الاثنين، 1 نوفمبر 2010

واحد اسمه علاء الديب






كنت قد كتبت من قبل أننى قرأت منذ ما يقرب من أربعين عاماً مجموعة قصصية صادرة عن سلسلة الكتاب الذهبى عنوانها "القاهرة" لعلاء الديب قبل أن أقابله بعدة سنوات. ومازالت هذه المجموعة ماثلة فى ذهنى حتى الآن، وهى من أوائل المجموعات التى صدمتنى بقوة وفتحت عينى على عالم مختلف، وأدركت على نحو من الإنحاء أنه يمكن التعبير عن المشاعر الحقيقية، وأن الشكل ليس ضماً مقدساً.


كانت قصص المجموعة ومازالت فتحاً واكتشافاً لأنها لا تسعى وراء الحكاية، ولا تعنيها الحكاية والأحداث والوقائع، بل تسعى وراء الإمساك بإحساس ما لا يعرفه الكاتب بل يتبينه ويستكمله عبر الكتابة ذاتها. ففى القصة الأولى ـ إذا لم تخنى الذاكرة ـ هناك رجل يقرر أخيراً أن يتحرر من كل السجون التى سجن نفسه فيها: البيت والعمل والحياة الرتيبة المضجرة فيطير فى جنح الليل وهو مرتدٍ جلبابه!


وتتوالى قصص المجموعة التى صدرت فى منتصف الستينيات تقريبا وشكلت حلقة مهمة من حلقات التجديد فى القصة المصرية، وإن كان أحد لم ينتبه إليها وقتها، بل وأظن أن علاء الديب نفسه لم يكن واعياً بأنه "يجدد" بل كان يعبر عن مشاعر مختلفة غامضة على نحو من الإنحاء، فبينما كانت كل الكتابات ـ أو أغلبها ـ في ذروة انتصار الناصرية جهيرة الصوت زاعقة وتمتلك يقيناً بأن كل شىء على ما يرام، جاءت مجموعة علاء الديب عكس التيار، فلا شيء يدعو لهذه الثقة المفرطة، ولا سبب لكل هذا اليقين الزائف..


ولم تمض عدة سنوات إلا وكانت لطمة الهزيمة عام 1967، وانفجر طوفان القصة القصيرة التى كانت بجنونها ومغامراتها وشطحاتها تعبيراً عن هذه الهزيمة، إلا أن علاء الديب كان من بين الذين سبقوا الجميع بمجموعته الفاتنة حقا الخافتة الصوت بلغتها المشطوفة الناصعة.


وعلى مدى عدة عقود، وعلى نحو لم يتكرر، حرر علاء الديب بابه الأشهر فى مجلة صباح الخير "عصير الكتب". ولعل أهم ما يلفت النظر فى هذا الباب ليس فقط استمراره وانتظامه خلال كل تلك العقود فقط، بل أيضا خلوه تماماً من المجاملات والمصالح الصغيرة والمنطق التجارى الذى كان وراء أغلب الأبواب والزوايا المنتشرة فى الصحف السيارة.


وعندما يتأمل الواحد ما فعله علاء الديب فى بابه، يتذكر على الفور الدور الذى لعبه الراحل الكبير عبد الفتاح الجمل على مدى سنوات وسنوات سواء فى ملحق المساء، أو فى المساء ذاته بعد إلغاء الملحق، فقد وقف الجمل ضد التيار وحدد معياراً للنشر يتلخص فى القيمة والقيمة وحدها حتى لو اختلف الجمل مع ما ينشره، فإنه كان يبادر بنشره. ولذلك لم يكن غريباً أن تخرج كل الأسماء المحترمة من جيل الستينيات من منعطف المساء. كاتب هذه السطور لا ينسى على سبيل المثال، حين تركت له أول قصة لى دون أن أقابله، وفوجئت بها منشورة بعد ثلاثة أيام فحسب.


انتصر علاء الديب للقيمة والقيمة وحدها فى تحريره لـ "عصير الكتب"، وكتب وبشّر وعرّف بعشرات القصاصين والروائيين والشعراء الذين لا يعرفهم، واستمر هذا الملمح حتى الآن فى كل كتاباته النقدية، ويكفى أن نتذكر ما يكتبه فى صحيفة القاهرة بين الحين والآخر، ليتأكد القارئ أن الشاب علاء الديب مازال منحازاً لاختيارات لا يبلوها الزمن، وهى اختيارات القيمة حتى لو اختلفت مع اختيارات علاء الديب نفسه، وعلاء الديب فى مطلع شبابه هو ذاته علاء الديب الذى بلغ السبعين ومازال شاباً قادراً على الاختيار والانحياز للقيمة وحدها.


من جانب آخر، قد يكون إنتاج علاء الديب الإبداعى قليلاً من ناحية الكم، لكن هذا الإنتاج هو الأكثر تأثيراً والأبقى. فإلى جانب مجموعته القصصية "صباح الجمعة" كتب أيضا ثلاثيته المحكمة الرائعة التى ستظل واحدة من العلاقات الكبرى فى الرواية المصرية بابتعادها عن العاطفية والغنائية والشجن السطحى، على الرغم من أن أغلب شخوصها الرئيسية يدفعون الكاتب دفعاً نحو هذه الحلول السهلة. علاء الديب أحد كبار الساردين الواقفين على الحافة بين الإفصاح السهل العاطفى، وبين الإحكام والانضباط ليس على مستوى الشكل فقط، بل أيضاً على مستوى اللغة الناصعة المشطوفة والحريصة على عدم الوقوع فى شراك الغنائية.


وفى "وقفة قبل المنحدر.. أوراق مثقف مصرى" لا يحاكم علاء الديب عصرنا وخيباتنا وأوهامنا فحسب، بل يحاكم نفسه قبل الجميع، ليس من أجل جلد الذات وتعذيبها، بل سعياً وراء الحقيقة واختبارها بعد أن تعرض الوطن لما تعرض له، بحيث بات وطناً يصعب التعرف عليه.


أما اختياراته فى الترجمة فهى ذات الاختيارات التى أخلص لها فى إنتاجه الإبداعى والنقدى. كتاب "الطاهر" مثلاً أو مجموعة "امرأة فى الثلاثين" أو كتاب هيمنجواى عن إحدى رحلاته إلى أوربا وغيرها وغيرها فى الشعر والقصة والرواية والنقد.
لا تكفى المساحة هنا للكلام كثيراً حول دوره كأحد كبار الساردين على الرغم من حرصه على التوارى، ولا أقول العزلة، واحتقاره لتبادل المنافع والمصالح الصغيرة، كما لا تكفى أيضاً للكلام الكثير حول قيمة الاحترام التى جسدها هو دون أى تعمد من جانبه، فقد خلقه الله محترماً.


يملك علاء الديب فضيلة الاستبعاد فى الكتابة، أى استبعاد الزائد والنافل، ثم المزيد من الاستبعاد ليبقى على الجوهر، كما يملك فى الحياة فضيلة الاستغناء عن المجد الزائف بكل أشكاله وصنوفه، وليس من قبيل المصادفة أن أقل الناس ضجيجاً وظهوراً وكلاماً مرسلاً فى وسائل الإعلام هو أيضا علاء الديب.


الحقيقة أننى أشعر بفرح شديد لأننى عرفت علاء الديب، وبفرح أكثر لأنه شرفنى بصداقته، وبفرح أكثر وأكثر لأن هناك واحداً اسمه علاء الديب، فعل كل ما فعله دون أن ينتفخ وينتابه الغرور والخيلاء، بل على العكس تماماً هو أكثر الناس تواريا وابتعاداً عن الضجيج.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمود الوردانى
نشر في مجلة الثقافة الجديدة العدد 242 نوفمبر 2010 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق