السبت، 19 سبتمبر 2015

من يخاف زكريا تامر؟









أصدر «زكريا تامر» كتاباً ضخماً بعد صمت طويل.
 يقول فنان القصة القصيرة السورى فى تقديم كتابه الجديد «إنها الكلمات»:

الكلمات مسكينة وحالها عدم

لا تطعم جائعاً

لا تمنح بيتاً لأسرة مشردة

لا تحرر سجيناً من سجنه

لا تعاقب قاتلاً

لا تهزم ظالما

لا تهب الحدائق للأطفال والمدارس للأميين والمستشفيات للمرضى

لا تملك معاول ونيراناً تطوق قلاع الطغاة

ولكنها هى المختصة بحض المقهورين على طلب الحرية المفقودة والموت فى سبيلها


هذه هى أحلام زكريا تامر، وهذه هى أسلحته: الكلمات، جنود بلا أسلحة، منذ عام 1960 عندما أصدر «صهيل» الجواد الأبيض» وهو يحارب نفس المعركة، مستخدماً نفس الأسلحة، ولد زكريا تامر فى دمشق القديمة 1931 فى «حى ساروجه» حارة «البحصة»، ترك التعليم والمدارس لظروف مادية 1944، عمل فى مهن يدوية كثيرة واستقر فى مهنة «الحدادة» التى أحبها وأتقنها، يعيش الآن فى «اكسفورد» فى إنجلترا بعد أن عاش هناك منذ 1981، يقول عنه أقرب أصدقائه وأهمهم، الشاعر والمسرحى الدمشقى الراحل «محمد الماغوط»: «زكريا حداد يعمل فى الكتابة، حداد فى وطن من فخار، أكثر من 10 مجموعات قصصية، وهو يطرق بالمطرقة على نفس القضية: الاستبداد والحرية.


لم يكتب إلا القصة القصيرة، والقصيرة جداً، وكتب للأطفال والكبار، خلق فى كتابته عالماً خاصاً به، الآن يصدر على الإنترنت جريدة يومية اسمها «المهماز»، يواصل فيها الطرق، أخذت الكتابة شكلاً جديداً، شكل الرسائل القصيرة، هى التى جمعها فى «أرض الويل» هذا الكتاب المؤلم، كأنه يزرع أشواكاً فى الروح، يقول فى رسائل إلى محمد الماغوط:


«آمن محمد الماغوط أن قراء هذا الزمان لا يطلبون إلا أخبار الراقصات والمغنين والمغنيات فتوقف عن كتابة الأشعار، واكتفى بكتابة الرسائل القصيرة المعبرة عن همه وغمه».


«كتب رسائل كثيرة ولكنها لم تشبع نهمه إلى الكتابة فعاد مرغماً إلى كتابة الأشعار، وشرع فى الانتقال من كلمة إلى كلمة، باحثاً عن الأقوى والأعمق والأبسط والأجمل والأرشق والأبلغ والأصدق، فقالت له الكلمات محذرة: كل كلمة تكتبها على الورق ستستولى على جزء لا يعوض من لحمك وحياتك، فلم يسمع محمد الماغوط ما قالته الكلمات، واستمر فى الكتابة متقطع الأنفاس.


يقول «زكريا تامر»: الناس تعرف واقعها جيداً، فهى تعيشه. الكاتب اعتماداً على المخيلة: يخلق واقعاً آخر، لذلك لا يوجد شىء اسمه القصة الواقعية، توجد قدرة الكاتب - عن طريق المخيلة - على إقناع القارئ بأن ما يقرؤه واقع، أقدم فى عملى المحتوى دون المظهر، لا توجد فى أغلب كتاباتى أسماء مدن أو أماكن أو شخصيات، المهم هو الوصول إلى التعبير - بصدق - عن أوجاع الناس، وراء الكتابة مغزى، ولكنها بعيدة عن الوعظ، لم أتعمد التجديد بل كنت أبحث عن الصدق فى نقل الصوت الداخلى، هذا يحتاج إلى ميزان الذهب.

بعد المجموعات الأربع الأول: «صهيل الجواد الأبيض - الرعد - ربيع فى الرماد - دمشق الحرائق»، أصبح من الممكن تبين ملامح «الواقعية التعبيرية» التى ظل حتى الآن - مد الله فى عمره - يحاول تحديد ملامحها، أعماله لا ترضى السلطة وكذلك لا يرحب بها الشيوعيون، يقول فى قصة قصيرة جداً:

«فى قديم الزمان كان يحيا رجل معوز ذو وجه يشبه أرضا لم يهطل فوقها المطر».

فى دمشق كان زكريا تامر يكتب قصصه وسط الناس، فى المقهى فى الشارع وسط ضجيج الميادين، الآن يكتب قصصه أو رسائله فى القطار الذى ينقله من أكسفورد إلى لندن. ويقول:

فى القطار أحلم بأن أعود إلى دمشق، وأن أجلس فى المقهى، وأن أشتم مع أصدقائى كل المسؤولين وأصحاب السلطة، وألا يعتقلنا أحد.

لم أترك دمشق خوفاً من الاعتقال، ولكننى رحلت عندما تركوا جثة رجل فجر فى نفسه حزاماً ناسفاً، تركوا الجثة أياماً حتى كان أطفال الشارع يتقاذفون بالأشلاء، هذه دمشق التى تركتها، لن أعود حتى تتغير.

من أهم قصص زكريا تامر، قصة «النمور فى اليوم العاشر» هى قصة الطاغية والشعب - الطاغية يروض الشعب عن طريق الجوع، يجعله ينهق كالحمار ويأكل الحشائش ويحاول الطيران.

النمر هو الحيوان الوحيد الذى يبقى دائماً ترويضه مؤقتاً، لذلك فى السيرك عندما تقدم ألعاباً مع النمور يكون هناك دائماً حامل للسلاح، فهو قد يعود إلى توحشه فى أى وقت، لذلك تنتهى قصة زكريا تامر هذه النهاية الموحية:

«فى اليوم العاشر، اختفى المروض وتلاميذه والنمر والقفص، فصار النمر مواطناً والقفص مدينة».

المغزى والنبوءة، هى حلم الكاتب والشعب السورى.


أرض الويل. زكريا تامر. جداول للنشر بيروت 2015
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في جريدة المصري اليوم بتاريخ 19 سبتمبر 2015