السبت، 28 فبراير 2015

حمار «محمود سعيد» بريشة «عادل عصمت»!





طنطا: ثالث مدن مصر المحروسة بعد العاصمتين، قلب الدلتا، تحاك حولها الروايات والأساطير، هناك السيد البدوى وأقدم وأعرق العائلات القبطية التى صنعت اقتصاد الدلتا، وتجارتها، فى طنطا تمثلت خصوصية وصعوبة العلاقة المصرية بين الأديان، ومن توسطها فى القلب خرج النسيج الفريد للشعب المصرى، لا أريد أن أقع فى مدح الخصوصية، ولا الإشادة بوحدة النسيج: فبداية اليقظة الاعتراف، والمعرفة والتعرف الأمين على الواقع أول طريق المستقبل.

عادل عصمت: كاتب وروائى من قلب طنطا، عنها يكتب وفيها يعيش «مواليد 1959 - جائزة الدولة التشجيعية - 6 روايات متفردة - كتاب جميل بعنوان: ناس وأماكن - مقالات سياسية سبقت ثورة يناير، وعاصرت وواكبت حكم الإخوان القصير عن التنوير والفهم الحقيقى للدين»، عرفت وأحببت رواية «النوافذ الزرقاء» التى قدمت واحدة من أصدق وأهم الصور، عن مقدمات ألم 67، ما سبقها وما أعقبها، الكتاب الثانى الذى أعرفه له هو: ناس وأماكن، وفيه تجربة خاصة فى الكتابة عن العلاقة العضوية المتبادلة بين تاريخ المكان وتطور شخصيات لأناس وأحوالهم كعناصر، لفهم الحالة الاجتماعية: محاولة إنسانية فلسفية لفهم حالنا بحق بعيداً عن الشعارات وصياغات الإعلام التى يتشدق بها الكتبة والكتاب.

أطلت فى تقديم الرجل لأنه - كما يبدو - يصر على البقاء فى طنطا بعيداً عن دوائر الضوء الزائف، أعتقد أنه رفض: حل الملايين فى الثمانينيات وما بعدها، لإنقاذ وضعه المالى بالسفر إلى الخليج، بل قرأت أنه عمل سائقاً لتاكسى كى يوازن دخله ويمكنه إعطاء الكتابة حقها من الجهد والأمانة والإخلاص.

مفاجأة الأستاذ عادل عصمت الثالثة لى كانت روايته الجديدة حكايات «يوسف تادرس» الصادرة عن «كتب خان» وسط سوق «الأكثر مبيعاً» و«أدب التسالى» وأدب «الاعتراض الأجوف»: يقدم عادل عصمت رواية: أزعم أنها فتح فكرى وأدبى جديد، إلى جانب أنها متعة روحية وفنية خالصة.


حكاية أخيك يوسف تادرس بشرى، الرسام القادم من قلب حوارى وأزقة طنطا، حكاية عميقة ومسلية ومليئة بالكشف والعناء والصدق، يحكى أخوك يوسف، حياته: إيمانه، وغرامه، تاريخه وفنه، العائلة النازحة من الصعيد «الخواجة تادرس بشرى» تاجر الغلال الذى «لا يعمل الغلط» كبرياء المسيحى الأمين المستقيم، الذى نزح من «المنيا» بعد أن مر بتجربة مرة بغرق ابنه الوحيد فى النيل ثم وفاة زوجته، صحب ابنته المتبقية «فتنة أو فاتن» وهاجر إلى الإسكندرية، تحت رعاية ابنته التى صارت راعيته، صنع ثروة من العمل خلال فترة الحرب والتجارة مع معسكرات الاحتلال، ثم استقر فى طنطا فى قلب الدلتا فى رحاب السيد البدوى، ومارى جرجس اشتغل بتجارة الغلال فى وكالة يديرها بالصدق والأمانة، هو لا يقرأ ولا يكتب، ولكنه: ليس «بصمجى» يستعمل أصبعه أو الختم للتوقيع ولكنه يعرف كيف يكتب اسمه وله توقيع فيه تلتف نهاية الياء حول الاسم وينظر هو إليه فى فخر واعتزاز، يفرد الجريدة أمامه على زجاج مكتب الوكالة ويحاول جاهداً فك طلاسم الكلمات، العلم والقراءة هما النور الحقيقى.

