السمة الأساسية الباقية هي الصمت والسكون الذي يفرق بين بيت الأغنياء وبيوت الفقراء: «الشىء الحى الوحيد كان صوت ساعة الحائط الذي كان يبرز السكون أكثر من كونه يقطعه».

«أنت عشت طفولتك بلا إصابات في ركبتيك، بلا لعب ممزقة أو وجه مطلخ بالطين، بلا أسرار أو اكتشافات، بلا أصدقاء، في صمت الفيلا الرهيب، ممنوعاً من البقاء في الشمس، أو الضوء الشديد، أو في الظل.. كنت محروماً من رفع الصوت أو من الجرى، أو من خطف ثمرة».

عندما استطاع «فيروتشرو» أو دانتى القديم الحصول على وظيفة فراش في مكتب حكومى، ترك الفتاة التي كان يحبها، وتزوج زميلة في العمل وكانت بينهما علاقة باردة، في سرير مرضه وهو يصارح أخاه الأكبر اعترف له أن زوجته لا تزوره ولا ترد على خطاباته، وأنه نادم على الحب الذي ضيعه، يقول له أخوه الأكبر: الراوى.. الكاتب.

«الحب الحقيقى هو حب الفقراء، الرجل والمرأة الفقيران المتزوجان، يجب أن يكون بوسعهما توحيد روحيهما في روح واحدة ليستطيعا المقاومة، وتشجيع بعضهما، الحب المتبادل والتشجيع المتبادل هو دم جديد يضخ في دمك هو تضامن مع الشريك، ولكن حب الفقراء هو الأكثر هشاشة، إما أن تتناغم فسيفساء الأرواح بشكل تام، وإما أن يتحطم كل شىء ويضيع، ويتحول الحب إلى وحش كاسر، إلى يأس، يصبح بغضاً ويتحول إلى مأساة»
رواية حقاً فريدة، قريبة وبعيدة، ممتعة ومؤلمة، ساخرة ومبكية، إيطالية.. لا يفصلنا عنها سوى... البحر؟!

قصة عائلية «رواية» فاسكو براتولينى. ترجمة د. فوزى عيسى- دار شرقيات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في جريدة المصري اليوم بتاريخ 15 أغسطس 2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق