السبت، 23 مارس 2013

كن هناك.. حتى أقول لك


  
                    
          
يتناول الكتاب فترة صعبة فى تاريخ مصر. فترة دخول وانتشار المسيحية:
 من القرن الأول الميلادى إلى الخامس فترة قليلة المصادر التاريخية، مرتبكة، تختلط فيها الأفكار والأساطير والفلسفات بالحقائق الاجتماعية والاقتصادية.


تمثل زيارة السيد المسيح الطفل والعائلة المقدسة إلى مصر ملمحاً أساسياً فى هذه الفترة، وهى تمثل اهتماماً رئيسياً بالنسبة للكنيسة الشرقية والمصرية بصفة خاصة، فى حين أن هذه الزيارة تشغل مكاناً ثانوياً- أو غير موجود- بالنسبة للكنيسة الكاثوليكية.


ما ورد فى «إنجيل متى» عن هذه الزيارة يقول: «وبعد أن انصرفوا إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف فى حلم قائلاً: قم وخذ الصبى وأمه واهرب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك، لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبى ليهلكه فقام وأخذ الصبى وأمه ليلاً وانصرف إلى مصر، وكان هناك إلى وفاة هيرودس».


«فلما مات هيرودس إذا ملاك الرب قد ظهر فى حلم يوسف فى مصر قائلاً:
 قم وخذ الصبى وأمه واذهب إلى أرض إسرائيل لأنه قد مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبى. فقام وأخذ الصبى وأمه وجاء إلى أرض إسرائيل» «متى2: 19-21».

المصدر الوحيد هو إنجيل متى والمواقع المشار إلى أن العائلة المقدسة قد نزلت بها حوالى 22 موقعاً «من رفح.. إلى سخا.. إلى المعادى وجبل الطير- دير المحرق وجبل درنكة» إلا أن الدليل الأثرى الوحيد موجود فى دير أبى حنس «تل أتريب قرب سوهاج»، ومن المعروف أن فى هذه الفترة لم يكن فى مصر فرعون. لأن مصر كانت ولاية رومانية، ومقر الحكم لم يكن فى منف، بل كان فى الإسكندرية.


ويناقش الكتاب بتوسع هذه الزيارة المقدسة فى مراجعها الدينية والتاريخية، وما نسج حولها من أساطير ليقول:
«إن مضمون تلك الموضوعات المتصلة بزيارة العائلة المقدسة إلى مصر، يمكن أن يندرج فى ركب التراث المصرى، الذى يعيد للأذهان أسطورة حورس الطفل المخلص، ويعبر فى الوقت نفسه عن أصالة مسيحية محلية فى مصر، وهو طابع تميز به المصريون عموماً فى إعطاء سند أسطورى خيالى مفتوح قابل للتغيير والتعديل عبر العصور يتجلى، وينتشر تحت ظل الضغوط السياسية أو الاجتماعية المتلاحقة على المصريين والمسيحيين سواء تحت الحكم الرومانى- البيزنطى أو تحت الحكم الإسلامى بعد الفتح العربى».


يرصد الكتاب بتفاصيل تاريخية دقيقة أن ما كان يحدث فى مصر هو محاولة لتمصير فكر جديد، تمهيداً لطرحه شعبياً على المصريين فى ظل ظروف خاصة مثل الاحتلال والفقر والمعاناة الدينية والاجتماعية، وأن الصراع الذى كان قائماً بين الوثنية واليهودية والفنوسية «نظرية فى المعرفة مستمدة من الفلسفة اليونانية» كل ذلك جعل الشعب يرى فى الفكر الدينى المسيحى خلاصاً.


الاضطهاد الرومانى الذى كان من الطبيعى أن يقع على الفقراء دفع إلى موجات عالية من الرغبة فى الاستشهاد «عصر الشهداء»، كما أن المسيحية عرفت فى مصر: الرهبنة، خروجاً من صراعات المدينة فى الإسكندرية، وهروباً إلى الصحراء فى شكل فردى أو فى شكل جماعى.


هوس الاستشهاد، وتأصيل فكر ونظام الرهبنة كرد فعل لموجات الاضطهاد أسهم بصورة كبيرة فى تقريب وجهات النظر للمصريين من أجل قبول المسيحية ليس كديانة وافدة من فلسطين أجنبية الطابع، وليس كديانة متطورة من الناموس اليهودى، بل هى كيان دينى صنع فى مصر آنذاك وانتشر.


لعل أكثر ما يدل على التحولات الفكرية ومحاولات التطبيع، والتوطين هو ذلك الاكتشاف المتأخر الذى يعرف بـ«برديات نجع حمادى» ففى عام 1945 وبالقرب من قرية نجع حمادى اكتشف القروى محمد السمان الذى كان يبحث عن سماد لحقله جرة خزفية. فقام بكسر الجرة فوجد بداخلها أكثر من 12 مخطوط هى ما عرف لاحقاً بمخطوطات نجع حمادى.


 هذه المخطوطات تحتوى الأناجيل والكتابات الفنوسية، الأمر الذى يكشف عن أنواع وأعماق الصراع الفكرى الذى كان قائماً.
لعل من أهم أبطال الكنيسة أبطال الفكر المصرى- شخصية أسطورية بالغة الأهمية فى التاريخ الدينى والاجتماعى وهى: القديس أتناسيوس الرسولى،فهو إلى جانب أنه المفكر الدينى الذى صاغ «الإيمان النيقى» نسبة إلى اجتماع الكرادلة فى مجمع نيقية لكى يجرد المسيحية المصرية ويصل بها إلى مفهوم «... نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق مساوٍ للأب فى الجوهر الذى كل شىء به كان إلى جانب هذا الانتصار الدينى والفكرى الذى حققه أتناسيوس الرسولى، وأنه كان بطلا من أبطال المقاومة للنفوذ والسيطرة الرومانية بحيث أن الإمبراطور الرومانى نفاه أربع مرات وظل مطارداً مختبئاً فى وسط بيوت الفلاحين وقوارب الصيادين أكثر من عشر سنوات، وشعب الإسكندرية المسيحى متمسك به لا يقبل أن يحل أحد محله على كرسى البابوية، كما أن أتناسيوس قد ترك وصية لمن يخلفه بعد وفاته مليئة بالفلسفة الدينية الصافية وبحب خالص لمصر وشعبها.
إننى أعتقد أن الكنيسة المصرية، مطلوب منها أن تخرج هذه الشخصية الرائعة من جدران الكنيسة، ومن صفحات الكتب الدينية لكى تقدمها للناس كبطل من أبطال المقاومة، ومن الباحثين الأصلاء عن جوهر الروح المصرية.


الكتاب:المصريون والمسيحية، التاريخ وثقافة الصراع
المؤلف: أ.د. محمد عبدالفتاح سليمان
الناشر: آفاق للنشر والتوزيع
الكويت 2012- القاهرة 2013

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في جريدة المصري اليوم بتاريخ 23 مارس 2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق