الأربعاء، 5 أغسطس 2015

رجل الدين في الأدب المصري -8 ..علاء الديب





سعيد حسني المسيري، في "زهر الليمون" لعلاء الديب، رجل دين من طراز مختلف، فهو أستاذ جامعي متخصص، وهو أيضًا صاحب تجربة سياسية مع جماعة الإخوان المسلمين، فضلاً عن أنه يعرف الغربة خارج مصر، ويعود منها أقرب إلى الانكسار والزهد والتقوقع: "الشيخ سعيد أستاذ الشريعة الذي خلع جبته وقفطانه منذ سنوات. زوجته والأولاد مؤسسة غريبة. استطاع سعيد أن يحشو حياتهم بالنقد بعد أن تغرب في البلاد العربية لخمس سنوات".

شقيقه الأصغر عبدالخالق، وهو بمثابة الابن، شيوعي متقاعد، وكلاهما متسامح إلى درجة اللامبالاة، وتجمعهما نهاية تختلف في إيقاعها الراكد عن البداية المتوهجة المنبئة بوفرة من التطلعات والأحلام التي لم تكتمل. الخلاف الأيدلوجي العميق بين الشقيقين لا يخلَّف عداء أو صراعًا، فالرابطة التي تجمعهما أقوى من التناقضات التي تبدو ثانوية بفعل الزمن والتحولات العاصفة.

غرفة الشيخ سعيد تتوافق مع شخصيته في طورها الأخير: "تقع في الطرف المقابل من البيت. شبه معزولة مغلقة دائمًا. يشعل فيها أحيانًا عودًا من البخور، فتبقى فيها رائحة خاصة مختلطة بوضوئه وصلاته ورائحة الكتب القديمة التي لا يقرأ غيرها".

المكان المغلق المعزول يحمل رائحته ويجسد إيقاعه ويتناغم مع اختيار التقوقع والانصراف عن الضجيج والصخب، ولم يكن فراره من مصر الناصرية إلا موقفًا سياسيًا يعارض به قدر الطاقة ويجنح إلى الاحتجاج والرفض، لكن المنفى في الإمارات بمثابة النهاية المبكرة المؤلمة، والعودة إلى الوطن بعد غياب طويل تحمل معها شخصًا لا صلة تجمعه بالذي كان عليه قبل السفر: "منذ سنوات عندما غادر سعيد مصر إلى الإمارات، كان يقول لي إنه يهرب برأيه ودينه، وإنه لا يرى معنى للبقاء هنا وسط أحلام الاشتراكية البلهاء وعسف النظام والطرق المغلقة. وقال: هذه قصور من ورق. وأنتم تخدعون أنفسكم.

هناك في الغربة، شاخ سعيد. أوغلت به الأيام في أرض يقف فيها وحده. لم يعد يجد معنى للكلام أو الجدل. أصبح يراقب، تراكم الوقت والنقود، وعشرات التفاصيل المتعلقة بمصروفات البيت وسعر التحويل، والمدخرات والودائع. لا يعرف هدوء النفس إلا بالصلاة وقراءة القرآن.

زاد وزنه كثيرًا، وانقطع عن لقاء الأصدقاء. انتهت سنوات الإعارة، عاد إلى الكلية يلقي دروس الشريعة، ويسير جنب الحيط. تكور وأغلق أبواب روحه حريصًا خائفًا يتذكر صباه وشبابه كأنه شخص آخر".

لا تروق له مصر الناصرية باشتراكيتها "البلهاء" ونظامها المستبد وقصورها الورقية، لكنه يصطدم في غربته بحياة أشد قسوة، لا شيء فيها إلا الاستسلام للتفاصيل التافهة المزعجة، ثم العودة بلا شهية أو قدرة على الاندماج مع عالمه القديم الذي اندثر وتبخر. يقول له عبدالخالق مداعبًا:
"- ألا تفتح نوافذك هذه أبدًا.
- وماذا سيدخل.. ضوضاء.. وغبار..
نظر سعيد إليه في محبة واشتياق، وقال له:
- اعتصم معي في غرفتي. يكفيك لف ودوران".

كلاهما مأزوم على طريقته، الإخواني والشيوعي، والصلة واهنة واهية بين الماضي الذي يبدو موغلاً في القدم، والحاضر الماسخ الذي يخلو من المذاق. في حياته الجديدة، يتجنب الضوضاء والغبار، ويغلق أبواب روحه ضيقًا ويأسًا. أين إذن سعيد القديم؟!. يتذكر عبدالخالق حريق القاهرة وأجواء الحزن على الشقيق الأكبر الذي كان مع الفدائيين في القناة: "لم يستطع أحد أن يوقفه، وظل أبوه يسأل عنه ويحاول أن يستعين بمعارفه لكي يعيدوه إلى البيت. كان هو فرحًا يدافع عن أخيه وينسج له في خياله صورًا وحكايات من البطولة والاستشهاد. كان خروجه مع الفدائيين شيئًا خارقًا واضحًا وسط تراث من الأشياء المتوسطة الصغيرة.

عندما احترقت القاهرة تصور أن أخاه سوف يأتي في جيش من الأبطال لكي يقلب البلد، ويطرد الإنجليز، ويسافر في أرض حرة من الإسكندرية إلى السودان. كان يدعو الله ألا تنجح اتصالات أبيه، وألا يعرف مكان سعيد، وحلم ذات ليلة أن أخاه جريح في كهف جبلي وأنه يحمل له الماء والطعام".

الهزيمة ذات جذور قديمة، والصورة الأسطورية ليست إلا وهمًا ينسجه عبدالخالق قبل أن ينخرط بدوره في اختيار مضاد، ينتهي به إلى وهم وانكسار وشعور مزمن بالخواء والضياع والتمزق.

يقول سعيد، وهو يقلَّب في المجلات التي حملها عبد الخالق:
"- كبرنا.. لم نعد نصلح لشيء..
- لا بل هي الأيام لا وجه لها ولا قفا.
ضحكا. أخذ سعيد يحكي له عن الكلية، وعن الدائرة الراكدة التي يتحرك فيها. حتى البحث والمناقشات في الفقه والشريعة، أصبحت من رابع المستحيلات. إنهم يتحدثون فقط عن الملازم، وعن الدروس، وعن الإعارات والإضافي. قال سعيد:
- صار بيني وبينهم فراسخ. صرت راضيًا بما عندي. راغبًا عما عندهم، وأنت ألم تهدأ بعد؟".
المسألة إذن ليست سياسية تتعلق باشتراكية عبدالناصر "البلهاء"، ففي داخل دائرة عمله الديني يبدو المشهد كابوسيًا مرهقًا يعكر الروح ويفسد القلب. لا اهتمام بالفقه والشريعة، والانشغال كله ينصب على المادي الفج الذي يدفع الشيخ النقي المخلص إلى مزيد من التقوقع والاكتئاب، مرغمًا على الرضا، راغبًا عما يلهث وراءه القطيع!.

يحظى عبدالخالق بمكانة خاصة عند الشيخ سعيد، فهو خليط من الأخ والابن. قد يكون صحيحًا أن الماضي لم يعد عندهما إلا بقايا ذكريات، لكن الشيخ لا ينسى أن الاختيار السياسي لأخيه بمثابة الفشل الشخصي المبكر الذي لا يمكن نسيانه:
"- أنت يا عبدالخالق فشلي الأول، لم أستطع أن أستردك من ماركس ولينين.
- كبرنا على الوعظ يا شيخ سعيد.
- أنت لم تكبر أبدًا، مازلت بالنسبة لي أخي الصغير التائه. وأنا هناك في الغربة كنت أراك في أحلامي وقد اشتعلت نيران في رأسك. أقرأ لك آيات القرآن. وأدعو الله أن يتوب عليك من الشيوعية والشعر.
- تاب الله علينا.. لا شيوعية ولا شعر.
- كلنا مذنبون. لا نحن من هؤلاء..ولا نحن من هؤلاء".
لا عداء يكنه الشيخ سعيد تجاه الأخ الضال التائه، ولا ضغينة نحوه. الخصومة مع ماركس ولينين والشعر، والدعاء بالتوبة يُستجاب على نحو ما، فليس في حياة عبدالخالق شيء مما كان يتمسك به قديمًا، بل إن الشيخ سعيد نفسه ينخرط في منظومة المذبذبين الضائعين، أولئك الذين يتأرجحون بين الإقبال على الصراع والإمساك بالمعنى، والتراجع والنكوص والتقوقع اليائس في غرفة مغلقة!.

الغربة التي يعانيها الشيخ سعيد في العمل والبيت معًا، والقطيعة شاملة مع الماضي الحافل بالأحلام، أما الماضي فيدفع إلى الابتعاد عن الضجيج وإيثار السلامة ذات الطابع السلبي المدمر. الابن طارق سعيد أقرب إلى عمه من أبيه، وتوجهاته الفكرية والسياسية هزيمة جديدة تلحق بالشيخ ذي الهوى الإخواني المندثر: "طارق في السنة الثانية من كلية الآداب. سار شوطًا بعيدًا مع اليسار الجديد، يناقش ويعترض على كل شيء، ويرى أن الكل متقاعس بليد، وأن كل المتكلمين ليسوا سوى مبررين لأخطاء، داعين لقبول أوضاع لا تحتمل. كأن الثورة الشاملة على ناصية الشارع التالي، وكأن التغير الشامل حلم لا يقبل الانقسام. هو يحتمل حياته هنا مع الأسرة، وفي الكلية، وفي كل هذا المجتمع بشكل مؤقت".

طارق لا يمثل امتدادًا لأبيه، ومن خلاله تتحقق القطيعة مع المستقبل أيضًا!. إذا كان الأخ عبدالخالق هو الفشل لأول، فإن الابن المتمرد هو الفشل الثاني. الأسرة الصغيرة لا تمنح الشيخ سعيد شعورًا حقيقيًا بالإشباع، وكم يبدو الرجل متألمًا وهو يتحدث عن الزوجة ذات الاهتمامات المادية الخالصة: "جنون. أصبح البيت لا يُطاق. لا شيء ينتهي أبدًا، لا شيء يسكن، كأنها تريدني أن أعود، وأسافر مرة أخرى.. ربما كان هذا فعلاً هو ما تريد".

الشيخ سعيد حسني المسيري ليس من آحاد رجال الدين، فهو أستاذ الشريعة الذي يؤهل طلابه ليكونوا أئمة ودعاة ووعاظًا. إذا كان الأستاذ يفتقد اليقين، وتسكنه المرارة، ويغلب عليه الموقف السلبي الأقرب إلى اللامبالاة، ويشكو من تكالب زملائه على الملازم والإضافي والإعارة، فأي شيء يكون عليه تلاميذ هؤلاء؟!.   
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في موقع بوابة الحركات الإسلامية في 5 أغسطس 2015 للكاتب مصطفى بيومي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق