الأحد، 7 يونيو 2015

سامية أبو زيد تكتب: "صباح الجمعة" للكاتب علاء الديب.. تجوال في الوطن والنفس







فى مجموعته القصصية "صباح الجمعة"، الصادرة عن مؤسسة روز اليوسف سنة 1970 تقريبا ـ وأقول تقريبا لأن المجموعة غير مؤرخ لها، فلم يعد لدي سوى استنتاج تاريخ صدورها من عبارة "مؤسسة روز اليوسف 45 عاما فى خدمة القارئ العربى" ـ يتجول بنا الكاتب علاء الديب بنعومة فى أرجاء القطر المصرى شمالا وجنوبا عبر خمس وعشرين قصة ملامسا سطح المجتمع المصرى آنذاك وغائصا فى نفوس أفراده فى رحلة استكشافية حول الوجود ومعنى الحياة، وكأنه يحمل عدستين تسجلان لنا حال المجتمع المصرى دونما تكريس لمذهب أو عقيدة ما.


هو مجرد رصد لما يستحق ولكنه ليس رصدا معتادا، فهو يجعلك ترى الأشياء بل البديهيات والمعتاد والمكرر بشكل مغاير، ولكنه حقيقى مثل قوله فى "الحصان الأجوف": "ما أقبح الفجر فوق الخرائب" ضاربا بذلك ومهشما للصورة النمطية المتغزلة فى سحر الفجر، كما يتضح نزوعه للتصوير وميله للفنون التشكيلية فى قوله فى وصف حقول القمح قبل الحصاد: "تعلقت عيناى بالأفق الأصفر" مما يدفع القارئ لاستدعاء لوحة الحصاد الشهيرة لفان جوخ فى نفس القصة المذكورة آنفا وهى أطول قصص المجموعة حيث تقع فى حوالى أربعين صفحة.


والكاتب فى هذه المجموعة لم يدع القارئ فريسة لأي قوالب سواء فى السرد الذى تراوح بين الراوى بضمير المتكلم والراوى العليم، أو فى لغة الحوار التى تضمنتها بعض القصص؛ فمنها ما جاء بالفصحى ومنها ما جاء بالعامية، فضلا عن الإغراق فى التفاصيل فى بعض المطولات التى تقترب من النوفيلا بل وتنقسم إلى فقرات مرقمة وعلى النقيض من ذلك التكثيف الشديد فى بعض القصص التى لم تتعد الصفحتين، فكأنك تقرأ لأربعة أو خمسة كتاب فى كتاب واحد، بيد أن الخيط الذى يشد المجموعة إلى بعضها البعض هو ذلك التنقل فى ربوع مصر عبر دراية تامة بخريطتها وطبيعتها الجغرافية، فينتقل بك من القاهرة إلى الأقاليم وصولا إلى الأقصر كما فى "العقرب"، ويسحبك إلى داخل الأحياء بشوارعها المسفلت منها والترابى (المدق الترابى) من الزمالك إلى امبابة.


والقول كأنك تقرأ لعدة كتاب لا ينسحب على الأسلوب وعدد الصفحات فحسب، بل إنه يمتد إلى أجواء القصص فيتنقل بك من الواقعية إلى الفانتازيا مستلهما قصة الخلق كما فى "هانى وهند" مستبدلا الجوهرة بالخلود والكلام بالثمرة المحرمة، أو ينقلك إلى أجواء أسطورية فى قرية ما تركها خالقها فى يد "الشيخة"، أو أن يشد انتباهك ببداية غير تقليدية كما فى قصة "بنت المكوجى" والتى تبدأ بالقول: "وكان مدخل الميدان وزقاقهم الصغير المسدود، كانا كل العالم"، وهى من المطولات التى انقسمت إلى ثلاث فقرات مرقمة ولكنها لم تخل من كثافة فى العبارة كقوله فى وصف الأسطى فهمى: "محنى الرأس والرقبة عيناه حمراوان مسلوبة منها كرامة الرجال" ولينهيها بنهاية حمالة للأوجه تقترب من النهايات المفتوحة تاركا للقارئ الحرية فى التأمل والتأويل.


وكما يفعل بك ويجعلك ترى الأماكن يصحبك فى رحلة موازية فى شرائح المجتمع، والأهم من ذلك أنه يطلعك على نفوس تلك النماذج ليترك الحكم لك ويضعك فى حالة تأمل لتلك الشخصيات التى اكتست دون أن تلحظ لحما ودما وثيابا واشية بطبيعتها وطبائعها مثل البقال فى "هات وخد" وحياته الباردة الخالية من أى معنى، ولترسيخ هذا الخواء يجرد القصة من الأسماء. واللافت فى هذه المجموعة أن الكاتب كثيرا ما كان يغفل أسماء الشخصيات الرئيسية ويعتنى بتسمية الشخصيات المساعدة لتكريس ما يبغى توصيله للقارئ من معانى الضياع والانسحاق لتلك الشخصيات مثلما فعل على سبيل المثال فى قصة "صباح ومساء فى حياة السيدة ص. ع." التى تكشف عن قاع القاع فى المجتمع حيث تتناول حياة فتاة ليل، كاشفا عن تفاوت طبقى فى هذه الشريحة كاسرا النمط "السينيمائى" المعتاد لفتاة الليل التى تقفز فى السيارات الفارهة لقضاء الليالى الحمراء فى الشقق الفاخرة والفيلات الخ.. فترى البائسات منهن اللاتى ينتهى بهن الأمر إلى إرضاء الزبون فى عتمة سينيمات الدرجة الثالثة المحفوفة بخطر الانكشاف ويصبح كل الأمل أن تصل ص. ع. سالمة إلى عشيقها الرسمى شوقى فى شقته التى تقع على تخوم الريف والحضر.


هذه الكثافة التى وسمت القصص الأخيرة فى المجموعة لم تأت لمجرد الاستعراض لقدرات الكاتب ـ وإن تبدت هذه القدرة كأشد ما يكون فى جوهرة التاج لهذه المجموعة وهى قصة "المرمطون" حين يصف حيرة أحمد مرمطون المقهى وتردده فى العودة لغرفته الفقيرة طارحا سبب هذه الحيرة فى عبارة شديدة الكثافة والدلالة حيث يقول عنها: "وليس فيها سوى ما يحمله على جسده وأقل القليل، وليس فيها هواء" ـ وكأن الكاتب كان يتعمد عدم الإسهاب مع أحمد وأمثاله من المهمشين للتأكيد على ضآلتهم فزادهم تهميشا على تهميش وإن بشكل ظاهر سطحى، ولكنه فى حقيقة الأمر اجتنب الوقوع فى فخ التفجع الذى قد يأت بنتيجة عكسية، فخلت كتابته من نبرة الاستعطاف البغيضة وكذلك نبرة الاتهام الزاعق ليهمس إلى عقل القارئ وضميره داعيا إياه إلى التأمل، وكيف لا وقد حفلت كتابته طوال المجموعة بالمشهدية!؟ ولكنه وكما سبق التنويه ليس نظرا كالنظر بل هو نظر.



ختاما، لم يكن بوسعى تجاهل حقيقة تأثير لوحات اللباد وأثرها على نفسى والتى ازدانت بها بعض قصص المجموعة مثل اللوحة التى فى قصة "هات وخد" فأنظر إليها وأنا أقرأ عبارة "ولكنه شاب وفى نفسه جوع للحياة" لأرى لوحة لشخص حزين منقسم بشق طولى وحول رأسه سحابات الأفكار تقترب فى شكلها من أرغفة الخبز.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سامية أبو زيد
نشر في جريدة الأهرام بتاريخ 7 يونيو 2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق