الأربعاء، 29 أبريل 2015

رحلة إلى زمن آخر





قطع الشاعر الفنان أحمد مرسى رحلة طويلة شاقة فى الشعر والفن بحثا عن معنى الوجود الإنساني.
رحلة فى الكلمات والصور وديكورات المسرح، فى المجلات، والترجمات، والنقد.


بدأت الرحلة فى الإسكندرية خاصة به:
 ولد فيها 1930، وأصدر أول دواوينه «أغانى المحاريب 1949» منها ركب أيضا قطاره الخاص الذى ظل حتى الآن يسافر فيه عبر الزمان والمكان، صامتا، يغزل الصور والكلمات والمعاني.


 فى 1970 أعاد الشاعر السكندرى اليونانى كفافيس إلى العربية فى ترجمة رائدة لديوانه «ثورة الموتي».
فى قاهرة الستينيات اشترك فى عمل ديكورات المسرح الجديد«ألفريد فرج وآخرون».
 كما أشتراك فى اصدار جاليرى 67 والطليعة.
إلى العراق سافر وعاد لكى تبدأ رحلة أخرى إلى أمريكا:
منذ 1974 حتى الآن، يعود كل شتاء إلى مصر ليركب نفس القطار:
قطار لا يحيد عن مساره القديم
عابرا نفس المحطات التي مازال راكبوها فى انتظار قطارلا يجيء
إنه يبحث عن الاسكندرية التى تسكن روحه. ولم يعد يجدها. اسكندرية الحرية والتعدد وآفاق العالم المفتوح:

نعم، فقدت اسكندريتي
متي؟ أو كيفلا أدري
ولكن سوف آتيها شتاء مرة فى العام إن طالت حياتي


أصدر المجلس الأعلى للثقافة منذ سنتين أعمال أحمد مرسى الكاملة فى كتاب ضخم، ثم أصدر الشاعر أخيرا ديوانا صغيرا جميلا عن هيئة الكتاب: الغلاف للفنان: عادل السيوي:
يضم الديوان: 30 قصيدة جديدة للشاعر، وعشر لوحات له.
فى تركيز شديد ووضوح مقطر يحمل هذا الكتاب:
روح أحمد مرسي، ومعنى الشعر والرسم والصمت فى رحلته. 


يقول فى قصيدة «حيرة»:
لم يعد يمتعني
أن أبحث فى لا مكان
عن مكان فقدته
منذ أغرانى انسدال الظلام
بالبحث عن ضوء
يرانى ولا أراه
فقد دربت عيني
ألا ترى من يراني
طالما لا أريد
رؤية وجهي
فى وجوه بدون
أى ملامح

امتدت رحلة نيويورك طويلا، وكتب الشاعر
«صور من ألبوم نيويورك» وقدم ترجمة مهمة للشعر الزنجى الأمريكي.كتب قصائده فى «باص: أتوبيس 103» الذى يحمله يوميا فى المدينة الغريبة القاسية.
 فى قصيدة: «الأحد»: واحدة من أجمل وأطول قصائد الديوان، يقول الفنان الشاعر والرسام فى تصوير فاجع لقسوة المدينة وفراغها الإنساني:
اليوم أجد
البعض ينقب
فى أغوار سلال
قمامة مانهاتن
أيبحث عن إنسان
جاوز عمرا
حد صلاحية الإنسان؟
.. أو يطبع بحامض كاوى صورة تلك المرأة الشمطاء فى شوارع خالية ظهرا من البشر، وهي:
تمسك مقود كلب/مكتئب/ يتثاءب فى ضجر/ وتفعل فى وجل
ما تفعله يوميا: روتين الانصات إلي
خطوات الموت
اليوم أحد/ أجراس كنائس مانهاتن/ لا تقرع/ حتى لو قرعت/ لا يصدر عنها أى رنين/ أى صدي/ .../ أجراس كنائس مانهاتن/ صدئت..!!


طالت الرحلة، وطال الاغتراب بحثا عن ظل مبهم للفن والإنسان.
وعندما حدثت معجزة «التحرير فى القاهرة» كتب الشاعر يقول:
لم أشترك/ بالجسد الواهن في/ معجزة التحرير لكنني. انعتقت/ مثل غيري/من قيود كبلتني/ نصف عمري/ بإغتراب لا حقيقى فى الوطن/ ثم اغتراب واقعى خارج قضبان الوطن.


الاسكندرية فى الشتاء، حيث الشمس والمطر ستظل دوما تنتظر قدوم الشاعر، كما يعود طائر النورس كل عام.
لقد أنجزالشاعر ـ بلا شك نوعا خاصا من تحرير وتجديد الشعر العربى الحديث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 نشرفى الأهرام بتاريخ 29 إبرايل 2015







السبت، 25 أبريل 2015

كم أنا وحيد بدونك!













هذه جوهرة جديدة من جواهر أدب أمريكا اللاتينية، من ترجمة أستاذ الترجمة الإسبانية صالح علمانى كتبتها سيدة نادرة من نيكارجوا «جيوكوندا بيللى» (مواليد العاصمة ماناجوا 1948). هى شاعرة ومقاتلة سياسية ضد الديكتاتورية التى حكمت بلادها لنصف قرن ومازالت تقاتل ضد سيطرة العولمة الأمريكية وضد نفى الرجل لدور المرأة فى صناعة الفكر والحضارة والمستقبل. تنتمى أصلاً إلى عائلة كاثوليكية أرستقراطية.

 تزوجت قبل أن تبلغ العشرين. لها أربع بنات. نقلت السلاح عبر الحدود إلى ثوار السندوينستا، وكتبت شعراً حراً جريئاً عن مشاعر المرأة، وشغلت بعد سقوط نظام الديكتاتور سوموزا «1979» مناصب فى وزارة الداخلية، وأنشأت إذاعة حرة جديدة فى بلادها. لها رواية شبه سيرة ذاتية بعنوان «المرأة المسكونة» (مترجمة إلى العربية هى وعملها هذا فى سلسلة الجوائز المصرية)، امرأة جميلة قوية مازالت تطالب بعولمة مختلفة تنشر السعادة والعدل، عولمة لا تنفى فقراء العالم بل تكون فى خدمتهم، تعيش الآن فى الولايات المتحدة، ولها كتاب عن حياتها بعنوان «بلادى تحت جلدى».

الرواية التى بين أيدينا، ذات العنوان الغريب «اللامتناهى فى راحة اليد» أو فى راحة يدك أو يدى- أجمل تعبير عرفته عن دهشة اكتشاف الحياة خيرها وشرها، دهشة اكتشاف النفس، الضعف والقوة، اكتشاف الجنس، والبحر، والشمس، الخوف من السحاب والقمر، الفرح بالمعرفة والقمر، تقول فى مدخل الرواية «200 صفحة - 31 مشهداً قصيراً» قسمان الأول بعنوان (وخلقهما رجلاً وامرأة) والثانى بعنوان (أثمروا وتكاثروا). 

لعلك عرفت أن الرواية عن آدم وحواء، وعن جريمة قابيل وهابيل» تقول فى مدخل الرواية أبياتاً من قصيدة للشاعر الإنجليزى وليم بليك «ترى العالم فى حبة رمل، والسماء فى زهرة برية، وتجمع اللامتناهى فى راحة يد، والأبدية فى ساعة واحدة».

أو تقول مع ت. س. إليوت: نهاية كل اكتشافاتنا: الوصول إلى المكان الذى بدأنا منه والتعرف إليه أول مرة، تقدم بيللى بعملها المدهش «وهى المرأة غير المتدينة. بآيات من سفر أراميا من التوراة الإصحاح 51، 37 الذى يقول: «تكون بابل كوماً مأوى بنات آوى، ودهشاً، وصغيراً بلا مساكن» أطلت فى سرد هذه المقدمات لكى أصل إلى التقديم الفاجع الموجود فى أولى صفحات الكتاب ونصه: هذا الكتاب مهدى إلى ضحايا حرب العراق المجهولين، ففى مكان ما من تلك البلاد، بين دجلة والفرات، كان هناك فردوس ذات مرة».


ولد هذا العمل الجميل من الدهشة والحب والإتقان والبحث فى أصول أساطير خلق آدم وحواء فى التراث العالمى: العبرى «أربعين آية فى سفر التكوين» ومخطوطات مكتبة نجع حمادى المصرية التى اكتشفت فى الصعيد عام 1944، وفى مخطوطات البحر الميت فى وادى قمران، و«الميذورا» وهى تعليقات كتبها حاخامات متفقهون فى شرح العهد القديم.

تقول جيوكندا بيللى:
«هذه قصة آدم وحواء وأبنائهما (قايين وهابيل) ولولوا وأكليا، تسلحت لكتابتها بتلك القراءات المترعة باستنتاجات كاشفة وفاتنة، أطلقت العنان لمخيلتى لأستحضر فى هذه الرواية خلفيات تلك الدراما القديمة، ومشهد الفردوس السريالى، وحياة ذلك الثنائى الشجاع والمؤثر، ومع أننى لست متدينة، إلا أننى أرى أنه كانت هناك امرأة أولى ورجل أول، وأنه يمكن لهذه القصة أن تكون قصتهما، هذه الرواية تخيل يستند إلى تخيلات أخرى وتفسيرات وإعادة تفاسير نسجتها البشرية حول أصولنا منذ أزمنة لا ترقى إليها الذاكرة، إنها فى دهشتها وحيرتها قصة كل واحد منا».

ملاحظة أخيرة: لفظ حواء ليس لفظاً قرآنياً!


وكان.
فجأة من اللاكينونة صار كائناً يعى ما كانه. فتح عينيه، تلمس نفسه وعرف أنه رجل دون أن يعرف كيف عرف ذلك، رأى الحديقة وأحس أنه مرئى. نظر فى كل الاتجاهات أملاً فى أن يرى آخر مثله.
وبينما هو ينظر، نزل الهواء عبر حنجرته فأيقظت الريح الباردة حواسه. شم، تنفس ملء رئتيه وأحس فى رأسه بالتقلب المضطرب للصور الباحثة عن تسمياتها، فانبثقت الكلمات والأفعال من أعماقه نقية واضحة لتحط على كل ما يحيط به. سمى، ورأى أن ما يسميه يتعرف على نفسه. هب النسيم على أغصان الشجر، غرد العصفور، فتحت الأوراق الطويلة أياديها المرهفة، أين هو؟ تساءل: لماذا لا يظهر ذاك الذى يرصده بنظرته ولا يسمح بأن يرى؟ من هو؟

بهذا الغموض الشعرى الواضح والفاتن فى نفس الوقت، تتوالى مشاهد الأسطورة الحديثة التى أعادت الكاتبة حكايتها مشحونة بالمعرفة والحكمة والشعر، هناك تلك القوة المدبرة الخالقة المسيطرة التى يطلق عليها «الوكيم» (وهو لفظ توراتى عبرى يشير إلى مكان ملاك الخالق)، ثم هناك حواء التى تذكر أن شقا قسم كيانه وأخرجت منه المخلوقة الحميمة التى كانت تقبع فى داخله. أنساه وجودها إحساسه بالسقوط الطويل الذى دفعه إلى نوم يشبه الإغماء، شغله تفحصها عن لعبة النسيان والتذكر وأخذ يتأمل ما بينه وبينها من تشابه واختلاف «مد يده وقربت يدها مفتوحة، تلامست راحتاهما، وزاناً بين يديهما، ذراعيهما والساقين، أخذها للتجول فى الحديقة، أحس بأنه ذو نفع، وأنه مسؤول، أراها النمر وأم أربعة وأربعين، والزرافة والسلحفاة، ضحكا كثيراً، تقافزا مرحاً، تأملا تنقل الغيوم وتبدل أشكالها، واستمعا إلى ترنيمة الأشجار الرتيبة، جربا كلمات لوصف ما لا يسمى، كان يعرف أنه آدم ويعرف أنها حواء، وكانت تريد معرفة كل شىء.

- ما الذى نفعله هنا؟ سألت.
- لا أدرى.
- من الذى يستطيع أن يشرح لنا من أين أتينا؟
- الآخر.
- وأين هو الآخر؟
- لا أعرف أين هو. ما أعرفه فقط أنه يتابعنا.


إنه يفتقد التأمل الهادى الذى كان يسلو نفسه به قبل ظهورها، وبالرغم من أنها تضطره إلى الركض من هنا إلى هناك مثل ظبى وليد، إلا أن سماعها تضحك أو تتكلم يشعره بسعادة أكبر بكثير من الصمت والوحدة، عند الشجرة وقفت:
هذه ليست أى شجرة، إنها شجرة الحياة.
- إنها بديعة حقاً.
- متسلطة، وأقول إنه عليك ألا تقتربى كثيراً.
واقتربت وأكلت من الثمرة، وتحتها كانت الحية تنتظر التى قالت لها:
- لم يمكننا مقاومة الرغبة فى تأملكما.
- لست وحدك إذن، من معك؟
- الوكيم، الذى خلقكما.
- الرجل يقول إننى خرجت منه.
- أنت كنت مخبأة داخل الرجل، الوكيم خبأك فى أحد أضلاعه: ليس فى رأسه كيلا تكتشفى الغطرسة، ولا فى قلبه كيلا تراودك الرغبة فى التملك، وكان الرجل يسمع حديثهما.

من فضول حواء يعرف آدم أشياء جديدة كثيرة، وتبقى الكاتبة بتتابع سريع للمشاهد ذهن القارئ يقظاً مندهشاً ومفاجأ رغم أنه يعرف القصة كلها.. إنه يعرف مع آدم حقيقة أنه لكى يأكل عليه أن يقتل أرانب أو طيوراً أو أسماكاً. إننا نأكل بعضنا البعض، وبمتابعة لقاء المرأة مع الحية يدرك أنها عدو وصديق فى نفس الوقت، وأن الشر جزء من المعرفة، كانت النار تفقده العزيمة حتى قبل أن يعرف الخوف. إنها أقوى العناصر وأعظمها، وعندما اشتعلت فى منطقة خاف أن تكون حواء فى داخلها، ظل هو وكلبه يلفان ويدوران حولها، لا يعرف ماذا يفعل، وكأنه أصيب بالجنون، كان يلومها على أنها أكلت من الثمرة، ولكن بعد خوفه عليها عندما اشتعلت فى الغابة نار وخاف عليها أدرك كم تؤنسه وكم تبدو الحياة كئيبة بدونها.

تسأل حواء: أين نذهب عندما ننام، ومن هؤلاء الذين نراهم هناك؟ تغيرت الحديقة التى كانا فيها، حيث كانت الشجرة. هى أكلت الثمرة وعرفوا الخير والشر، وهو قتل الأرانب فعرفوا المقاومة والاستسلام والموت.

تتصاعد براعة الكاتبة فى وصفها الجميل الفاتن، للتعرف الجنسى بين آدم وحواء، حيث تتحول الكلمات إلى بقع من الضوء الشفاف الذى يدغدغ العقل والعواطف معاً.

أما مأساة القتل والتى تأتى قرب نهاية الرواية، حيث يقتل قايين أخاه من أجل الغيرة على الاقتراب من الأخت الجميلة لولوا فإنها تنقل العمل إلى مستوى فاجع آخر كأننا نشاهد مسرحاً يونانياً قديماً.

أعتقد أننى عثرت على عمل فريد أستمتع به وكأننى أتعلم القراءة للمرة الأولى.
أدب أمريكا اللاتينية عندما يصل لنا فى ترجمة ناصعة مثل هذه يعطينا درساً فيما يمكن أن يفعله الأدب الجيد فى الروح، ويشعرنا كم نحن فقراء، رغم ما فى تاريخنا وواقعنا من أساطير.


اللامتناهى فى راحة اليد، جيوكوندا بيللى «رواية» ترجمة: صالح علمانى - دار المدى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في جريدة المصري اليوم بتاريخ 25 أبريل 2015

الأربعاء، 22 أبريل 2015

الحنين طريقتنا للبقاء





«البيت الأولاني» مجموعة قصصية جديدة للكاتبة أمل رضوان تسجل فيها من خلال 22 حكاية حياة أسرة مصرية تخلع ثياب قرن لترتدى ثيابا عصرية لعالم جديد.

لرواية واحدة، طفلة فحبيبة ثم فتاة وسيدة التحول.
ولون الغروب والحنين الممزوج بالأسي.
حفلات الزار، والعزال وصور الموتى التى ترفع من على الجدران لتحل محلها صور جديدة.

 الخادمة المستجلية من الريف
«وهو طقس انتهى نكتب قصة «قص ولزق» نعى نبيل يعلن وفاته وانقراضه».

ترصد القصص تغيرا اجتماعيا وصراعا طبقيا داخل الأسرةبين الأب والأم وصراع آخر بين الريف (الفيوم) والمدينة (القلعة).

تسجل المجموعة فى قصة (الليلة عيد) فى فنية عالية جريمة «ختان» الفتاة ومايحيط بالطقس المتوحش من تحايل أسرى واجتماعي، ومايتركه فى روح الفتاة من جروح:

«شعرت بدوار فظيع غير مصدقة مايحدث لها. لا. لابد أن هناك خطأ ما . لابد أن هذا يحدث لإنسانة أخري. دخل هذا الكابوس إلى بيتهم عن طريق الخطأ».

دبرت هذا الطقس الجريمة زوجة البواب وخدعت الفتاة بالملابس الجديدة بقولها إن اليوم عيد. وآخر سطور القصة تقول:

«هي.. كرهت اللون الأصفر، واللون الأحمر، وسيرة الأعياد. وزوجة البواب.. «هي» كرهت أمها.


عندما عادت راوية الحكايات إلى «البيت الأولاني» لكى تجمع أشياءها اكتشفت أن الباب لم يعد ثقيلا كما كان، وعندما أرادت أن تغتسل من التراب وجدته أصفر مما كان واكتشفت شعرات بيضاء فى الرأس والجسد.
كانت الحقيبة لونها أحمر، ولم يعد كذلك فى الحقيبة كتب شعر وديوان صلاح عبدالصبور، وبيت شعرى تحته خط بالقلم الرصاص يقول:
الناس فى بلادى جارحون كالصقور
«.. لم أدخل بيتنا القديم منذ أعوام طويلة سكنته وغادرت، وسكننى ولم يغادر».


بجمع الحكايات التى صدرت عن دار العين 4102» نفس شعرى صادق يرصد الحياة بما يجرى فى عروقها الداخلية من حسية ودماء حارة وشهوات معلنة ومخفية، يرافق نضج البنات وشهوات الكبار وملل الزوجات.


داخل البيوت كخارجها، صور بنفس العين الحساسة اللاقطة: «درب الميضة» المتفرع من شارع شيخون: حارة عجوز ولكنها بصحة جيدة. أرض الحارة مرصوفة بأحجار الزلط الكبيرة اللامعة مهما اتسخت وتغير لونها لاتحتاج الا لرشات سخية من خرطوم المياه المثقوب، فيعيد لها رونقها وتألقها».


أمتازت الحكايات بالسرد البسيط المباشر الذى تجنب الدخول إلى مغامرات التجريب الحديث واستطاعت أمل أن تنفذ إلى روح شخصياتها مذاق المناظر والأماكن التى ترصدها عن طريق يشبه الكلام الحميم بين أصدقاء ولم تتوقف عند ضرورات الشكل والبناء إلا فى حالات نادرة، خاصة عندما تتكلم عن رحلة الحياة والموت فى قصة «النمل الفارسي» و«السقاطه» «وأمنا الغولة». تركيب مشاعر الصبية التى تذهب إلى مدفن والدها، وعناء تسريح شعرها وتضفيره فى ضفيرة واحدة، مع مراقبته ـ وهى معزولة وحيدة وسط طقوس وزحام، لطابور نمل فارسى أسود: يصنع عالما لقصة قصيرة ناضجة البناء. خلاف الحكايات التى تقدم صورة حيه «ملضومه» فى عقد من حبات الخرز الملون.


كذلك قصة «الساقطة» المربوطة فى حبل يفتح به الجد المشرف على الموت باب الدوار القديم الذى يطل على بحر يوسف فى القصة زمن قديم يتحرك فيه الأبطال ـ الأم والابنة ـ القادمتان من القاهرة، والجد الموشك على الرحيل حاملا معه عزا وذوقا ومحبة وحنان فى طريقهم إلى الزوال.


فى «أمنا الغولة» نرصد دون افتعال تحول أشباح ومخاوف الطفولة إلى حماية ويقين واقعي، يدافع عن من خاف منه وضخم حجمه وهو طفل.


فى قصة «قص ولزق» تسجيل راق لألم الصراع الطبقي، ودمعة لاتسقط على فقراء هذا المجتمع الذى يدعى الحنان والاحسان، ولكن عند الضرورة يتحول إلى قسوة باطشة.


قدمت أمل رضوان أغنية عذبة تودع عالما وتستقبل عالما آخر مجهولا.
 كيف سيكون الضوء فيه. وهى تردد فى تصدير مجموعتها كلمات محمود درويش: ربما كان هذا الحنين طريقنا إلى البقاء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر فى الأهرام بتاريخ 22 ابرايل 2015

الأربعاء، 15 أبريل 2015

دموع هدهد المنصورة

                       




عنوان هذه الرواية القصيرة النموذجية «لا تنسي الهدهد» للفنان المناضل «فؤاد حجازي» المولود في المنصورة 1938
 والذي يقيم فيها طوال عمره يوحي بأنك تدخل إلي عمل فني له أبعاد إنسانية وفكرية كبيرة، رغم بساطة التعبير، تلك البساطة التي يقال عنها «السهل الممتنع».


 الهدد يحمل رسالة من الحكيم. والحكيم ليس سليمان النبي، ولكنه فؤاد حجازي، الذي ارتبط طوال هذا العمر بمعني واحد للفن وللكتابة:
معني مسئولية الكلمة ودورها في خدمة الشعب وفي التعبير الذي يوقظ الوعي ويكشف مكامن الخطر وإمكانات الوعي في الحالة الاجتماعية.
الواقعية الاشتراكية التي ارتبطت بالفكر اليساري مازالت تجد عند فؤاد حجازي إنجازا فنيا فاتنا لا شعارات فيه ولا صوت عالي مزيف، ولكن اقتراب إنساني كاشف من الواقع يحمل رسالة دافعة إلي الحركة وإلي التغيير.
مصرية صميمة مجنونة في طين الأرض وعرق وعناء الإنسان بحثا عن حياة أفضل.


 أمضي فؤاد حجازي عمره كله ـ أطال الله في عمره ـ نموذجا للإخلاص للكتابة الإبداعية في خدمة التقدم والتغيير.
دخل السجون في كل العصور عندما تحدي الأخطاء وكشف زيف الادعاءات، كما حارب إسرائيل وأسر في «عتليته» ليكتب الأسري «يقيمون المتاريس» التي بقيت حتي الآن واحدة من أنصع صور المقاومة «مع شعر الفلسطينيون العظماء» عدم وضع ذلك الكاتب الكبير في المكان المشرف الذي يستحقه لا يكشف عن خلل في حياتنا الأدبية فقط ولكنه يكشف عن ضرورة مراجعتنا لقيمنا الفكرية والسياسية بعد ثورتي يناير ويوليو وتحدثنا المستمر عن ضرورة تغيير صورة الواقع.


لا أريد أن يأخذني الحديث عن «المعلم الأستاذ» بعيدا عن روايته الجديدة التي انتهي منها في سبتمبر 2010، بعد أن كان قد قدم 30 عملا فنيا ونقديا للأطفال والكبار ورعي حركة نشر وتنوير في عاصمة الدلتا الجميلة «سابقا». لا تنسي الهدد رواية قصيرة عن عائلة من الطبقة المتوسطة الصغيرة التي حلت بابنها «المدلل» الذي كان أملا وفرحة، كارثة «الإدمان» ومن خلال رصد معاناة الأب «المفجوع» والأم المحبطة، تكشف الرواية كل التحلل والفساد الذي أصاب المجتمع خلال سنوات الجذر التي شكلت عمر هذا الشاب الذي درس في الجامعة ولم يجد وظيفة، ودخل مع أسرته والمكان الذي يعيش فيه في دهاليز الإدمان الذي يوقع في الاستدانة ومطاردة الدائنين والهروب منهم والتعرض لمحاولات العلاج النفسي الاستغلالي الاستثماري الفاسد، بينما الأم كفت علي الصلاة والدعاء لابنها والاستعانة بمشايخ يجيدون الخداع والنصب علي الضعفاء.


الأب وحده ظل صامدا يحاول الحفاظ علي توازنه بمواصلة العمل في أبحاث تعود بربح قليل بعد أن دفع عن نفسه تهمة باطلة بسرقة مخطوط قديم «لوصف مصر»


استعمل الكاتب الفنان الاطار الضيق المحكم لكي يشغله بتفاصيل واقعية تحمل كل شحنات تعبير الرمز، أورد ذلك هذا المقتضي الطويل نموذجا لعمل فؤاد حجازي في واقع روايته: قالت: ـ متضايقة
ـ افتحي التليفزيون ـ قرفانة ـ تكلمي مع صديقتك ـ ليس عندي قابلية لرؤية أحد ـ ماذا أفعل لك ـ لا شيء.. أحس بزمته ـ يا ساتر يارب.. أخزي الشيطان كنت في الأيام الأخيرة اشجعها لتأكل وتشجعني لآكل فلا نتناول سوي لقيمات وخطر لي سنوات لم نرتح فيها يوما، نلبي طلباته، ونواري سوءاته ونداري اعتلال نفسه، ولا هم لنا إلا مراقبته والتنقيب وراءه. هل نحن في حاجة لاجازة نحزن فيها علي اخفاقنا في تحقيق رغبة ما، ونتصعب علي وهن أخذ يتفشي في جسدنا بسبب المرض وكبر السن. بين الدموع التي بلا يمكن التحكم فيها، والغناء القديم الذي يثير الشجن ويوقظ أحلاما ميتة، يقضي الوالد وقته يتنقل في قنوات التليفزيون التي تعرض نساء مثيرات أو رقص شرقي أو مباريات لكرة القدم تصرف ذهنه عن التحديق في الحالة المرعبة التي وصلت إليها عائلته وحياته وحالة «الولد» التي تتأرجح بين الانتحار والهرب والسجن: .. يلقي بي كلامه في جب قائم عليه جلاد ولا يرحم، أمد يدي لاتشعلق بالحافة، الجدران زلقه، تعجز أطرافي عن التثبت بها فأهوي إلي قاع لا قرار له.


الشوارع قذرة غارقة في المياه السوداء، ودورات المياه في المحطات بالايجار رغم قذارتها والرجل يطارد ابنه والأطباء الذين يسمحون بـ«كلمتين وبس» ويحولون المرضي إلي المصحات باهظة التكاليف أو يكتبون «أدوية مؤقتة»


«الهدهد» هو اسم لحبوب نصحت بها جارة طيبة تحب الولد وتشفق علي العائلة حبوب مهدئة، تصرف مرات من الصيدلية ويبيعها تجار الكيف بأضعاف الثمن.


هذا هو الحال ولا مخرج، الليل يعقب النهار والعمر قصير والولد سادر فيما هو فيه.
علي غير توقع حط عصفور علي حافة شرفة حجرة نومنا وتبعه آخرون وخطرت بأرجلها في رشاقة وتزق، بعد أن وضعنا لها حبات الأرز في البكور تألقت عين زوجتي بفرحة طفولية.. ثم طارت العصافير إلي شرفة غرفة الولد.


ثم تنتهي الرواية القصيرة الحزينة، بحبات من المطر تتساقط رغم الشمس البازغة والرجل الكبير يغني كما كان يغني مع الأطفال: عيب عليك يا شتاء الشمس طالعة.
 أغنية قديمة جميلة يزرف فيها رجل كريم دموع غالية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر فى الأهرام بتاريخ 15 إبرايل 2015