فى الخامسة والأربعين أقنعته ابنته فاتن بالزواج مرة أخرى لكى يستقر وتستقيم الحياة، إلى جانب الوكالة كان قد اشترى بيتاً يشبه الحوش ويشغل زقاقاً كاملاً فى منطقة قريبة من «شارع النحاس» أهم شوارع طنطا، استعمل دكاكين الزقاق لتخزين الغلال، ثم بدأ يؤجر الغرف لأسر صغيرة، أصبحت كل غرفة بيتاً مستقلاً لكنه احتفظ بسمت البيت الواحد، أهل الزقاق أسرة واحدة مركزها بيت الخواجة تادرس، أقنعت البنت أباها التاجر المنتعش بالزواج وكان أهم مزايا العروس أنها تعرف القراءة والكتابة.

الست «أم يوسف» حكاية وحدها، احتلت مكانها فى الزقاق، والمجتمع وفى جمعية «الكتاب المقدس»، وأنجبت بعد عناء للخواجة - يوسف ونادية - وعاشت وماتت شخصية فاضلة محترمة، تجمع تبرعات للجمعية التى ترعى الأيتام وتعلمهم فى ورش النسيج والخياطة.

لا تعرف كيف أدخلك عادل عصمت إلى قلب عالم الخواجة تادرس والست أم يوسف، من خلال حكايات ابنهم أخيك يوسف تادرس.

لم أر أحداً من الكتاب الجدد استفاد وطور روح السرد الروائى عند نجيب محفوظ كما فعل كاتبنا فى هذه الرواية، دون تقليد أو أصالة ولكنه استطاع استحضار روح العلاقة الحميمة التى يقيمها محفوظ مع قارئه، وهو يغلق عليه عالم الرواية الجديد، قد يشعر القارئ أنه واحد من العائلة أو ساكن من سكان الزقاق.


أخوك يوسف، نعم أخوك يوسف هو الذى يحكى فى مونولوج متصل يستمر إلى أكثر من 250 صفحة مقسماً إلى حكايات عن حياته هو بعد أن جعلك فرداً من العائلة، وجزءاً من الزقاق ثم يدخلك إلى معاناته الخاصة مع الرسم، مع الإبداع والفن والإيمان منذ تأثره برسوم جورج البهجورى فى مجلة صباح الخير، حيث نشر له الرسام الصغير لوحة صغيرة ربطته نهائياً بهذا الفن الذى صنع حياته وعذابه وتحكم فى كل علاقاته داخل المجتمع المسيحى ثم فى محيط المجتمع المسلم، الذى شكل دائماً أغلبية، مرات متفهمة ومحبة، وغالباً مكشرة عن أنياب التطرف، وصراخ الدعاة الحمقى، أو غباء المحجبات المستورد لنا بعد أزمتنا مع وطننا أعقاب هزيمة مشروع ناصر.

منذ تخلق خيوط النسيج فى الورش المظلمة الملحقة بجمعية الكتاب المقدس، وتحولها إلى حدائق تسبح فيها فروع الشجر والطيور والأسماك حتى تشجيع أبلة «مارى لبيب دميان»، مدرسة الرسم الأولى، التى وقفت خلفه مشجعة «ارسم، ما تشاء ارسم ولا تخف» حتى السحر الذى أخذه فى عالم محمود سعيد، خاصة لوحة «المدينة» حيث خلق محمود سعيد أجمل حمار فى التاريخ، رشيقاً ونظيفاً وكأنه قد استحم فوراً، لا علاقة له بالتراث الأسطورى للرسم الأوروبى، ولكنه خارج من طين هذه الأرض، يحمل روحها وإيمانها.

تغرق مع أخيك يوسف فى غرامياته: غرامه بالبنات وغرامه بالرسم شكل من أشكال بحث الروح عن الخلاص.. عن النور.. عن المحبة الصادقة غير المدعاة.

تزوج يوسف من جانيت، طبعاً زواج مسيحى أبدى لا انفصال له، ولكنه يقع فى غرام سناء المسلمة، وتدور محنة يعرفها المجتمع المصرى وتعكس اختلاف أحواله وفهمه لحرية الفرد ولسماحة الدين، تنتهى مغامرة أخيك يوسف مع سناء المسلمة بالفشل وتسافر الفتاة هرباً من الحب المحبط! وبقى يوسف مع جانيت وأنجبا ميشيل وفادى، ميشيل الذى يريد الهجرة إلى أمريكا ويفعل ذلك فعلاً، وفادى الذى يعمل فى الصاغة ويعارك ذباب وجهه كما يقولون.

حكيت كل هذا الكلام كى أدعوك إلى التعرف إلى الفنان الافتراضى أخيك يوسف تادرس.. وإلى الإعجاب بأديبنا الكبير الجديد «الكبير هنا بحق» وليس لفظاً إعلامياً، عادل عصمت.
حكايات يوسف تادرس، رواية، عادل عصمت، كتب خان - 2015
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في جريدة المصري اليوم بتاريخ 28 فبراير 2015

السبت، 21 فبراير 2015

من ذكر وأنثى

               
 


هذه رواية «مغربية» غاضبة ومشحونة بالجمال الفكرى والفنى، غضب كاتب مثقف على حال عالمنا العربى، شرقه وغربه. «من ذكر وأنثى» عمل فنى شجاع يخترق ركود السرد العربى ويقف فى مكان خاص بين الرواية والسيرة الذاتية، بين الشعر والتقرير السياسى.

 بنسالم حميش «سالم حميش فى المشرق»:كاتب وشاعر ووزير ثقافة سابق، وأستاذ فلسفة، تأخرت أنا كثيراً فى التعرف على أعماله الفكرية والفنية، ومواقفه الفكرية والسياسية، ولست وحدى مسؤولاً عن هذا التقصير، فإن العلاقة بين المشرق والمغرب العربى فى الفكر والثقافة والفن مرض من الأمراض المزمنة فى حياتنا، نحمل نحن العرب بعض المسؤولية عن هذا المرض، وكالعادة يتحمل الاستعمار القديم والجديد الجزء الأكبر.


سالم حميش مواليد مكناس 1947، شاعر وروائى يكتب بالعربية والفرنسية «يمتلك لغة عربية نادرة، عصرية مشحونة بالموسيقى والإيقاع التراثى الصوفى العذب، يقول:
 اللغة ليست مجرد وسيلة الكاتب لكنها موطن الكاتب وبيته.


درس الفلسفة فى الرباط والسربون فى باريس، وقائمة أعماله الفكرية والتاريخية والفلسفية تبدأ بكتاب: فى نقد الحاجة إلى ماركس 1983، ثم دراسات عن ابن خلدون، كتب عنه رواية: «العلامة 2012» وابن رشد، و«نقد ثقافة البداوة والحجر» 2004، العرب والإسلام فى مرايا الاستشراق، وقائمة الأعمال الفكرية طويلة.


فالرواية هذه «من ذكر وأنثى» روايته الحادية عشرة، الأولى كانت «مجنون الحكم» عن الحاكم بأمر الله هى أشهر أعماله، وتعد واحدة من أهم 100 رواية فى القرن العشرين، وسماسرة السراب 1995، حتى «معذبتى» 2011 وامرأة أعمال 2013، وله دواوين شعرية أهمها: ثورة الشتاء والصيف 1983، وديوان الانتفاض 2000.


أصدر سالم حميش مجلة باسم «البديل» لفترة قصيرة، ولكن السلطات أوقفتها، واشتغل بالسياسة فى الحزب الاشتراكى، تولى مسؤولية وزارة الثقافة فى المغرب، بوزارة عباس الفاسى من يوليو 2009 إلى يناير 2012.


أعتذر عن هذا التقديم الطويل، ولكن دفعنى إليه عنوان مقال للأستاذ اللاوندى فى الأهرام الغراء، يسأل بتعجب:
 كم عدد المصريين الذين يعرفون بنسالم حميش؟!
مرة أخرى نحن أمام هذا المرض العربى الخطير الذى يجب أن نجد له حلاً فكرياً قبل الإجراءات الإدارية أو السياسية يكاد القارئ العادى لا يعرف من كتاب المغرب سوى صاحب
«الخبز الحافى» الراحل محمد شكرى «1935-2002» وذلك لما أثارته الرواية من ضجة ومصادرة ومشاكل.


«من ذكر وأنثى» رواية خصبة، صدرت فى وقتها، تنطلق من: سورة الليل «والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى إن سعيكم لشتى».

وستة عشر فصلاً تتفاوت فى الطول والقصر، كتبت فى نفس شعرى متصاعد يشكل لوحة عريضة للحياة فى الدار البيضاء، وللغرب وبيروت، ترتاد الشواطئ والشوارع المزدحمة والمقاهى والحانات، ومقالب الزبالة والمدافن، فى صحبة الكاتب عبدالله الذى يشغل وظيفة فى وكالة الإعلام المغربية، ويكتب القصائد، ويحضر الندوات والمؤتمرات الأدبية والنسائية، ويكتب الشعر والقصة، وسيناريوهات الأفلام، تعدى سن الشباب وأصبح له اسم معروف، ولكنه ليس كاتباً تحت الطلب.

 إنه يعيش فكره ويكتب حياته، أو هى التى تكتبه.
فقد عبدالله زوجته الحبيبة وابنته فى حادث سير، وتكاد الرواية كلها تكون هروباً من هذا الحزن الحارق الذى شكله هذا الحادث العبثى القاسى، حاول أن يتزوج مرة أخرى، لكنه أساء الاختيار، فطلق، وصار حراً حزيناً، يحتاج إلى المرأة، ويفكر فيها، ماذا تعنى وأى مكان تحتله فى حياة الرجل وفى المجتمع، الحياة فارغة من المعنى بدونها، لم يبق سوى الكتابة، والبحث فى عالم النساء عن معنى، عن سيدة تسد هذا الفراغ الذى صار يشعر به، ليس فقط فى بيته أو سريره، ولكن فى عقله وفى روحه.

من ندوة نسائية «عن التحرش الجنسى إلى أين» إلى مخادع البغايا، إلى علاقات غرام مغشوش، إلى حب مجنون من طرف واحد ينتهى بانتحار يدخله فى حداد فوق حداد، ويدفعه إلى محللة نفسية وجلسات تنويم، ولكنه يبقى كما يقول المثل اليابانى «كأنه يريد طرف الضباب بمروحة».

 ما هى المرأة:
 هل هن ناقصات، أم هن كما يقول ماوتسى تونج
«النساء يرفعن نصف أعمدة السماء» أم هن كما يقول أراجون فى عيون «إلزا»: المرأة مستقبل الرجل.

يهرب من الأسئلة فى الرحلات والاعتزال فى البيت، والبحث فى الأوراق القديمة، «أنا الأرمل المطلق الطليق» الكاتب الذى هجرته الكتابة مع من مات وتركته للأقدار تعبث به، وللأوراق القديمة تقلقه، وللأحلام، آخر حلم لا يذكره كله، ولكن يذكر زوجته وهى تقول له فى آخر الحلم:
 اسكن إلى زوجة حية مريحة، أحبلها طفلاً يعوضك عن سلوى ابنتنا، فلعل الحياة هكذا تصير حلوة نضرة.


«كلثوم» هى الحل الأخير: زوجة بشروط، تمضى معه نصف العام والنصف الآخر عند أقاربها بجوار «بيت الله الحرام» زوجة لن تنجب تعرف أنهما فى نهاية العمر، وتقبل أن تسير معه إلى خط النهاية.
المرأة والبناء الروائى الذى أستعرضه لك هو «النول» الذى ينسج عليه الكاتب سالم حميش رؤيته لواقع الكتابة والثقافة والمجتمع والحالة السياسية التى يعيشها العالم العربى الآن.

إنه يبحث عن أوراق مسودة عمل قديم مزق أوراقه فى مقالب الزبالة وهناك يقدم فصلاً روائياً بالغ القسوة والوضوح عن حياة أولاد الشوارع الذين يشمون الكلة، ويعيشون فى أكوام الزبالة إلى جوار أحياء الصفيح مطاردين من البوليس والقوادين والبلطجية.
الندوات الأدبية تقوده إلى استعراض ظاهرة «أدونيس» خالق حالات الادعاء والفراغ الحداثى الذى يعيش فيه قطاع كبير من المثقفين العرب، يعيشون على ما يقدمه لهم من فراغ فى المبنى وعبث فى المعنى.

فى بيروت يصادف واعظاً طيباً فى كنيسة صغيرة يكشف فى كلمات حارة صادقة حالة الجنون الدينى الفارغ الذى نعيش فيه، والذى لا يخدم إلا بقاء الحال على ما هو عليه، واستمرار أصحاب المصالح فى مص دماء ومستقبل ملايين الضائعين الفقراء.

فى لقاء صحفى مع الكاتب المغربى يسأله الصحفى عن الربيع العربى فيقول: الربيع العربى ربيع رائع يافع، ثورة على ظواهر العبث العربى، ربيع حلحل أوضاعاً فاسدة وحرك مياهاً راكدة، يصدق عليه قول الشاعر المفكر محمد إقبال، قيثارتى ملئت بأنات الجوى/ لابد للمكبوت من فيضان/ ومهما تعثر أو انتكس فهو قد أشعل ناراً لن تنطفئ إلا بتحقق العدل والكرامة والحرية، كنت اقترحت تحويل شعار «ارحل» الذى رفعته الشعوب إلى «ازهق» الواردة فى الآية الكريمة
«وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً».


