السبت، 12 أبريل 2014

«مقام عراقى».. حزين

           
  
                  

وسط الأمواج العالية التى تجتاح العالم العربى الآن، وبحلول هذا العام «2014» يمد نصف قرن على رحيل واحد من أنقى وأصفى أصوات الشعر العربى «لم يبق لنا إلا الشعر!»خمسون عاماً مرت على رحيل «بدر شاكر السياب»، واحد من أجمل أصوات الشعر العربى الخارج من العراق، رحل منفياً فقيراً وحيداً ومريضاً بالسل، وهو فى الثامنة والثلاثين من العمر، بعد أن كان صوته الشعرى قد سرى فى شرق البلاد العربية وغربها.

لا أظن أن العراق الذبيح الدامى قادر على تذكر هذه المناسبة الآن!
 «لو أن هناك بقية من عقل أو ضمير: لكانت فرصة تجتمع حولها الأحزاب، والفرق والطوائف، إلا أن سعار الدم قد أعمى القلوب والبصائر».

اتحاد الكتاب والأدباء فى دولة الإمارات أطلق دعوة لجعل عام 2014 عاماً لبدر شاكر السياب، يحتفلون به فى معرضهم هذا العام للكتاب والثقافة والشعر، ويطالبون بمساهمات فكرية وفنية من كل العرب فى شكل اقتراحات ودراسات وأعمال فنية لتخليد هذا الصوت الذى عاش عمره العاصف القصير يحلم بعراق عربى وسط أمة عربية جديدة.

على شاهد قبره وتحت تمثال له فى البصرة نقشت هذه الأبيات التى كتبها وهو منفى مريض ينادى أهله وبلاده:
صوت تفجر فى قرارة نفسى الثكلى: عراق
كالمد يصعد، كالسحابة، كالدموع إلى العيون.
الريح تصرخ بى: عراق
والموج يعول بى عراق، عراق.. ليس سوى عراق
البحر أوسع ما يكون، وأنت أبعد ما يكون
والبحر دونك يا عراق
الشمس أجمل فى بلادى من سواها والظلام
حتى الظلام هناك أجمل فهو يحتضن العراق
وا حسرتاه متى أنام
فأحس أن على الوسادة
من ليلك الصيفى طلاً فيه عطرك يا عراق
كان السياب قمة بيضاء على رأس موجة تجديد الشعر العربى، لا أحد يقول إنه فعل ذلك وحده.
 كانت الأصوات الشعرية فى العالم العربى قبل نصف القرن الماضى تعلن تمردها على قالب الشعر الذى صار قيداً على الروح الجديدة، وعلى نبض الذات الموهبة التى تغيرت تجاربها ورؤيتها للعالم: فى القاهرة مدرسة أبوللو، وإبراهيم ناجى. ومحمود حسن إسماعيل، وعلى محمود طه، ثم كان هناك صوت الأخطل الصغير، بل إن على أحمد باكثير قد حاول ترجمة
«روميو وجوليت» لشكسبير شعراً جديداً.
 فى العراق كانت نازك الملائكة تكتب قصيدة
«الكوليرا عن الوباء فى مصر» وحوالى نفس الوقت كتب السياب قصيدة «هل كان حباً؟» ممسكاً بخيط التفعيلة متحرراً مما عداه.
 فى مطبعة «الكرنك» بشارع الفجالة فى عاصمة العالم العربى طبع السياب «1947» ديوانه الأول «أزهار ذابلة» يشمل الديوان شعره الكلاسيكى.. ويسجل بداية التجريب والتحرر.

 فى الوقت نفسه وفى المطبعة نفسها كان الراحل الكريم الدكتور لويس عوض يطبع ديوانه الشعرى الوحيد «بلوتو لاند» والذى دفع فيه التجريب الفنى إلى مداه: فى اللغة، والشكل والمضمون الثورى الجديد.. ولعل من المفيد حتى الآن أن نكرر ما قاله لويس عوض عن حق التجريب، وضرورته: يقول:
«الطابع العام لهذا الديوان هو التجربة.

 التجربة حق أولى من حقوق الإنسان، حق طبيعى ومقدس ولا يقبل التجزئة.
 لا يفهم أن ينكر هذا الحق أحد، كما لا يفهم أن نقر ونوافق على نتائج كل تجربة. فمن تجارب المعمل يمكن أن ننتج الغاز الضاحك أو الغاز كريه الرائحة. أو تنتج التجربة شيئاً لا نعرفه، أو أن لا تنتج شيئاً على الإطلاق، كيف كان الأمر: فإن النتيجة لا تغنى عن التجربة.

 مهما يكن من أمر فالتجربة تبدد العفن الذى يكسو الماء إذا أسن.. فإن كانت مثمرة جددت تيار الحياة».
وقد غيرت مختلف هذه التجارب شكل الشعر العربى.. ومازالت تفعل!
ولد السياب فى قرية «جيكور» قضاء «أبى الخصيب» محافظة «البصرة» على نهر صغير اسمه «بويب». اسم القرية أصله فارسى بمعنى «الجدول الأعلى» وقد خلّد السياب القرية والنهر فى شعره.
 وعندما حاول أن يعود إليهما بعد أن هزمته المدينة، وهده الفقر والمرض المبكر، والغرام الذى تكرر فشله- لم يجد شيئاً على حاله فحاول أن يبعثهما أحياء فى قصائدة وشعره، يقول للنهر:
أود لو أخوض فيك أتبع القمر
وأسمع الحصى يصل منك فى القرار
صليل آلاف العصافير على الشجر
أغابة من الدموع أنت أم نهر
السمك الساهر هل ينام فى السحر؟
وللقرية يقول:
بلا مطر ولو قطرة
ولا زهر ولو زهرة
بلا تمر كأن نخيلنا الجرداء أنصاب أقمناها
لنذبل تحتها ونموت
سيدنا جفانا آه يا قبره
أما فى قاعك الطينى من جرة؟
أما فيها بقايا من دماء الرب أو بذرة؟

كتاب الشاعر المصرى والدارس والمحقق «الأستاذ حسن توفيق» الذى بين أيدنيا- كتاب قديم جديد يطبع فى مصر وخارجها، ويجدده المؤلف ويضيف إليه، وقد اكتشف قصيداً مجهولاً للسياب بعنوان «نبوءة حزينة» لعل الكتاب يكون دافعاً لمساهمات أخرى من أجل السياب. ليسمح لى القارئ أن أختم بكلمات للسياب حزينة لكنها تلخص روحه وتجربته، كأنها طابع بريد يحمل صورته:
«أسير أنا فى سفينة قراصنة: موقفى من الموت قد تغير، لم أعد أخاف منه لقد رافقت (جلجامش) فى مغامراته وصاحبت (عوليس) فى ضياعه، وعشت التاريخ العربى كله! ألا يكفى هذا؟ هات الردى أريد أن أنام. بين قبور أهلى المبعثرة.

 وراء ليل المقبرة. رصاصة الرحمة يا إله»!

أزهار ذابلة- بدر شاكر السياب- تحقيق ودراسة حسن توفيق. المجلس الأعلى للثقافة 2012 القاهرة.
 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 12 ابريل 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق