السبت، 27 فبراير 2016

علاء الديب وتمجيد الحياة






ابراهيم فتحى

تتناول أعمال علاء الديب الروائية تمجيد الحياة ابتداء من الحياة النباتية، الأزهار والأشجار، ثم الطيور والأطفال؛ وأعماله تحنو على الكائنات البشرية البسيطة التى لا تقترب إلى مستوى السياسات المعقدة. وتتناول رواياته القضايا الأخلاقية باعتبار أن كل سلوك طبيعى تلقائى هو خيّر الأخلاق، وتدب الحياة فى شخصياته الطيبة بأبسط أشكال الحساسية.

عاش علاء الديب مثقفًا واسع الثقافة الأدبية الرفيعة مهمومًا بقضايا الوطن وقضايا الجماهير مدافعًا عن الحريات باحثًا عن المواهب الجديدة متبنيًا لأصحابها فى كتابة أعطاها عنوان «عصير الكتب». وهذا العصير المكثف دائب الإحاطة بالأسئلة الفكرية العصرية محاولاً العثور على إجابات لها تتسم بالتفتح والتقدمية. كما كان مترجمًا ينقل إلى العربية كتب الاتجاهات الحديثة. وتناولت إبداعاته فيما تناولت أزمات المثقفين فى آتون التغيرات السياسية والاجتماعية والنكسات القومية.

وكان بطل رواية الستينيات أيام شعارات الانتصارات والاشتراكية، مثقف الطبقة الوسطى القادم من الريف إلى المدينة يتملكه رغم الشعارات إحساس بالمطاردة والخوف لأنه يرفض الانقياد للطريقة التى أقنعت بها السلطة أغلبية الناس. ولكن روايتى الستينيات «القاهرة» و»الحصان الأجوف» تتناولان موضوعات تتكرر فى معظم رواياته مع تغيرات فى إيقاعها وخصوصًا جمال ورمزية الحياة الطبيعية فى تضادها مع خشونة وقسوة الحياة السياسية. فحياة القرية يكون فيها الترابط العضوى بين الأهل محسوسًا بعيدًا عن الاصطناع والزيف، وتنمو مع موضوعات التناول هذه رمزية الشجرة فى روايات تالية.

وقد نقل علاء الديب الصحفى اللامع طرائق الكتابة الصحفية إلى السرد الروائى فى اعتماد على الصيغة الاختزالية الطبيعية البسيطة التى تناسب جميع مستويات القراء وتصور واقع قيم مشتركة لعالم التجارب المألوفة الذى نقرأ أخباره وحوادثه فى الصحف. وتدور الأخبار على الحوادث المعاصرة فى الهنا والآن؛ والذوات الشخصية فى هذه الحوادث محددة الإطار لها مركز نفسى مرسوم تعى ما بداخلها وتحكم على نفسها وفق سلم سائد مشترك من القيم. ولا يهتم علاء الديب بتقديم طلاء لغوى براق، ويراقب باطنه كأنه حوض شفاف من الماء تسبح فيها انفعالاته كأنها أسماك ملونة. وفى تصوير الشخصيات يحيط البساطة بهالة من التمجيد ويناصر الضعفاء احتجاجًا على العالم المعاصر ويرفض إدانة ما يختلف معه إدانة قاطعة.

وفى رواية «أطفال بلا دموع» -1989- نرى السرد يعتمد على المونولوج الداخلي، المحاكاة المباشرة لكلام المرء مع نفسه، كلام أفراد منعزلين انفصل زمنهم الذاتى عن الزمن التاريخى الموضوعى يدل على درجة معينة من انكفاء الشخصية على نفسها، وأنها فى حالة من الضياع تلجأ إلى الخمر والحشيش ويهرب من الجميع ولكن لا إلى أحد وينزل إلى حدائق جرداء كنفسه القاحلة.

وهناك رائعة أبدعها علاء الديب هى رواية «أيام وردية» (صدرت فى 2002). وكيف تكون الحياة وردية عند أبطاله فى عالم اليوم وهم يعانون من الوحدة والاغتراب والشعور بالكآبة والزيف والخواء والإحباط؟ بطل هذه الرواية مثل أبطال رواية علاء الديب الأولى «القاهرة» يرى شريط حياته ممتدًا أمامه كذكرى صديق مات، وفى استرجاع ماضى حياته والشريط كله يسمى نفسه تعيس الألفي، محبط الألفي، صاحب محلات الألفى للكآبة. هو مفكر عربى قديم ومصلح اجتماعى سابق ومترجم وكاتب منفى داخل جلده يرمز لشريحة عالية الصوت فى فترة اشتراكية الطبقة الوسطى قومية الطراز، ومثل نظرائه كان كثير الأقنعة ملاحًا قديمًا رابضًا على الشاطئ، بعيدًا عن تيار الفعل، مهزومًا. تفرغ لعمل لا شيء وكانت يساريته العتيقة تعاوده كأنها نوبات حمى. ونرى أمين الألفى فى صالة شقته أمام أكواب القهوة الفارغة والمنفضة الممتلئة عاريًا منزوع السلاح ليس عنده ما يقول، وقد تمكن منه العجز والإحباط بصورة مرضية دفعت به إلى مصحة للأمراض النفسية. فى تلك المصحة خلا الألفى إلى نفسه وإلى أحلامه الضائعة. حاول جاهدًا أن يجد تفسيرًا «لما حدث»، ما حدث له وللوطن وللدنيا، الهزيمة المسماة بالنكسة وانهيار المنظومة المسماة اشتراكية وهيمنة الرأسمالية المتوحشة المسماة الليبرالية الجديدة بفوارقها الهائلة. وغرق فى التساؤلات. وهناك يلتقى بفتاة فلسطينية اغتصبها كتائبيون فى الاجتياح الإسرائيلى للبنان وهى خطام. وتبدو فلسطين قضية مصرية شخصية فى وعى جيله. ويتذكر رحلة التنظيم الطليعى الناصرى إلى البلاد الاشتراكية وسط مجموعة مختارة من البلاد العربية مشغولين بالنهم والاستحواذ. وتتسع أيام المخيلة الوردية لكى يأخذ الفتاة الفلسطينية إلى مكان نظيف حسن الإضاءة فى محاولة للتوحد مع الوجود الطبيعي. ولكنه بفقد القدرة على الخيال والعيش بعيدًا عن الواقع، ويخرج من المصحة بعد أن صار شبحًا عابرًا رث الثياب حتى أدركه الموت وحيدًا. وتنتهى الأشياء لا فى صخب ولكن فى نشيج كما يقول إليوت فى قصيدة «الملك لك»، وخرجت أحشاء القرية بالأسمنت المسلح تنزف فى أحياء بأسماء البلاد مصدر النقود. ولاحظ النقاد، وهم على صواب فى ذلك، أن الرواية تخلو من تمجيد رومانسى للذات المنسحبة أو لعصاب البراءة فى ظل السنديانة، أو للوحدة فى وجه الاندماج القطيعى أو الذوبان فى قيم صوفية متعالية، كما تكررت الإشادة بالنقاء الأسلوبى وشعرية بناء الجمل.وقد بلغ علاء الديب فى الصنعة الروائية درجة عالية من الإبداع، وستظل أعماله فريدة فى تألقها، ويبقى أثره فى الكتاب والقراء عميقًأ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت  في جريدة الأهرام بتاريخ 27 فبراير2016


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق