السبت، 27 فبراير 2016

ملامح الاغتـراب الذاتـي في ثلاثية الديب







 وصفي ياسين
علاء الديب هو أديب وروائيّ مصريّ، وُلد في مصر القديمة بالقاهرة عام 1939م، وتُوفي عن 77 عاماً في 18 من فبراير 2016م. من رواياته: زهر الليمون 1978م، ثلاثية الغربة "أطفال بلا دموع 1989م، قمر على المستنقع 1993م، عيون البنفسج 1999م"، أيام وردية 2000م. حصل على جائزة الدولة التقديرية فى الآداب عام 2001م.


القراءة الأولية لثلاثية الديب تُحيلنا إلى مرتكزين أساسيين اعتمدت عليهما؛ الأول: نكسة يونيو 1967م، وآثارها النفسية المدمرة على كافة التوجّهات القومية والإقليمية خاصة الإبداع. والآخر: النزوح الجماعي لبلاد النفط. وتقف بنا على تجربة واحدة هي الغربة وجيلين هما الآباء والأبناء وثلاث رؤى وثلاثة مصائر للأب الدكتور منير فكار أستاذ الأدب العربي، وزوجته –طليقته فيما بعد- الدكتورة سناء فرج، وابنهما الشاعر تامر طالب كلية الآداب.

تنوعت تجليات الاغتراب في هذه الثلاثية بين الذاتي والاجتماعي والمكاني والثقافي، وسوف نتوقف في هذه الورقة عند الاغتراب الذاتي الذي يعني انفصال المرء عن ذاته الحقيقية، وقد نتج عن وجوده ثلاثة مظاهر سوف نتناولها بالعرض والتفصيل، وهي: التنكّر الاجتماعي وارتداء الأقنعة، الفشل في العمل، الظواهر الوجودية. (أميرة الزهراني: الذات في مواجهة العالم ص49)


أولا: التنكّر الاجتماعي وارتداء الأقنعة

هذا المظهر الاغترابي يرشّح لظهور الزيف والنفاق الاجتماعي في المجتمع المدني، والذي بدا بقوة بعد الطفرة الاقتصادية لبلاد النفط وأثرها على الوافدين، حيث يقول الدكتور منير: إن "للعلاقات في الوطن الثاني قواعد وقوانين تعلمتُها، فعلمتني أن أكون واحدا، أو اثنين، أو ثلاثة، أو أربعة عندما تقتضي الظروف، فهمتُ شكلا جديدا للعلاقة بين الوسائل والغايات، وتدرّبتُ أن أضم صدري على مشاعري، وأن أظهر للناس دائما بشكل ناجح جديد.

 "(ثلاثية الغربة 48) أي أنه تعلّم أن يكون بأكثر من لون، لذلك كان حريصا على أن يتخفّى خلف قشرة من التعالي والتبرّم والضيق بأحوال الدنيا رغم فرحه وانبهاره بثرواته المتزايدة، وصار مخبره مختلفا تماما عن جوهره. من هنا كان الدكتور منير يعاني شعورا بالتمزّق بسبب انفصاله عن جوهره الحقيقي، مع رغبة عميقة في نزع هذا القناع والتخلي عن الدور الجديد الذي صار يلعبه والعودة إلى بساطة الماضي الجميل قبل وقوع الطفرة، لأنه صار "إناء أجوف يرتدي بدلة جديدة وقميصا أبيض.

"(الثلاثية 49) قد يرشّح لهذا المظهر الاغترابي، الاستغراق التام في المجتمع الرأسمالي القائم على الزيف والنفاق الاجتماعي والمؤامرات المدبّرة والثقة غير المتبادلة والتعامي عن الدور الحقيقي. وهو ما وقعت فيه الدكتورة سناء بعد زواجها الثاني من المليونير "هاني قطان" وانتقالها بصحبة ولديها للعيش معه في الإسكندرية، حيث يقول تامر: "تعددتْ حالات أمي، وارتدتْ عشرات الوجوه.
 لكنها كانت قد تخلّصت إلى الأبد من الوجه الوحيد الذي أحبه وأعرفه. ومحاولاتها للتقرب مني كانت تجعلني أكرهها أكثر. انشغلت دوما بتدبير مؤامرات فاشلة لفضحه وضبطه متلبّساً عارياً مفضوحاً، من دون ذلك القناع الذي يداري به كل حياته."
(الثلاثية 233) مع اكتشاف المرء للهوة السحيقة بين ذاته الحقيقية الماضية وبين ذاته الحاضرة المصنوعة التي فقدت حسها النقدي وتحوّلت إلى مجرد أداة، فإنه يسحق كل ما أدى به لذلك، وهذا ما فعله الدكتور منير حيث "لم يرد ذكر سنوات الخليج في أوراقه كأنه قد محاها أو أسقطها عمداً." (الثلاثية 250) رغم أنه كان أثناء إجازته الصيفية القصيرة، لا يعود إلى شقته في القاهرة، ولا إلى قريته في المنيا، ولا يقطن فندقاً يناسب ثراءه الفاحش، ولا يزور أباه الكفيف الكهل، ولا يرى ابنيه، ولا يعطي هداياه لأحد. فقط، كان يجلس مراجعا حساباته وأملاكه، ومستدعيا الصور المتفرقة عن قريته ودراسته وطفولته وأسطورة كنز الجبل ومقالاته، واضعا فاصلا زجاجيا بينه وبين الناس، محافظا على ضياعه النفسي وفقده الوجداني وخوائه الفكري.

لم يكن التجاهل لسنوات الغربة في الخليج، وسيلة الدكتور منير الوحيدة للهرب من الواقع المزيف، بل انفلت منه عائدا إلى الماضي والقرية، حيث البراءة والصفاء في بيته الجديد قرب "بركة السبع" متزوّجاً بفلاحة اسمها "سكينة" ناشداً من الشحنة الدلالية للاسم النزوع إلى الأمن النفسي الذي بحث عنه طويلاً، مشغولاً معها إلى ما بعد العشاء بالحسابات المالية للممتلكات، مفضلاً حياة البسطاء الكادحة بعدما ضاعت أموال الخليج مع أزمات شركات الاستثمار وتعرّض لثلاث أزمات قلبية حادة، أجرى على أثرها عملية كبيرة في القلب.

نظراً لأن "زمن (المبنى الحكائي) للعمل السردي لا يخضع بالضرورة إلى الترتيب المنطقي للأحداث كما جرت في الواقع، بحيث يمكن أن يكون هناك استرجاع لأحداث ماضية، أو استباق لأحداث قادمة قبل أوانها." (حميد لحميداني، بنية النص السردي 73) فإن وسيلة الهرب الأخرى التي لجأ إليها الأبطال في ثلاثية الديب هي تقنية الاسترجاع، حيث واظب كل راوٍ دون كلل على أن ينبش في ذاكرته مستعرضا التأملات الشاردة نحو الزمن الأجمل والذكريات الأثيرة كي يضعها في مواجهة مباشرة مع سوداوية الحاضر. فحين كان الدكتور منير ينبش عن ذكريات طفولته، كانت الدكتورة سناء تتذكر حبها لعزيز، وكان تامر يسترجع حبه لكارين. هذا الهروب في حقيقته، يخلق شعورا بالراحة من الواقع الأليم ويخلّص النفس المعذبة من أعبائها ويساعدها على التفاعل مع المجتمع والخروج من اغترابها الذاتي.

ثانيا: الفشل في العمل
الفشل المقصود هنا ليس في الانتماء إلى العمل، ولا الشكوى من رتابته، ولكن في الوصول إليه والمحافظة عليه. فقد عانى "عزيز شفيق" الرسام والمصور، الأمرّين من أجل الحصول على عمل ثابت يضمن به عيشه وعلاج أمه ودفع إيجار الأتيليه، حيث كانت طرق العمل الثابت تبدو أمامه مسدودة، ولم يجلب عليه عمله في الجرائد والمجلات سوى المشاكل وفقدان الأصدقاء. وبعد النكسة صار يسخر ويلعن كل شيء، وغمر حياته الإحساس بالمرارة، مضطرا إلى الهجرة لفرنسا محققا فيها بعض النجاح كرسّام تجاري وكاتب في صحف المعارضة أحيانا، حتى اختطفه سرطان الكبد سريعا. لقد سيطرت عليه فكرة الضجر من الحياة في وطن ضيّع عليه فرص الحياة الكريمة، انعكاسا لفشله في تأمين عمل ثابت يحقق له ذاته الحقيقية.

وبقدر ما كان عزيز كادحاً لم يجعل من عمله متهماً يعلق عليه فشله، كان تامر كسولاً متواكلاً، ليس لديه أدنى دافعية نحو العمل، معلّقاً فشله على أزمته النفسية؛ حيث قال: كنت "أقف على أعتاب العمل، ولا أُقدم!" (الثلاثية 257) ومتهماً والديه مرة أخرى، بقوله: "كان جنب يدي دائما ما أحتاج من نقود من أمي أو أبي." (الثلاثية 261) فهذان النذلان، على حدّ رأيه، يملكان أطناناً من النقود، وفي كل زيارة لأبيه في "بركة السبع" كان الرجل حريصاً على إعطائه كميات مختلفة ومحترمة من النقود. إذن، لم يكن تامر في حاجة إلى العمل، لأن حصوله على المال لم يمثل مشكلة لديه، لذلك فشل في احترام اتفاقه مع زوجته كارين وتنفيذ خطة للعمل المنتظم، وظل بلا عمل في الوقت الذي كانت تعمل فيه ليل نهار دون كلل.

عندما أحس كل من عزيز وتامر بالسأم من الحياة الراكدة، لجأ كل واحد منهما إلى ما يلهيه عن أزمته الحقيقية. فعزيز أدمن الخمر ونحل وصار شبحا حتى لم يعد معلوما هل هو يشرب الخمر أم أن الخمر تشربه؟! وكان "يفرش الصور الفوتوجرافية الكبيرة والصغيرة التي يمضي النهار في تصويرها وتكبيرها وتصغيرها، يفرشها أمامه على الأرض ثم يسكب عليها بعضا من خمره، ويشعل فيها النار." (الثلاثية 142) فهو يعمل نهارا ويحرق عمله ليلا، معبرا عن حقده على المجتمع الذي همّشه وعن عدم تأقلمه مع الواقع وإحساسه الداخلي بالخواء. بينما لجأ تامر إلى دائرته الجهنمية من المقاهي والشوارع والأصدقاء معبرا عن حصاره النفسي وانسحابه من الواقع، مظهرا سلبيته المقيتة وإرادته الصفرية.

ثالثا: الاغتراب الوجودي

يتعلّق الاغتراب الوجودي بمغزى ومعنى الحياة، الذي يعطي وجوده قيمة لها، بينما يمكن التغلب على فقدانه باختراعه أو باكتشافه بعد البحث عنه، أما الإخفاق في العثور عليه، فإنه يصيب صاحبه بالفراغ الوجودي الذي يصاحبه الشعور بالعبثية واللا معقولية والشعور بالفراغ والخواء النفسي.

يعاني أبطال ثلاثية الديب الأساسيون اللا معنى والشعور بالخواء والموات الداخلي ومطاردة الهلاوس النفسية والعقم الفكري والعجز عن تطوير الذات أمام المتغيرات الجديدة، فالدكتور منير يعاني القلق من المجهول ويسيطر عليه دائما الشعور بأن هناك مؤامرة ضده تستهدف القضاء على أمواله ونفسيته وحياته، ورغم أنه كان يرى في طليقته صاحبة المؤامرة الكبرى ضده، إلا أنه لم يتخلّص من هذا الشعور، وداوم على استحلاب حبات أزمته القلبية حتى مات متأثرا بها. وتشخّص الدكتورة سناء حالتها بقولها: "كثيرا ما رأيتُ بذور الآخرين تنمو، أمّا بذوري أنا التي كنت أزرعها في ظل روحي في حدائقي الخلفية فقد ظلت حتى الآن عاقرا، جافة، لا تنمو ولا تخضرّ، حتى بحري الكبير لا يعرف ولا يرد على سؤالي الجارح: متى مت، متى ماتت روحي، وأمي، ووطني، متى رحلت عني الطهارة والبراءة، ولم يعد لي سوى كهولة، وعفن زاحف؟"(الثلاثية 141) وخطيئتها في حق نفسها أنها لم تتجاوز أزمتها بعد أن هجرها حبيبها عزيز ميتا في الغربة، ففشلت في زواجها، وفقدت ولديها رغم انتزاعهما من طليقها، وكانت تستعين دائما على الكوابيس المفزعة التي تطاردها بحبتها المهدئة متظاهرة بالقوة والاستقرار رغم شيخوختها الداخلية، استماتة منها في إخفاء فشلها وادّعاء النجاح. وكانت أزمة ابنهما تامر في اللا معنى والشعور بالفراغ الوجودي وفقدان المغزى، حيث يقول: "أخاف أن يكتشف أحد عورتي. فراغي الذي أشعر به. أن يطلع أحد على لا جدواي. أن أعلم ويعلم الناس أنني غير ضروري." (الثلاثية 215)

استعان الأبطال الثلاثة على ملء الفراغ الداخلي الذي أكل ذواتهم بالجوانب المشرقة باحثين فيها عن الخلاص الوجداني بوصفه القيمة التي ستعيد إليهم توازنهم وستخلصهم من أزماتهم. فالدكتور منير عاد إلى الماضي والطفولة والقرية، التي يقول عنها: "أعود أذكر قريتي، شارعها الترابي، أرض ميدان المحطة المرشوش بالماء، تهفو نفسي لمنظر قبل الغروب في شرفة بيتنا. في يد أبي مسبحة سوداء وفي البيت رائحة خبز طازج، وخضرة باذخة نقية تحيط بكل المكان." (الثلاثية 77) أمّا الدكتورة سناء فقد لجأت إلى البحر الذي قالت عنه: "البحر أعظم شيء في حياتي، مطلق، ووحيد، أعشقه، وأحسه يقتحمني وأقتحمه، في ندية كاملة مستحيلة، النظر إليه يجعلني راغبة في البحث عن مكان جديد، عن نقطة جديدة أبدأ منها... هناك سأجد ما أبحث عنه، سأجد ما ضاع مني." (الثلاثية 130) بينما لجأ تامر إلى الحب الذي افتقده طوال حياته، حيث يقول عن كارين: "تصل إلى روحي من أقرب الطرق، أمرُّ بعيوني على جسدها كأنني ألمسها كأنني أطير... حضورها سحريٌّ آسرٌ، وجودها معي بلا ثقل كأنها موجودة منذ القدم... يغمرني صوت وضوء مستحيل يتكوّر جسدي دون ألم، ويغسلني حضورها برائحة العشب الأزرق." (الثلاثية 212)

لجوء الأبطال إلى القرية والبحر والحب لتعويض شعور الخواء الداخلي الذي يتمزّقون من خلاله، يعكس الوعي الذاتي للحالة المأزومة والرفض القاطع للمكوث بها، ويكشف إيجابية النفوس المعذبة وسعيها للخلاص باعتبارها شخصيات فاعلة لا منفعلة. لكن فشلها جميعا في اجتياز أزماتها يجزم بسلبيتها وعدم جدية محاولاتها التي لم تكن إلا نوعا من الهروب الداخلي، واعترافا بالعجز عن فهم العالم من حولهم، وإدراك مغزى الوجود.
بعيدا عن الشعور بالفراغ والخواء النفسي، فإن العبثية واللا معقولية، مظهر آخر من مظاهر الاغتراب الوجودي، والذي عبّر عنه الدكتور منير من خلال خليلته "أم عصام" تلك المومس المعتمرة التي قال عنها: "حكت لي أم عصام عن متع رحلة العمرة الأخيرة، وكيف أنها تنسى نفسها تماما هناك، وترى الدنيا بعيدة... وترى الإسكندرية وكأن لا وجود لها، هناك تنسى شقتها تماما وتتمنى ألا ترجع إليها أبدا، كانت عيونها لامعة واسعة جميلة، هي تنظر إليّ من خلف كوب الليمون متساءلة: هل أصدقها؟"(الثلاثية 27) إنه ينقل عبثية الحالة التي تعيشها شخصية "أم عصام"، مستغلا ذلك في نقل عبثيته الذاتية ولا معقولية كثير من الأمور التي يعيشها.

تمثلت عبثية الدكتورة سناء في ارتباطها المجنون بعزيز، ذلك النصراني الذي حسبها نصرانية مثله، فاندمج في أسرتها خاصة مع أبيها وأخيها، ولم يعترض على هذه العلاقة غير المتكافئة سوى أمه التي كانت تشيح بوجهها عنها، وأختها "نورا" التي كانت مسرورة لرحيل "عزيز" وانتهاء حياتها معه. وتعبيرا عن استمرار مسلسل اللا معقولية بين أفراد أسرة الدكتور منير، كرر تامر تجربة أمه في العشق بطريقة أخرى؛ حيث تعلّق بالفتاة البولندية كارين رغم الاختلافات الحادة بينهما في الدين واللغة والثقافة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر في موقع اليوم بتاريخ 27 فبراير 2016

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق