الاثنين، 29 فبراير 2016

دروس «عصير الكتب» .. الذائقة والانحياز






ماجد يوسف

كتاب «عصير الكتب» للكاتب الكبير «علاء الديب» وهو عبارة عن مجموعة شاملة وواسعة من المقالات التى كان الكاتب يوالى نشرها منذ أوائل السبعينات- فيما أذكر – وحتى الآن.. وهى عبارة عن نقدات نافذة وصائبة وقصيرة جدا لحصاد القصة والرواية والشعر والدراسات والفكر والترجمة أحيانا.. إلخ، والتى كان ينشرها اسبوعيا فى بابه الذى يحمل هذا الاسم الجميل «عصير الكتب» فى مجلة «صباح الخير» على مدى أربعين عاما كاملة، وقد عرف من خلال هذا الباب الملكى للعبور إلى المجلة على مدى عمره – عمر الباب طبعا – بكل صاحب موهبة جديدة وإبداع لافت فى القص والشعر والنقد والرواية والفكر كما قلنا، وقدم ارتالا وأ جيالا من المبدعين والشعراء والروائيين والكتاب الذين احتل معظمهم الساحة الآن وأصبحوا نجوما متلألئة فى سماء الأدب والثقافة والإبداع المعاصر فى مصر وفى غير مصر ، وظل لـ «علاء الديب» فضل لا ينكر، ويد لا تجحد فى مبادرته إلى الحديث عن هؤلاء، والتعريف بهم، وتسليط الضوء الكاشف عليهم ولعله- فى حالات كثيرة جدا- كان أول من يقوم بذلك مع هؤلاء المبدعين.


هذه فى البداية هى الخطوط الخارجية جدا «التعريفية والافتتاحية» لهذا المقال الذى أظن أنه سيتوقف طويلا عند دلالات هذه التجربة الثرية «عصير الكتب» وأبعادها عند «علاء الديب» مستخرجا من هذه الوقفة عددا من الدروس التى أحب أن أؤكدها، وأضع تحتها العديد من الخطوط التى أطمع وأطمح أن يستهديها ويستوحيها الكُتاب الشباب والنقاد الجدد إذا اتيح لهم أن يتأملوا معى هذه التجربة اللافتة لهذا المبدع والفنان الكبير.


1 – أول ما يلفت النظر فى هذا الكتاب هذه البانوراما الواسعة من الكتب والموضوعات التى ساح فى عوالمها علاء الديب، وطبعا أنا متأكدة أن الموضوعات التى احتواها هذا الكتاب هى موضوعات مختارة من كم هائل آخر من الموضوعات، وبرغم ذلك يعرض لنا الكتاب الذى بين أيدينا «عصير كتب» 115 كتابا فى الرواية والقص والشعر والنقد والسياسة والموسيقى والفن التشكيلى والدينى والتاريخ والفلسفة واللغة… إلخ، بانوراما شديدة الاتساع والغنى، تشير إلى موسوعة الفنان الحق وعرض ثقافة الكاتب الكبير.

و«علاء الديب» يؤكد بذلك ما عرفته فى تاريخى واستقر فى ضميرى حتى الآن أنه لا كاتب كبير، بملء التعريف إلا وهو قارئ كبير كذلك متشعب المعارف متعدد الاهتمامات.. وأن الروائى الممتاز أو المبدع الممتاز فى فن الرواية – مثلا – لا يمكن أن يقتصر على ميدان الرواية وحده فى قراءاته ومتابعاته وإنما لابد أن يتشعب بجهده المعرفى والتثقيفى إلى شتى المعارف والفنون والثقافات لدينا ولدى غيرنا، فالتجربة الإنسانية والفنية العريضة هى نتيجة لازمة لتجربة حياتية عريضة.. نعم وتجربة قرائية ومعرفية عريضة أيضا.

فالدرس الأول هنا من تجربة علاء الديب أن الفنان الكبير والمبدع الكبير قارئ كبير أيضا ، وموسوعى كذلك فى ثقافته واهتماماته.

2 – وقد يكتفى المبدع الكبير بتكوين ثقافته الموسوعية التى ترفد عمله الإبداعى وتغذيه، وكم من مبدعين كبار – نجيب محفوظ مثلا- اقتصروا على هذا الدور الذاتى للقراءة والاطلاع اما أن يتجاوز «مبدع كبير» هذا المستوى الذاتى فى القراءة إلى إبداء الرأى النقدى فيما يقرأ، وبحب وتجرد واهتمام يثمن القيمة والإضافة والتجديد والموهبة لدى غيره من الروائيين وكتاب القصة، ويرصد مواطن الجمال وبواطن الإبداع فى أعمالهم بتواضع وحب، فهذه درجة عالية من الإنسانية الرحبة والشفافية الكبيرة والقوة القادرة على الانفلات من أسر الذات «وذات المبدع متضخمة عادة» للتواصل مع الآخر بل إبداء المحبة لإنجازه والفرح النقدى باكتشافاته الإبداعية، وهو سلوك بقدر ما يعكس درجة عالية من الصفاء والغيرة والرفعة، يدل أيضا على شخصية قوية واثقة بنفسها ومعترفة لغيرها بالقيمة فى مكانها، وبالإبداع فى موضعه دون أن تشعر للحظة هذه الشخصية القوية – بأن هذا الاعتراف ينقص من قدرها أو ينال من قيمتها أو يهز مكانتها.. وأين هذا السلوك الرفيع من سلوك هذا الشاعر الكبير النرجسى الأنانى المتورم الذات الذى عندما سئل عن الأجيال الشعرية التالية له صرخ فى السائل بهستيريا واضحة «هو أنا مت ولا إيه؟!» بمعنى أنه لم يتصور – للحظة أن يسئل عن شعراء بعده أو غيره ما دام هو موجودا! تصوروا!

فالدرس الثانى إذن لكتاب «علاء الديب».. هو هذه الروح الواسعة المحبة الشفافة للإبداع لدى غيره وللفن عند الآخرين وللإضافة والابتكار فى تجارب روائية أخرى غير تجربته الخاصة والتى تظل فى هذا الخضم الروائى الموار.. تجربة كبيرة ومؤثرة وأصيلة أيضا فما أعظم أن تكون كبيرا بين كبار لا ان تكون كبيرا فقط بين صغار كما لا يريد أن يفهم للأسف هذا الشاعر العجيب الغريب الذى أشرنا إليه توا!

3 – الدرس الثالث الذى يقدمه لنا علاء الديب عبر كتابه أن الذائقة المدربة المثقفة على القراءة البصيرة والتوغل لما وراء السطح البادى والامساك بجوهر الرؤية والوعى بحداثة التقنيات واستتارها فى نفس الوقت والحس المرهف لقارئ محترف عبر مئات وربما آلاف الكتب.. يصنع كل ذلك حاسة نقدية صائبة كشعاع الشمس، وحادة وقاطعة كالشفرة تصل إلى كبد الحقيقة فى سطر وإلى جوهر النقد فى جملة وإلى بؤرة العمل وروحه فى عبارات معدودة ومحدودة دون رغى وتزيد وإملال من ناحية ودون تعقيد وإبهام وتركيب وغموض من ناحية أخرى.. وهى مدرسة كبيرة فى النقد ينتظم فى عقدها يحيى حقى وإدوار الخراط ورجاء النقاش وعبدالغفار مكاوى وماهر شفيق فريد وعلاء الديب أيضا.

4 – وأظن أن علاء الديب يزيد عليهم فى أنه تمرس على أن يفعل ذلك عينه فى أقل مساحة ممكنة، وبالتالى خلا نقده من الشرح والاستفاضة والتزيد والتفاصيل أما من أشرت إليهم – بلا استثناء – فيقومون بهذا النقد البصير عينه، الذى يعتمد الذائقة المدربة بقراءة آلاف النصوص.. إلخ لكن يقومون به بتوسع واستطراد كبيرين قد يقتضيانهم أحيانا فصولا بأكملها ومقالات ضافية للحديث عن رواية واحدة، أو قصة قصيرة، أو ديوان شعر، مثلا .. ولكن الميزة الواضحة لـ«علاء الديب» عن هؤلاء جميعا، أنه يفعل ذلك بالضبط أى أنه يصل بقارئه إلى سويداء العمل المنقود وجوهره المشع وبؤرته الدالة فورا وبلا تلكؤ ودون ثرثرة وإطالة، عبر جمله القصيرة واحكامه البرقية المليئة بالمعنى والقيمة والتى ليست مجانية بحال والمحملة بمعيارية دالة ومليئة وربما تقرأ عن عمل لروائى كبير دراسة مطولة – فى مجلة كفصول – قد تصل صفحاتها إلى ثلاثين أو تزيد وتقرأ صفحة «علاء الديب» عن نفس العمل فى «عصير الكتب» فتشعر أن «علاء الديب» قال لك فى هذه الصفحة وفى بضعة سطور مقطرة وجمل مكثفة.. وبضربات سريعة من فرشاته الحساسة ما قالته- جوهريا – الثلاثون صفحة من فصول كأن صفحة الديب هى منطوق الحكم المبرم على العمل المنقود وكأن صفحات فصول -مثلا – هى حيثيات هذا الحكم وملابساته وحواشيه وتكييفاته وظروفه وأوضاعه ومبرراته وأسبابه… إلخ، ولعل الفضل فى ذلك – فى بعض جوانبه- يعود إلى المساحة المحدودة والمحكومة التى خصصت له فى «صباح الخير» والتى عودته أو تعود من خلال اشتراطاتها الضيقة، على ان يؤدى المعنى كاملا فى حيز صغير ومحكوم ومحدد سلفا.. فتدرب عبر السنوات – أو لعله اضطر اضطرارا- على التقطير والتكثيف والتركيز إعمالا لحكمة النفرى العظيم « كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة».

5 – أعرف من الشعراء الكبار من أجيال مختلفة من لا علاقة لهم بالفن التشكيلى أو بالرواية مثلا، ومن الروائيين من لا علاقة له بالشعر أو بالموسيقى ومن الموسيقيين من لا علاقة له بالأدب والفن الشتكيلى وقل مثل ذلك عن التشكيليين …إلخ وهى نواقص لا شك فيها فى تكوين هؤلاء المبدعين، قد تبين وقد تخفى ولكنها دون شك تمثل نقاطا عمياء فى التكوين الثقافى والمعرفى لهؤلاء المبدعين، قد تكشفها العين الناقدة اللماحة عند استبطانها العميق لأعمالهم الفنية المختلفة ولذلك فلابد أن تثمن هذه العلاقة الوطيدة القوية لـ«علاء الديب» بشتى أنواع الفنون من موسيقى وفن تشكيلى ومسرح وسينما.. إلخ. بالإضافة إلى الأدب بأنواعه، وهو ما شكل فى مجموعة هذه البنية النقدية القوية لهذا المثقف الكبير ووهبه هذه الملكة الفذة فى القدرة على تقييم أعمال فنية متباينة من حقول شتى فيصيب كثيرا ويخطئ قليلا.

6 – استوقفتنى أيضا هذه «العروبية» الواضحة والواسعة والتى حدت به إلى الحديث عن اعمال إبداعية لمبدعين عرب كبار من كل أنحاء الوطن العربى، شرقه وغربه.. محمد برادة وعبدالرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا وحنان الشيخ وإميل حبيبى وفوزية رشيد وسحر خليفة وحنا مينا وإبراهيم الحريرى وزكريا تامر ومحمد الماغوط ونزار قبانى وسعد الله ونوس وجورج شحادة.. إلخ.

وهى رسالة واضحة لكل نقادنا الجدد بمد الطرف إلى المحيط الإبداعى العربى شرقا وغربا فلا نستطيع أن نحيا – ثقافيا وفكريا وإبداعيا- بمعزل عن محيطنا الحيوى، وعن الأدب الناطق بالعربية حينما كان.. وربما فى مثل هذه الفعاليات الثقافية القرائية/ الكتابية ما يكسر الحواجز ويتجاوز الحدود ويحقق مفاهيم العروبة والوحدة بمعنى أكثر عمقا من المعنى السياسى وأشمل من المفاهيم السلطوية التجزيئية الإقليمية الضيقة قصيرة النظر التى نعانيها حتى الآن.

7 – شدنى أيضا هذا الانفتاح الإنسانى اللاعنصرى الواسع لهذا الكاتب.. فهو يتمايل اعجابا بكتاب مجيدين من اليمين واليسار وما بينهما، ويطرب لأعمال فنية راقية تأتى من كتاب مسلمين ومن كتاب مسيحيين وهو يحتفى بأشعار فصيحة وأخرى عامية بنفس الدرجة ويرصد القيمة والمتعة والإجادة.. أتت من هنا أو من هناك يفرح لإبداعات المرأة المستحقة للفرح ولإبداعات الرجل بنفس الدرجة هو مع الجديد والجميل والأصيل حيثما كان.. وهذا هو المعيار الوحيد لديه للاحتفاء بالعمل الفنى.

8 – وأخيرا ينحت علاء الديب تعبيراته الشرقية بلغة تمتلك موسيقاها الخاصة ورهافتها الذاتية القادرة فيما هى تقوم بالعملية النقدية على سك عبارات كاشفة وفاتنة.. انظر له وهو يتحدث عن اللغة فى عمل اميل حبيبى«اللغة العربية نفسها تخرج وكأنها تعانى ضيقا فى التنفس والاحتضار».. أو حينما يتحدث عن «حرافيش» نجيب محفوظ:

« فى هذا الفن شىء خالد عبقرى مجنون وفيه أيضا شىء غريب تلمسه ولا تمسك بتفسيره وكأنه الأمراض التى يورثها الزواج بين الأقارب».. أو فى تعليقه على كتاب «الشيخوخة» للطيفة الزيات:

« لا يشيخ الإنسان طالما ظل عقله يضفى على وجوده المعنى».. أو عندما تحدث عما يميز تجارب عباس أحمد:

« تلك المحاولة المستحيلة للسيطرة على الوجود من خلال الجملة ومن خلال البناء القصصى».

والأمثلة عديدة أكثر من أن تعد أو تحصى على طول الكتاب وعرضه.

وأخيرا فى كلمات بعد هذه السياحة السريعة والمحبة.. علاء الديب يقدم لنا «عصير أو زبدة الكتاب» فى سطور برقية قصيرة ولكنها دالة ومفعمة بجوهر المعنى وخلاصة التجربة.. وبرغم أنه كاتب روائى كبير فهو لا ينجلس فى انجازه ولا ينحصر فى ذاته ولا يتأطر بعالمه فقط، وإنما هو ينفتح علىالآخرين باستمرار ويتسع لأعمالهم وإبداعاتهم وتجاربهم.. وهو ناقد فذ بمعنى خاص جدا ليس بأى معنى أكاديمى ولا بأى دلالة احترافية أو مهنية ولا على طريقة مجلة «فصول» مثلا.. ولكنه قارئ محب وعاشق يمتلك ذائقة المبدع الصادق والقارئ المغرم والمتلقى المدرب الذى ينطوى على حساسية خاصة ومرهفة ونظرة ثاقبة وروح صائبة تتمتع بالحس السليم والمدربة المتمرسة بالقراءة الطويلة والفطرة النقية القادرة على استشفاف الدرر والجواهر.. ويعرفها يقينا ويشير إليها تحديدا فيرى الجوهر مرأى القلب والعقل وينأى عن الفضول.. ودائما ما يحضرنى عند قراءتى لكتاباته ذلك التعبير الشائع الذى يقول «أصاب كبد الحقيقة» بلا استسهال مجانى ولا استهبال نقدى، كما يفعل بعض من يكتبون فى النقد، ولا نفهم منهم شيئا بالمرة.

وفى النهاية وحتى لا أكرر كلامى هل لمست أحيانا كراهة ما من علاء الديب لبعض التجريبيات الحداثية فى القص والسرد وميله ربما إلى شىء من المحافظة والتقليدية أو الكلاسيكية فى هذا الجانب.. أم هى كراهة لافتعال التحديث واصطناع التجديد؟.. على أى حال.. هو مجرد احساس غامض، ولعلى مخطئ فى هذا ولعل الأمر برمته فى حاجة إلى مزيد من المراجعة والتيقن.


الفنان والكاتب الكبير علاء الديب نشكر لك هذه المتعة الصافية التى اسبغتها علينا بكتابك الشهى الذكى «عصير الكتب».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة القاهرة 

حوار علاء الديب قبل الرحيل : اليسار إستهلك نفسه مبكرا






  حوار: إسلام أنور – سامح فايز

لماذا اخترت أن يكون مشروعك الأدبى هو الرواية القصيرة؟ وكيف ترى تطورها عربيًّا وعالميًّا؟

الكتابة بهذا الشكل لم تكن اختيارًا، لكن شكل الكتابة تطور حتى وصل إلى ذلك، لقد خرجت للكتابة من داخل العمل الصحفي، وكان الشكل الملائم للنشر فى الصحافة هو ذلك الشكل، ثم تطورت المسألة وأصبح اختيارا متعمدا، لأنى رأيت أن هذا الشكل يضمن أكبر قدر من التواصل مع القارئ، ويعطينى الفنية والإحكام اللذين تمتاز بهما  القصة القصيرة، مع الرحابة والاتساع اللذين يميزان عالم الرواية، لذلك رأيت أن الرواية القصيرة لها قدرة الجمع بين هذه المميزات فى قالب واحد، مع التأكيد أنه فى البداية لم يكن اختيارًا متعمدًا.


أثرت نكسة 67  فى أبطالك بشكل جعلهم أشلاء محطمةً تائهةً، كعبد الخالق المسيرى فى «زهر الليمون»، وأمين الألفى فى «أيام وردية»، برأيك هل ما زلنا نعيش تبعات النكسة حتى الآن؟

أعتقد ذلك، وتظهر ملامحها فى عدم التربية السياسية، ذلك أن نكسة 67 أهم ما فيها أنها هزيمة للمشروع السياسي، هزيمة عائدة إلى أنه لا يوجد حزب سياسي، لأنه لا أحد يشتغل فى السياسة، كان الاشتغال فى السياسة خاصًّا بالقادة العسكريين ورجال الحزب الاشتراكي، وأصبحت السياسة معادل الانتهازية السياسية، ولم يعد يوجد السياسى بمعنى الخدمة، والعمل العام، وأصبح مصطلحا “العمال والفلاحون” يقصد بهما عمال الاتحاد الاشتراكي، وفلاحو الاتحاد الاشتراكي.

وحتى الآن لم يقدر أى فصيل أن يقف أمام هذا النمط، ربما الوحيد الذى اشتغل بطريقة فيها اتصال بالناس واتصال بالقواعد هى التيارات الإسلامية.

وأين اليسار من ذلك؟

اليسار استهلك نفسه مبكرًا جدًّا فى خلافاته الشخصية وفى محاولة مواءماته مع السلطة، وهذه المواءمات هى التى زرعت فيه على الرغم من كل مبادأة، فكرة الانتهازية، وأصبح أغلب الأنماط التى بقيت موجودة، أنماطًا من الانتهازيين السياسيين.

هل يمر جيل «ثورة يناير» بما مر به جيلكم عقب النكسة؟

ثورة 25 يناير ما زالت بالنسبة لي مشكلًا غير قابل وغير قادر على تصنيفه، على قدر ما وضعت آمالًا وأحلامًا على حركة 25 يناير، لكن الذى ظل منها هو الإيمان الأساسى بقدرة الشعب المصرى على الحركة. لكن لا بقيت منه قيادات مقنعة ولا حتى أفكار مبررة، مبلورة، جامدة، وصالحة للتطبيق، إنما بقى إحساس أن الشعب أصبح «محدش يقدر يخوفه وأصبح محدش يقدر يضحك عليه» وأصبحت القيادات هى التى تخرج كل يوم من الأرض، فلا توجد قيادات مكرسة، ولا يوجد مفكرون ولا منظرون، أو هكذا يبدو للناس، ويبدو إلى أناس مثلي، كانوا مجرد مراقبين، فأنا لا أدعى أننى كنت موجودًا ولا ذهبت إلى ميدان التحرير، بحكم أننى لا أقدر على ذلك الآن، لكن أولادى ذهبوا، ونقلوا الصورة.

وأعتقد أنه على المدى البعيد ستكون هذه الميزات عنصرًا إيجابيًّا، وان الناتج فى المستقبل سيكون حقيقيًّا جدًّا، سنجد عنصرًا بشريًّا حاصلًا على تربية سياسية جيدة، من أرض حقيقية.

لكن الحلم الأساسى هو المراهنة على حركة المحليات والعمل فى الريف، فنحن لأول مرة نرى الفلاح المصرى يقول رأيه فى كيفية حكمه.

هل علاء الديب متفائل بالمستقبل؟

لا تستطيع أن تكون منتميا لهذا البلد دون أن تكون متفائلًا، هذا بلد «قديم قوي، وعريق، وقوي، وقادر جدًّا و«معادش ينضحك عليه».

تحدثت كثيرًا عن خيانة الطبقة الوسطى، وظهر هذا واضحًا  فى أبطال «الثلاثية»، الدكتور منير فكَّار وزوجته سناء فرج وبعدهما ابنهما، برأيك هل خانت الطبقة الوسطى ثورة يناير، وما السبيل للخروج من هذا المأزق؟

إذا تابعت عن قرب الكتابة التى كتبتها، ولا أقصد الأعمال الروائية، لكن عمومًا، ستعرف أننى أحاول استيضاح فكرة غامضة حتى بالنسبة لى حتى الآن، وهى أن الطبقة المتوسطة مثلما هى خائنة، هى مسئولة عن كل التحققات التى حدثت فى حياتنا، وهذا التناقض أعتقد أنه من طبيعة الطبقة المتوسطة، هى أن تخون الناس، لكنها تخدمهم، فى الوقت نفسه تعطيهم شيئًا، والطبقة المتوسطة عاشت هذه الازدواجية من قبل ثورة 1919، وهى أيضًا التى سلبتها إنجازاتها، وهى التى تركزت فى 1952، وهى التى نخرت عظم 52، وحولتها إلى ثورة تصحيح على يد الرئيس المؤمن أنور السادات. أنا لست فيلسوفًا، لكنى أسعى لرؤية الواقع وإلى فهمه، ثم إن هذه الطبقة هى أنا، فأنا ممثل حقيقى للطبقة المتوسطة بكل عيوبها ومشاكلها وكل ما فيها من خير ممكن للبلد.


لماذا معظم أبطالك يبدون «أيتامًا» بالمعنى المجازى للكلمة، حيث لا ذكر للآباء، أو الأمهات، إلا فى مشاهد قليلة؟

فيما يخص اليتم الأسرى لم أعشه، لكن الفرق الخاص بالجيل، كان شديدًا بالنسبة لي، لأننى أصغر 6 إخوة، أكبرهم الأستاذ بدر الديب رحمه الله، فقد عشت وحدي الطفولة والصبا المبكر، ذلك أن العائلة منشغلة بحياتها، وكنت أنا وحدي، إنما اليتم كفكرة لا أعتقد أنها حاضرة.

أضف إلى ذلك أن أفضل عمل  قربنى من الكتابة، هو «الغريب» لألبير كامي.. فكان شعور الوحدة هو المسيطر على العقل فى بدايات الكتابة الأدبية، فلما بدأت فى كتابتى الخاصة، ألبير كامى «ركب دماغي» ولم أكن وقتها أقرأ الفرنسية، فحاولت قراءته بالإنجليزية، وكانت مسألة صعبة -أيضًا- فى ذلك الوقت بالنسبة لي، فقرأت كامى بالعربية، وأحببته جدًّا، وتأثرت به.

مسألة أكتشفها لأول مرة الآن، إن البعد والقرب من الفلسفة، شبيهان بازدواجية الطبقة الوسطى، فأنت لا تشتغل بالفلسفة، أنت تشتغل أدبًا.


لماذا معظم أسر أبطالك مفككة والأب فيها مُبعد قسرًا عن أبنائه ؟

إذا رجعت للفكرة الأساسية المسيطرة على كتاباتي، وهى فكرة ازدواجية الطبقة المتوسطة، وجعلتها نافذة ترى من خلالها هذه المشاكل، ستجد أنها أخذت معنى مختلفا عن المعنى الأسرى والأخلاقي، الذى طرحته فى سؤالك، ستجد أنها تأخذ معنى اجتماعيًّا، أضف إلى ذلك أنه فى تلك الفترة التى نشأت فيها كنت منشغلا بالبحث عن أيديولوجية، عن أساس فكرى أتحرك عن طريقه، مغاير للأساس الفكرى الخاص بالطبقة المتوسطة، ومختلف عن الأساس الفكرى الذى منحه لى الارتباط المبكر لسنوات مع الإخوان المسلمين، ثم ارتباطى بعد ذلك لسنوات قليلة مع الشيوعيين، والارتباطان شعرت معهما بنفس الغربة ونفس الرغبة فى الخروج، وتكوين موقف شخصي، ينبثق من هذا المكان وهذا البلد، وهذه الأرض.

للأسف المصطلحات لا تسعفنى الآن، لأنها جميعها، مُضغت، واستُهلكت، فكلمات مثل «نابعة من واقعنا، وطالعة من أرضنا مبقاش ليها معنى. كنت أود لو ملكت الوقت الكافى للاشتغال على الجانب الفكرى للنشأة، وأظن أن هذا سيكون الجزء الثانى من كتاب «وقفة قبل المنحدر»، هو حلم أود تحقيقه، لكن الصحة والجهد إلى جانب أن الحياة أصبحت مجهدة وأصبح التفرغ للكتابة مسألة صعبة، مثلا أملك مشروعين أتمنى الانتهاء منهما، «صيد الملائكة» والجزء الثانى من «وقفة قبل المنحدر».

برأيك هل كان هناك تآمر على مشروع عبد الناصر، ولماذا نجحت الكثير من دول أمريكا اللاتينية فى تحقيق إنجازات حقيقية ومستمرة وبناء دولة قوية فى حين فشلنا نحن رغم تشابه أوضاعنا الاقتصادية؟

أظن أن عبد الناصر كان حلمه وأمله والوهم الذى خلق لديه عندما حصل على محبة الناس «إنه يعملهم حاجة» لكنه فشل فشلًا ذريعًا فى ذلك، رغم المدارس التى أنشأها، والوحدات الصحية.

لكن «البنى آدم نفسه فِضِلْ زيْ ما هو» انظر مثلا للشخص الذى تولى مسئولية التعليم بعد 52، «جمال الدين حسين» لم يقدم جديدًا، ولا فكرًا، لكن مع الوضع فى الاعتبار أن عبد الناصر لم يكن لديه نوايا شريرة، ولا أخفى أننى  أحببت هذا الرجل  وأحببت زعامته ووجوده، لكن لم يكن لديه القدرة الكافية.

وبالنسبة لأمريكا اللاتينية فهناك اختلافات كثيرة بيننا وبينهم، منها، روح الحضارة نفسها، روح الحضارة اللاتينية، فهى مرتبطة بالحياة والحركة، إلى جانب ذلك فالطبيعة مكنتهم من اللجوء فى أول فرصة لحرب العصابات، لكن هنا مع طبيعة الأرض المنبسطة «البوليس يجيبك على طول»، أيضا كان هناك مسألة أظن أنها من أحد الكتب التى كانت مفاجأة لي، كتاب «وزراء الله»، وهم الوزراء الذين أرسلتهم الكنيسة الكاثوليكية لفترة من الفترات لمواجهة أمريكا، قساوسة مبشرون، وثوريون، وهم من كتبوا لاهوت التحرير.

برأيك هل نحتاج نموذجًا مشابهًا؟

الحقيقة، العامان الماضيان «لخبطوا غزل الواحد»، عندنا توجد ماكينات وحشية لصناعة الكذب، الإعلام الذى نشأ فى ظل غفلة نظام عبد الناصر، وفى ظل غباء وجهل السادات ومبارك، ثم توحش هذا الجهاز الإعلامى الانتهازي، وصار قادرًا على تشويه كل شيء، نحن لا نزال نتلقى كل يوم صفعات منه، وكل يوم يغيِّبنا أكثر، ويضللنا أكثر.

كيف نتخلص من سيطرة الماكينة الإعلامية برأيك؟

بالقضاء على الأميَّة، والعمل مباشرة مع الجماهير فى المحليات.. ليس أمامنا حل غير ذلك، «اللى عنده قدرة، واللى عنده عمر ورغبة يعمل حاجة، ينزل يشتغل فى الريف مع الفلاحين».

أشرت للتغيير الحاصل بعد سياسة الانفتاح، وكيف أثرت السياسة الوهابية فى المجتمع، كيف انعكس ذلك على الأدب؟

هو أفسد البقية الباقية من قيم الليبرالية، الحلم الليبرالى الذى لم يكتمل، والذى حاولت مصر خلقه، وخرجت نماذج مشوهة من الأدب والفن خاصة الأدب.

ويظهر هذا التشوه فى كثير من الأعمال التى لا تلمس شيئًا بداخلك كمصرى معاصر، توجد الآن، وتشعر برغبة فى تغيير الواقع من حولك.

إنه يخدعك، أو يأخدك للوراء، أو ينشئ صورًا يقلد فيها «شوية الحاجات اللى عرفها عن الغرب» أغلب المثقفين فى فترة الانفتاح «واللى فيهم شوية رمق راحوا اشتغلوا فى الخليج» أنا أيضا عملت شهرين فى السعودية، ثم رجعت «زى ما أكون أخدت علقة» وقالوا عنى إننى أكبر شيوعى فى مصر، وبهذا السبب طردت منها، مع العلم أنه لم يكن لى علاقة بأى تنظيم منذ 20 سنة.

مَنْ أحب الشخصيات -التى كتبت عنها- إلى قلبك ومَنْ أكثر شخصية تعاطفت معها؟

عبد الخالق المسيري

لماذا؟

هو نموذج اعتمدت فى تكوينه على صديقين عزيزين.

هل ترى عبد الخالق المسيرى ضحية؟

أراه ضعيفًا.

الأسطورة وذكريات الطفولة كانت حاضرة بقوة فى ذاكرة عبد الخالق المسيرى برأيك كيف تؤثر علينا طفولتنا؟

أعرف صديقًا، أستاذًا كبيرًا الآن، ما زال إلى الآن يتذكر البيت الذى نشأ فيه بقريته الريفية، كان يظل طوال الليل يرى الحمير ترتفع، وعليها ناس تكبر، ثم يدخلون عليه البيت، لدرجة أنه يفقد النطق، وحتى الآن هناك مشاكل فى التعبير لديه، الأسطورة هذه جزء من تكوين بنى آدم، حلم، على أسطورة، على جزء من الطفولة، على جزء من المخاوف التى تربينا عليها فى الصغر.

المكان يلعب دورًا مهمًا فى أعمالك، وهناك حضور لمحافظة مطروح وحى باب اللوق فى أكثر من عمل، منها «القاهرة» و«قمر على مستنقع» حدِّثنا عن علاقتك بهذه الأماكن؟

أعيش فى هذا البيت من سنة 1939، أتحرك من هذه الغرفة إلى هذه الغرفة، لا أسافر إلا إلى مرسى مطروح، لا أذهب إلى أى مكان آخر، إسكندرية مثلا أمرُّ عليها عابرًا أثناء سفرى إلى أن أصل مرسى مطروح، أما باب اللوق، كانت فى فترة من فترات الشباب هى وسط البلد بالنسبة لي. وأيضًا أعشق أسوان جدًّا.

مطروح مكان ساحر جدًّا، فيه الصحراء، والبحر، إضافة إلى أن أهل مطروح الأصليين “ناس نادرين” جدا، تركزت فيهم الخصائص العربية المصرية. طبعًا هذه الخصائص تتغير الآن تغيرًا شديدًا جدًّا.

ذكرت فى كتاب «وقفة قبل المنحدر» أن الإنسان المتحضر هو من يبقى تاريخه حيًّا.. برأيك لماذا لم نستطعْ الحفاظ على تاريخنا؟

لأنه كان عندنا حكام أغبياء، فلم يتم إحياء التاريخ، إحياء تاريخنا، انظر مثلا للتاريخ الذى يدرس فى المدارس، ستجد أنه تاريخ الحكام. أنت لم تدرس لهم تاريخ حضارة، ولا تاريخ أديان، أنت مثلًا تملك كتابًا لو تم تبسيطه وتقديمه للشعب المصرى لاختلفت المسألة، كتاب «فجر الضمير» لـ “جيمس برستيد”.

فى هذا الكتاب ستعرف أن المصريين هم أول من اكتشف معنى الضمير ومعنى التوحيد.

ذكرتَ أيضًا أنك عشتَ كل تجارب المثقف البرجوازى الصغير إلا السجن، وذكرت أنك عشتَ السجن فى بيتك وشارعك وعملك، هل المصريون يعيشون فى سجن كبير وهم لا يدركون؟

المصريون طوال الوقت كانوا فى سجن، على الأقل بالمعنى الرمزي، عن الوعى والحرية، عن تاريخهم، إذا كنت تجهل القراءة فأنت مسجون، إذا كنت تعجز عن الحصول على طعامك فأنت مسجون، إذا لم تجد رعاية صحية فأنت مسجون، والمصرى مسجون بهؤلاء الثلاثة. ليس من الضرورة أن يكون السجن فقط تعذيبًا وأصفادًا.


وأعتقد أن التجربة الحالية السياسية بعد 3 يوليو إذا لم تنقذ نفسها بعمل سياسى جماهيرى، ستفقد كثيرًا من جاذبيتها، وقدرتها على التغير، وستتحول إلى تكرر قديم للتجارب السابقة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر بجريدة القاهرة 

السبت، 27 فبراير 2016

علاء الديب وتمجيد الحياة






ابراهيم فتحى

تتناول أعمال علاء الديب الروائية تمجيد الحياة ابتداء من الحياة النباتية، الأزهار والأشجار، ثم الطيور والأطفال؛ وأعماله تحنو على الكائنات البشرية البسيطة التى لا تقترب إلى مستوى السياسات المعقدة. وتتناول رواياته القضايا الأخلاقية باعتبار أن كل سلوك طبيعى تلقائى هو خيّر الأخلاق، وتدب الحياة فى شخصياته الطيبة بأبسط أشكال الحساسية.

عاش علاء الديب مثقفًا واسع الثقافة الأدبية الرفيعة مهمومًا بقضايا الوطن وقضايا الجماهير مدافعًا عن الحريات باحثًا عن المواهب الجديدة متبنيًا لأصحابها فى كتابة أعطاها عنوان «عصير الكتب». وهذا العصير المكثف دائب الإحاطة بالأسئلة الفكرية العصرية محاولاً العثور على إجابات لها تتسم بالتفتح والتقدمية. كما كان مترجمًا ينقل إلى العربية كتب الاتجاهات الحديثة. وتناولت إبداعاته فيما تناولت أزمات المثقفين فى آتون التغيرات السياسية والاجتماعية والنكسات القومية.

وكان بطل رواية الستينيات أيام شعارات الانتصارات والاشتراكية، مثقف الطبقة الوسطى القادم من الريف إلى المدينة يتملكه رغم الشعارات إحساس بالمطاردة والخوف لأنه يرفض الانقياد للطريقة التى أقنعت بها السلطة أغلبية الناس. ولكن روايتى الستينيات «القاهرة» و»الحصان الأجوف» تتناولان موضوعات تتكرر فى معظم رواياته مع تغيرات فى إيقاعها وخصوصًا جمال ورمزية الحياة الطبيعية فى تضادها مع خشونة وقسوة الحياة السياسية. فحياة القرية يكون فيها الترابط العضوى بين الأهل محسوسًا بعيدًا عن الاصطناع والزيف، وتنمو مع موضوعات التناول هذه رمزية الشجرة فى روايات تالية.

وقد نقل علاء الديب الصحفى اللامع طرائق الكتابة الصحفية إلى السرد الروائى فى اعتماد على الصيغة الاختزالية الطبيعية البسيطة التى تناسب جميع مستويات القراء وتصور واقع قيم مشتركة لعالم التجارب المألوفة الذى نقرأ أخباره وحوادثه فى الصحف. وتدور الأخبار على الحوادث المعاصرة فى الهنا والآن؛ والذوات الشخصية فى هذه الحوادث محددة الإطار لها مركز نفسى مرسوم تعى ما بداخلها وتحكم على نفسها وفق سلم سائد مشترك من القيم. ولا يهتم علاء الديب بتقديم طلاء لغوى براق، ويراقب باطنه كأنه حوض شفاف من الماء تسبح فيها انفعالاته كأنها أسماك ملونة. وفى تصوير الشخصيات يحيط البساطة بهالة من التمجيد ويناصر الضعفاء احتجاجًا على العالم المعاصر ويرفض إدانة ما يختلف معه إدانة قاطعة.

وفى رواية «أطفال بلا دموع» -1989- نرى السرد يعتمد على المونولوج الداخلي، المحاكاة المباشرة لكلام المرء مع نفسه، كلام أفراد منعزلين انفصل زمنهم الذاتى عن الزمن التاريخى الموضوعى يدل على درجة معينة من انكفاء الشخصية على نفسها، وأنها فى حالة من الضياع تلجأ إلى الخمر والحشيش ويهرب من الجميع ولكن لا إلى أحد وينزل إلى حدائق جرداء كنفسه القاحلة.

وهناك رائعة أبدعها علاء الديب هى رواية «أيام وردية» (صدرت فى 2002). وكيف تكون الحياة وردية عند أبطاله فى عالم اليوم وهم يعانون من الوحدة والاغتراب والشعور بالكآبة والزيف والخواء والإحباط؟ بطل هذه الرواية مثل أبطال رواية علاء الديب الأولى «القاهرة» يرى شريط حياته ممتدًا أمامه كذكرى صديق مات، وفى استرجاع ماضى حياته والشريط كله يسمى نفسه تعيس الألفي، محبط الألفي، صاحب محلات الألفى للكآبة. هو مفكر عربى قديم ومصلح اجتماعى سابق ومترجم وكاتب منفى داخل جلده يرمز لشريحة عالية الصوت فى فترة اشتراكية الطبقة الوسطى قومية الطراز، ومثل نظرائه كان كثير الأقنعة ملاحًا قديمًا رابضًا على الشاطئ، بعيدًا عن تيار الفعل، مهزومًا. تفرغ لعمل لا شيء وكانت يساريته العتيقة تعاوده كأنها نوبات حمى. ونرى أمين الألفى فى صالة شقته أمام أكواب القهوة الفارغة والمنفضة الممتلئة عاريًا منزوع السلاح ليس عنده ما يقول، وقد تمكن منه العجز والإحباط بصورة مرضية دفعت به إلى مصحة للأمراض النفسية. فى تلك المصحة خلا الألفى إلى نفسه وإلى أحلامه الضائعة. حاول جاهدًا أن يجد تفسيرًا «لما حدث»، ما حدث له وللوطن وللدنيا، الهزيمة المسماة بالنكسة وانهيار المنظومة المسماة اشتراكية وهيمنة الرأسمالية المتوحشة المسماة الليبرالية الجديدة بفوارقها الهائلة. وغرق فى التساؤلات. وهناك يلتقى بفتاة فلسطينية اغتصبها كتائبيون فى الاجتياح الإسرائيلى للبنان وهى خطام. وتبدو فلسطين قضية مصرية شخصية فى وعى جيله. ويتذكر رحلة التنظيم الطليعى الناصرى إلى البلاد الاشتراكية وسط مجموعة مختارة من البلاد العربية مشغولين بالنهم والاستحواذ. وتتسع أيام المخيلة الوردية لكى يأخذ الفتاة الفلسطينية إلى مكان نظيف حسن الإضاءة فى محاولة للتوحد مع الوجود الطبيعي. ولكنه بفقد القدرة على الخيال والعيش بعيدًا عن الواقع، ويخرج من المصحة بعد أن صار شبحًا عابرًا رث الثياب حتى أدركه الموت وحيدًا. وتنتهى الأشياء لا فى صخب ولكن فى نشيج كما يقول إليوت فى قصيدة «الملك لك»، وخرجت أحشاء القرية بالأسمنت المسلح تنزف فى أحياء بأسماء البلاد مصدر النقود. ولاحظ النقاد، وهم على صواب فى ذلك، أن الرواية تخلو من تمجيد رومانسى للذات المنسحبة أو لعصاب البراءة فى ظل السنديانة، أو للوحدة فى وجه الاندماج القطيعى أو الذوبان فى قيم صوفية متعالية، كما تكررت الإشادة بالنقاء الأسلوبى وشعرية بناء الجمل.وقد بلغ علاء الديب فى الصنعة الروائية درجة عالية من الإبداع، وستظل أعماله فريدة فى تألقها، ويبقى أثره فى الكتاب والقراء عميقًأ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت  في جريدة الأهرام بتاريخ 27 فبراير2016


ملامح الاغتـراب الذاتـي في ثلاثية الديب







 وصفي ياسين
علاء الديب هو أديب وروائيّ مصريّ، وُلد في مصر القديمة بالقاهرة عام 1939م، وتُوفي عن 77 عاماً في 18 من فبراير 2016م. من رواياته: زهر الليمون 1978م، ثلاثية الغربة "أطفال بلا دموع 1989م، قمر على المستنقع 1993م، عيون البنفسج 1999م"، أيام وردية 2000م. حصل على جائزة الدولة التقديرية فى الآداب عام 2001م.


القراءة الأولية لثلاثية الديب تُحيلنا إلى مرتكزين أساسيين اعتمدت عليهما؛ الأول: نكسة يونيو 1967م، وآثارها النفسية المدمرة على كافة التوجّهات القومية والإقليمية خاصة الإبداع. والآخر: النزوح الجماعي لبلاد النفط. وتقف بنا على تجربة واحدة هي الغربة وجيلين هما الآباء والأبناء وثلاث رؤى وثلاثة مصائر للأب الدكتور منير فكار أستاذ الأدب العربي، وزوجته –طليقته فيما بعد- الدكتورة سناء فرج، وابنهما الشاعر تامر طالب كلية الآداب.

تنوعت تجليات الاغتراب في هذه الثلاثية بين الذاتي والاجتماعي والمكاني والثقافي، وسوف نتوقف في هذه الورقة عند الاغتراب الذاتي الذي يعني انفصال المرء عن ذاته الحقيقية، وقد نتج عن وجوده ثلاثة مظاهر سوف نتناولها بالعرض والتفصيل، وهي: التنكّر الاجتماعي وارتداء الأقنعة، الفشل في العمل، الظواهر الوجودية. (أميرة الزهراني: الذات في مواجهة العالم ص49)


أولا: التنكّر الاجتماعي وارتداء الأقنعة

هذا المظهر الاغترابي يرشّح لظهور الزيف والنفاق الاجتماعي في المجتمع المدني، والذي بدا بقوة بعد الطفرة الاقتصادية لبلاد النفط وأثرها على الوافدين، حيث يقول الدكتور منير: إن "للعلاقات في الوطن الثاني قواعد وقوانين تعلمتُها، فعلمتني أن أكون واحدا، أو اثنين، أو ثلاثة، أو أربعة عندما تقتضي الظروف، فهمتُ شكلا جديدا للعلاقة بين الوسائل والغايات، وتدرّبتُ أن أضم صدري على مشاعري، وأن أظهر للناس دائما بشكل ناجح جديد.

 "(ثلاثية الغربة 48) أي أنه تعلّم أن يكون بأكثر من لون، لذلك كان حريصا على أن يتخفّى خلف قشرة من التعالي والتبرّم والضيق بأحوال الدنيا رغم فرحه وانبهاره بثرواته المتزايدة، وصار مخبره مختلفا تماما عن جوهره. من هنا كان الدكتور منير يعاني شعورا بالتمزّق بسبب انفصاله عن جوهره الحقيقي، مع رغبة عميقة في نزع هذا القناع والتخلي عن الدور الجديد الذي صار يلعبه والعودة إلى بساطة الماضي الجميل قبل وقوع الطفرة، لأنه صار "إناء أجوف يرتدي بدلة جديدة وقميصا أبيض.

"(الثلاثية 49) قد يرشّح لهذا المظهر الاغترابي، الاستغراق التام في المجتمع الرأسمالي القائم على الزيف والنفاق الاجتماعي والمؤامرات المدبّرة والثقة غير المتبادلة والتعامي عن الدور الحقيقي. وهو ما وقعت فيه الدكتورة سناء بعد زواجها الثاني من المليونير "هاني قطان" وانتقالها بصحبة ولديها للعيش معه في الإسكندرية، حيث يقول تامر: "تعددتْ حالات أمي، وارتدتْ عشرات الوجوه.
 لكنها كانت قد تخلّصت إلى الأبد من الوجه الوحيد الذي أحبه وأعرفه. ومحاولاتها للتقرب مني كانت تجعلني أكرهها أكثر. انشغلت دوما بتدبير مؤامرات فاشلة لفضحه وضبطه متلبّساً عارياً مفضوحاً، من دون ذلك القناع الذي يداري به كل حياته."
(الثلاثية 233) مع اكتشاف المرء للهوة السحيقة بين ذاته الحقيقية الماضية وبين ذاته الحاضرة المصنوعة التي فقدت حسها النقدي وتحوّلت إلى مجرد أداة، فإنه يسحق كل ما أدى به لذلك، وهذا ما فعله الدكتور منير حيث "لم يرد ذكر سنوات الخليج في أوراقه كأنه قد محاها أو أسقطها عمداً." (الثلاثية 250) رغم أنه كان أثناء إجازته الصيفية القصيرة، لا يعود إلى شقته في القاهرة، ولا إلى قريته في المنيا، ولا يقطن فندقاً يناسب ثراءه الفاحش، ولا يزور أباه الكفيف الكهل، ولا يرى ابنيه، ولا يعطي هداياه لأحد. فقط، كان يجلس مراجعا حساباته وأملاكه، ومستدعيا الصور المتفرقة عن قريته ودراسته وطفولته وأسطورة كنز الجبل ومقالاته، واضعا فاصلا زجاجيا بينه وبين الناس، محافظا على ضياعه النفسي وفقده الوجداني وخوائه الفكري.

لم يكن التجاهل لسنوات الغربة في الخليج، وسيلة الدكتور منير الوحيدة للهرب من الواقع المزيف، بل انفلت منه عائدا إلى الماضي والقرية، حيث البراءة والصفاء في بيته الجديد قرب "بركة السبع" متزوّجاً بفلاحة اسمها "سكينة" ناشداً من الشحنة الدلالية للاسم النزوع إلى الأمن النفسي الذي بحث عنه طويلاً، مشغولاً معها إلى ما بعد العشاء بالحسابات المالية للممتلكات، مفضلاً حياة البسطاء الكادحة بعدما ضاعت أموال الخليج مع أزمات شركات الاستثمار وتعرّض لثلاث أزمات قلبية حادة، أجرى على أثرها عملية كبيرة في القلب.

نظراً لأن "زمن (المبنى الحكائي) للعمل السردي لا يخضع بالضرورة إلى الترتيب المنطقي للأحداث كما جرت في الواقع، بحيث يمكن أن يكون هناك استرجاع لأحداث ماضية، أو استباق لأحداث قادمة قبل أوانها." (حميد لحميداني، بنية النص السردي 73) فإن وسيلة الهرب الأخرى التي لجأ إليها الأبطال في ثلاثية الديب هي تقنية الاسترجاع، حيث واظب كل راوٍ دون كلل على أن ينبش في ذاكرته مستعرضا التأملات الشاردة نحو الزمن الأجمل والذكريات الأثيرة كي يضعها في مواجهة مباشرة مع سوداوية الحاضر. فحين كان الدكتور منير ينبش عن ذكريات طفولته، كانت الدكتورة سناء تتذكر حبها لعزيز، وكان تامر يسترجع حبه لكارين. هذا الهروب في حقيقته، يخلق شعورا بالراحة من الواقع الأليم ويخلّص النفس المعذبة من أعبائها ويساعدها على التفاعل مع المجتمع والخروج من اغترابها الذاتي.

ثانيا: الفشل في العمل
الفشل المقصود هنا ليس في الانتماء إلى العمل، ولا الشكوى من رتابته، ولكن في الوصول إليه والمحافظة عليه. فقد عانى "عزيز شفيق" الرسام والمصور، الأمرّين من أجل الحصول على عمل ثابت يضمن به عيشه وعلاج أمه ودفع إيجار الأتيليه، حيث كانت طرق العمل الثابت تبدو أمامه مسدودة، ولم يجلب عليه عمله في الجرائد والمجلات سوى المشاكل وفقدان الأصدقاء. وبعد النكسة صار يسخر ويلعن كل شيء، وغمر حياته الإحساس بالمرارة، مضطرا إلى الهجرة لفرنسا محققا فيها بعض النجاح كرسّام تجاري وكاتب في صحف المعارضة أحيانا، حتى اختطفه سرطان الكبد سريعا. لقد سيطرت عليه فكرة الضجر من الحياة في وطن ضيّع عليه فرص الحياة الكريمة، انعكاسا لفشله في تأمين عمل ثابت يحقق له ذاته الحقيقية.

وبقدر ما كان عزيز كادحاً لم يجعل من عمله متهماً يعلق عليه فشله، كان تامر كسولاً متواكلاً، ليس لديه أدنى دافعية نحو العمل، معلّقاً فشله على أزمته النفسية؛ حيث قال: كنت "أقف على أعتاب العمل، ولا أُقدم!" (الثلاثية 257) ومتهماً والديه مرة أخرى، بقوله: "كان جنب يدي دائما ما أحتاج من نقود من أمي أو أبي." (الثلاثية 261) فهذان النذلان، على حدّ رأيه، يملكان أطناناً من النقود، وفي كل زيارة لأبيه في "بركة السبع" كان الرجل حريصاً على إعطائه كميات مختلفة ومحترمة من النقود. إذن، لم يكن تامر في حاجة إلى العمل، لأن حصوله على المال لم يمثل مشكلة لديه، لذلك فشل في احترام اتفاقه مع زوجته كارين وتنفيذ خطة للعمل المنتظم، وظل بلا عمل في الوقت الذي كانت تعمل فيه ليل نهار دون كلل.

عندما أحس كل من عزيز وتامر بالسأم من الحياة الراكدة، لجأ كل واحد منهما إلى ما يلهيه عن أزمته الحقيقية. فعزيز أدمن الخمر ونحل وصار شبحا حتى لم يعد معلوما هل هو يشرب الخمر أم أن الخمر تشربه؟! وكان "يفرش الصور الفوتوجرافية الكبيرة والصغيرة التي يمضي النهار في تصويرها وتكبيرها وتصغيرها، يفرشها أمامه على الأرض ثم يسكب عليها بعضا من خمره، ويشعل فيها النار." (الثلاثية 142) فهو يعمل نهارا ويحرق عمله ليلا، معبرا عن حقده على المجتمع الذي همّشه وعن عدم تأقلمه مع الواقع وإحساسه الداخلي بالخواء. بينما لجأ تامر إلى دائرته الجهنمية من المقاهي والشوارع والأصدقاء معبرا عن حصاره النفسي وانسحابه من الواقع، مظهرا سلبيته المقيتة وإرادته الصفرية.

ثالثا: الاغتراب الوجودي

يتعلّق الاغتراب الوجودي بمغزى ومعنى الحياة، الذي يعطي وجوده قيمة لها، بينما يمكن التغلب على فقدانه باختراعه أو باكتشافه بعد البحث عنه، أما الإخفاق في العثور عليه، فإنه يصيب صاحبه بالفراغ الوجودي الذي يصاحبه الشعور بالعبثية واللا معقولية والشعور بالفراغ والخواء النفسي.

يعاني أبطال ثلاثية الديب الأساسيون اللا معنى والشعور بالخواء والموات الداخلي ومطاردة الهلاوس النفسية والعقم الفكري والعجز عن تطوير الذات أمام المتغيرات الجديدة، فالدكتور منير يعاني القلق من المجهول ويسيطر عليه دائما الشعور بأن هناك مؤامرة ضده تستهدف القضاء على أمواله ونفسيته وحياته، ورغم أنه كان يرى في طليقته صاحبة المؤامرة الكبرى ضده، إلا أنه لم يتخلّص من هذا الشعور، وداوم على استحلاب حبات أزمته القلبية حتى مات متأثرا بها. وتشخّص الدكتورة سناء حالتها بقولها: "كثيرا ما رأيتُ بذور الآخرين تنمو، أمّا بذوري أنا التي كنت أزرعها في ظل روحي في حدائقي الخلفية فقد ظلت حتى الآن عاقرا، جافة، لا تنمو ولا تخضرّ، حتى بحري الكبير لا يعرف ولا يرد على سؤالي الجارح: متى مت، متى ماتت روحي، وأمي، ووطني، متى رحلت عني الطهارة والبراءة، ولم يعد لي سوى كهولة، وعفن زاحف؟"(الثلاثية 141) وخطيئتها في حق نفسها أنها لم تتجاوز أزمتها بعد أن هجرها حبيبها عزيز ميتا في الغربة، ففشلت في زواجها، وفقدت ولديها رغم انتزاعهما من طليقها، وكانت تستعين دائما على الكوابيس المفزعة التي تطاردها بحبتها المهدئة متظاهرة بالقوة والاستقرار رغم شيخوختها الداخلية، استماتة منها في إخفاء فشلها وادّعاء النجاح. وكانت أزمة ابنهما تامر في اللا معنى والشعور بالفراغ الوجودي وفقدان المغزى، حيث يقول: "أخاف أن يكتشف أحد عورتي. فراغي الذي أشعر به. أن يطلع أحد على لا جدواي. أن أعلم ويعلم الناس أنني غير ضروري." (الثلاثية 215)

استعان الأبطال الثلاثة على ملء الفراغ الداخلي الذي أكل ذواتهم بالجوانب المشرقة باحثين فيها عن الخلاص الوجداني بوصفه القيمة التي ستعيد إليهم توازنهم وستخلصهم من أزماتهم. فالدكتور منير عاد إلى الماضي والطفولة والقرية، التي يقول عنها: "أعود أذكر قريتي، شارعها الترابي، أرض ميدان المحطة المرشوش بالماء، تهفو نفسي لمنظر قبل الغروب في شرفة بيتنا. في يد أبي مسبحة سوداء وفي البيت رائحة خبز طازج، وخضرة باذخة نقية تحيط بكل المكان." (الثلاثية 77) أمّا الدكتورة سناء فقد لجأت إلى البحر الذي قالت عنه: "البحر أعظم شيء في حياتي، مطلق، ووحيد، أعشقه، وأحسه يقتحمني وأقتحمه، في ندية كاملة مستحيلة، النظر إليه يجعلني راغبة في البحث عن مكان جديد، عن نقطة جديدة أبدأ منها... هناك سأجد ما أبحث عنه، سأجد ما ضاع مني." (الثلاثية 130) بينما لجأ تامر إلى الحب الذي افتقده طوال حياته، حيث يقول عن كارين: "تصل إلى روحي من أقرب الطرق، أمرُّ بعيوني على جسدها كأنني ألمسها كأنني أطير... حضورها سحريٌّ آسرٌ، وجودها معي بلا ثقل كأنها موجودة منذ القدم... يغمرني صوت وضوء مستحيل يتكوّر جسدي دون ألم، ويغسلني حضورها برائحة العشب الأزرق." (الثلاثية 212)

لجوء الأبطال إلى القرية والبحر والحب لتعويض شعور الخواء الداخلي الذي يتمزّقون من خلاله، يعكس الوعي الذاتي للحالة المأزومة والرفض القاطع للمكوث بها، ويكشف إيجابية النفوس المعذبة وسعيها للخلاص باعتبارها شخصيات فاعلة لا منفعلة. لكن فشلها جميعا في اجتياز أزماتها يجزم بسلبيتها وعدم جدية محاولاتها التي لم تكن إلا نوعا من الهروب الداخلي، واعترافا بالعجز عن فهم العالم من حولهم، وإدراك مغزى الوجود.
بعيدا عن الشعور بالفراغ والخواء النفسي، فإن العبثية واللا معقولية، مظهر آخر من مظاهر الاغتراب الوجودي، والذي عبّر عنه الدكتور منير من خلال خليلته "أم عصام" تلك المومس المعتمرة التي قال عنها: "حكت لي أم عصام عن متع رحلة العمرة الأخيرة، وكيف أنها تنسى نفسها تماما هناك، وترى الدنيا بعيدة... وترى الإسكندرية وكأن لا وجود لها، هناك تنسى شقتها تماما وتتمنى ألا ترجع إليها أبدا، كانت عيونها لامعة واسعة جميلة، هي تنظر إليّ من خلف كوب الليمون متساءلة: هل أصدقها؟"(الثلاثية 27) إنه ينقل عبثية الحالة التي تعيشها شخصية "أم عصام"، مستغلا ذلك في نقل عبثيته الذاتية ولا معقولية كثير من الأمور التي يعيشها.

تمثلت عبثية الدكتورة سناء في ارتباطها المجنون بعزيز، ذلك النصراني الذي حسبها نصرانية مثله، فاندمج في أسرتها خاصة مع أبيها وأخيها، ولم يعترض على هذه العلاقة غير المتكافئة سوى أمه التي كانت تشيح بوجهها عنها، وأختها "نورا" التي كانت مسرورة لرحيل "عزيز" وانتهاء حياتها معه. وتعبيرا عن استمرار مسلسل اللا معقولية بين أفراد أسرة الدكتور منير، كرر تامر تجربة أمه في العشق بطريقة أخرى؛ حيث تعلّق بالفتاة البولندية كارين رغم الاختلافات الحادة بينهما في الدين واللغة والثقافة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر في موقع اليوم بتاريخ 27 فبراير 2016

الخميس، 25 فبراير 2016

«علاء الديب»... درس فى إتقان الكتابة










عمار علي حسن


ما إن يأت أحد على ذكر الكاتب الكبير الأستاذ علاء الديب، الذى غادر دنيانا قبل أيام إلى رحاب ذى الرحمة والجلال، حتى تستدعى الأذهان صورة ذلك الصانع الماهر الذى ينهمك فى جلسته الطويلة بنسج سجادة يدوية، متينة الخيوط وبديعة الألوان، غير عابئ بخطوط الإنتاج الآلى وماكيناتها التى تزمجر إلى جانبه، وتغرق السوق بما صنعت.


مضى، الديب، وفى كفيه أعمال تقل عن عدد أصابع يديه، لكنها وضعته فى مصاف الكبار، كما هى حال الطيب صالح والمكسيكى خوان رولفو، لكنه زاد عليهما بأن فتح عقله وقلبه لآخرين، أدباء وكتاب ومفكرين وباحثين، يلتهم ما أبدعوه أو ألفوه وصنفوه وأعدوه، ويخرج رحيقا صافيا فى باب صحافى، ظل يكتبه عقودا من الزمن، تحت عنوان «عصير الكتب»، ليلفت الانتباه إليه بشدة، كواحد من أبرع المحتفين بكل كتاب جديد يقع تحت عينيه، ويروق له، أو يدرك أنه مهم بالنسبة للناس.


حكى لى الأديب الكبير محمد المنسى قنديل كيف فوجئ ذات يوم بعلاء الديب يقف فوق رأسه، وهو جالس فى غرفة بيت بسيط بالمحلة الكبرى يذاكر دروس الطب. كان الديب يومها معروفا، وكان قنديل على أول الطريق، نشر حفنة من قصصه القصيرة فى صحف ومجلات، لكنه عبر بها عن موهبة أصيلة، التقطها الديب وراح يبحث عنها. وحين رفع المنسى رأسه وسأله: كيف وصلت إلى هنا؟ ابتسم وقال: سألت باعة الكتب القديمة عنك فدلونى عليك. هكذا كان الرجل يبحث عن الذين يظنون أنه لا يعرفهم، ولا يعير ما يكتبونه أى اهتمام، فكان يفاجئهم بقراءة أعمالهم، والكتابة عنها بمحبة وامتنان.


فى أعماله الأدبية، روايات وقصص، ضرب الديب مثلا ناصعا فى القدرة على الاختزال والإزاحة والتكثيف، فجاء نصه شاعريا خاليا من ورم الكلمات، التى لا تضيف جديدا إلى المعنى، وفى هذا كان الأكثر التزاما بوصية يحيى حقى، الذى انشغل لتخليص السرد العربى من أعباء التكرار والاجترار والانجرار وراء وحول السجع والمحسنات والمترادفات التى لا تؤدى إلى تقدم النص والمعنى، وتخلق نوعا من ركود السرد، وتتعامل مغ اللغة ليس بوصفها وعاء للمعانى إنما مجرد قلائد زينة.


تظهر هذه المهارة بشكل واضح فى ثلاثيته: «أطفال بلا دموع» و«قمر على مستنقع» و«عيون البنفسج»، فرغم أن الديب استعمل فيها تقنية لورانس داريل فى «رباعية الإسكندرية» حيث تعاد الحكاية نفسها بألسنة متعددة، ومن وجهات نظر مختلفة تماما، فإنه أشعرنا مع كل جزء بأننا أمام حكاية جديدة، تجنب فيها التكرار، واستغنى عن التفاصيل، واستعاض عن الحوار المتعدد بسبر أغوار نفوس أبطاله، واستغراقهم فى استبطان أشبه بمناجاة دائمة، والوقوف على الحد الفاصل بين التذكر والتخيل.


تعب الديب على نصه، وأعطى درسا بليغا فى إتقان الكتابة، وظنى أنه كتبه غير مرة فهذبه وجعله يصل إلى المعنى من أقرب وأجمل طريق، لينتهى إلى هذا التكثيف الشديد، الحافل بالصور والمفارقات والشاعرية والمعانى الفلسفية والنفسية والاجتماعية العميقة. وربما هذا هو الذى جعله يتعامل مع الكتابة بشعور تختلط فيه المحبة بالهيبة، وتتصارع فيه الرغبة فى الانطلاق مع الميل الصارم إلى التمهل، وبدا الديب يتصرف وكأن الزمن طوع بنانه، يتحدث مع من كانوا يطالبونه بعمل سردى جديد عن أن رأسه مشحون ومسكون بقصص وحكايات وأنه سيكتبها، فينتظرونها، لكنه كعادته كان يهرب فى نصوص غيره، يتذوقها ثم يكشف فيها عن درر مخبوءة، تكون أحيانا غائبة عن آخرين، بل عن كاتبيها أنفسهم، لينثرها بمحبة ظاهرة فوق السطور.


كان أصحاب هذه المطالبات صنفين، الأول يريد هذا السرد الشاعرى العميق كما فى الثلاثية التى تصدر روايات حاليا تصل إلى ثلاثة أضعافها من زاوية عدد الصفحات، البعض كان يطلب منه كتابة أخرى على غرار روايته الأطول نسبيا «زهر الليمون» التى نذهب فيها مع بطلها «عبدالخالق المسيرى» فى رحلة قصيرة مفعمة بالانكسارات والأحزان التى تبدأ من غرفة صغيرة فوق سطح بيت قديم بمدينة السويس وتنتهى فى القاهرة، وتجسد عبر هذه «التغريبة الطارئة» محنة جيل الخمسينيات والستينيات فى مصر، حيث الأحلام الكبرى المجهضة، وعودة الشعور بالاغتراب، وطرح التساؤلات المركبة عن سبل الخروج من ضيق الآتى إلى براح الآتى. وبذا فالرواية تقدم خبرة إنسانية حية وعميقة.


لكن الديب يستجيب بطريقته فيكتب كتابه «وقفة قبل المنحدر: من أوراق مثقف مصرى»، الذى يشكل شهادة جارحة وبارحة على ثلاثة عقود مصرية ( 1952 ـ 1982)، ويقول هو عن هذا الكتاب: «هذه الأوراق أراها، محزنة، محيرة، وكئيبة. لكنها صادقة، صدق الدم النازف من جرح جديد.هى أوراق حقيقية، كان من الضرورى أن تكتب؛ لأنها كانت البديل الوحيد للهروب مع أى شيطان أو للانتحار».


ويحاول الكتاب أن يجيب عن أسئلة من قبيل: «ماذا حدث لنا فى تلك السنوات؟ ماذا حدث للناس وللبلد؟ من أين لإنسان يشعر ويفكر أن يحتمل فى حياته كل هذه التقلبات والتغيرات؟ أليس من حق الإنسان أن يلتقط أنفاسه، ينعم بحياة مستقرة بعض الشىء، هادئة بعض الشىء، مفهومة بعض الشىء؟!» وفى كل الحالات كان حريصا على أن يبقى على بعد مسافة شاسعة من القبح والهوان والتسلط، وحريصا على أن ينبه الغافلين، اللاهثين وراء كل شىء رخيص، من أن ينزلقوا إلى المنحدر، إلى الهاوية، إلى ما ليس له قرار، وإلى الضياع، والذهاب بلا عودة.


ولأن الديب كان يميل إلى التأمل الطويل والتبصر ويؤمن بدور الحدس شأنه شأن الخبرة والوعى فى حركة الحياة، حرص على أن يترجم كتاب «الطاو» للفيلسوف الصينى لو تسو، وهو يحوى الفلسفة الطاوية الغارقة فى التأمل والصبر والحكمة والبحث الدائم عن الامتلاء الروحى والسمو الأخلاقى. ويقول الديب فى مقدمة الكتاب: «أقدمتُ على ترجمة هذا النص فى فترة ارتبكت فيها حياتى: هزائم خاصة، وهزائم عامة، وارتباك فى الفكر والسلوك. وكان لهذه الترجمة تأثيرها: لا أقول عالجت الموقف، ولكنها أضاءت بعض جوانبه، ودعتنى إلى الاعتدال والبساطة فى تناول الحياة».


ظنى أن هذا النص البديع، الحافل بالفلسفة والأخلاق والجمال، قد أثر فى الديب تأثيرا كبيرا، فليس المهم كم تكتب؟ لكن كيف تكتب كلمات تبقى؟ كلمات ليس أبنية مرصوصة كغابات الأسمنت تملأ العيون قبحا، لكن كزهور يانعة تملأ العين بهجة، والقلب طربا، والعقل حكمة، والطريق نورا، فنمضى على هداها إلى كل الغايات النبيلة.



لقد ظل الديب يطرح التساؤلات حول مأساة جيله، والجيل الذى أتى بعده، فتراكمت الأعباء وزادت الأوجاع، مع جسد يضمر، وعينين تسكنهما العتمة رويدا رويدا، مفسحة طريقا للبصيرة، حتى قامت ثورة يناير المجيدة، فتفاعل معها كتابة، رغم مرضه الشديد وقلة حيلته وهوانه على كثيرين. ربما رأى فى هتافات الغاضبين الذين فاضت بهم الشوارع الباردة، إجابة كبرى على الأسئلة التى طرحها قبل الانزلاق إلى المنحدر، لكنه راح يتابعها بأسى وهى تراوح مكانها، دون أن يفقد الأمل فى أن الشعب سينفخ فى أوصالها من جديد، فتتجدد وتقوى، جارفة أمامها الفساد والاستبداد، لكن ها هو الموت لا ينتظره، ويغيبه قبل أن يرى حلمه هذا يتحقق، يرى أولئك الذين فهموا ووعوا الدرس فوقفوا قبل المنحدر، مصرين على ألا ينزلقوا فيه أبدا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في جريدة المصري اليوم بتاريخ 25 فبراير 2016