نحن أمام رواية غنية شيقة مليئة بالسياسة والحب والإنسانية والتصوف


من ذكر وأنثى، بنسالم حميش
رواية دار الشروق، القاهرة 2015
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 21 فبراير 2015

السبت، 14 فبراير 2015

طعم الحياة فى جزيرة الأحياء

         

               

فتح الله أبواب الشعر واسعة أمام الشاعر أمين حداد، كما فتحها من قبل على والد الشعراء فؤاد حداد، فكتب مصر: أرضها وسماها حزنها ونيلها وشعبها: ثورته وحزنه وانكساره.

المهندس أمين حداد أصدر مؤخراً ديواناً بعنوان:
«جزيرة الأحياء: شعر وكلام وسحر وأحلام من حى الإمام الشافعى».

 أمين الذى سجَّل ثورة يناير يوماً بيوم، كتب شعراً للجموع وللشهداء، هو مواليد 1958 جاب فى ديوانه هذا الجديد:
أرض الوطن.. القاهرة، الإمام، الحلمية، البلد كله، قبلى وبحرى، القطارات، الجدات، الأيام، وقبل الكل: أباه، ابنه، حبه، شعره.. والكلمات، القرى والنخلات، الكلاب وضجيج الميكروفونات والصمت:
«المفاجأة البديهية
أننى لست كاتب هذه الكلمات
أنا الكلمات نفسها
وأنت القارئ الذى يعطيها عمرها
اقرأنى لتحيينى».

الكل يعرف أن فؤاد حداد أمضى خمس سنوات معتقلاً:
كان أمين ابن سبعة شهور، وخرج فؤاد، وأمين خمس سنوات وسبعة شهور
«ستار من النور وأبى بعيد.. بعيد
يبكى وحيداً
أبى
أبى
أنادى شعراً فيأتينى هو.. فتخرج أنفاسه من فمى
ويتمرد الشعر على طبيعته الشفافة ويصبح ناساً يعيشون خلف ستار من نور».

كما يقول أمين حداد كفانا الله شر القصائد المفتعلة:
هنا فى هذه الجزيرة أنت أمام عالم من الصدق والدهشة والاكتشاف. إن قلت سيرة ذاتية، فهى فلسفة وتأمل، وإن قلت شعراً فهى اجتماع واكتشاف وثورة!
لماذا حى الإمام؟
 هو جزيرة الأحياء وسط بحر من الموتى/ ولا يدخل إلى حى الإمام الشافعى إلا من أراد دخوله، فهو ليس طريقاً لأى من أحياء القاهرة..
... «نعيش فى جزيرة من الزمن فى بحر من العدم».


يا نوم يا رب الأحلام والكوابيس.
 أعد لنا «الأيام» لأن الأيام «بتهل وتمشى.. والأحلام بتقل حبة حبة ودموعى من الرقبة واصلة لرمشى.
 أما البيوت: فكل البيوت وحشانى.

بيوت كتير الزمن خلاها تشبه بعض، أفضل ألف عليها.. وأدق على البيبان وأنادى ما حدش يرد علىّ، حابقى آجى فى وقت تانى.. يكونوا رجعوا بالسلامة إن شاء الله».

يحاول بسطاء الناس أن يلمسوا السماء، فتراهم يطلقون/ الطائرات الورقية، ويربون الحمام الذى يدور فى السماء ويعود.
«وبعض الحمام يذهب ولا يعود
وبعض الناس كذلك.

يخرج أبى مرة حراً.. ومرة يتوفى».
ربط أبى بين الإمام والحمام تقريباً فى كل مرة كتب فيها عن الإمام.
وقال حفيده، أحمد:
«ريحة الحليب مفروشة فوق الإمام
ومفشطة فى غمرة سرب الحمام».

وقال حفيده أحمد أيضاً:
«كان عندى حمام بيعرف يرجع مهما يطير
علمنى إزاى أرفرف وأتأخر فى المشاوير
وخرج أبى مرة ولم يعد
وبعض الحمام يذهب ولا يعود».


لهذا الكتاب المفتوح الذى تغمره الشمس ويشبع من الضوء والنسيم إهداء جميل يقول:
«إلى طعم الحياة حسن حداد، ورحلته معنا منذ أن كان ابننا إلى أن أصبح أبانا: فؤاد وزكية وسليم وأمين».

حسن الشقيق الأصغر، وطعم الحياة فى ديوانه - أقصد مجموعته القصصية التى أصدرها. يقول عنه أمين حداد:
«أخذت (حسن) فى يدى وهو ابن السنتين والنصف لنشترى البسكويت من أم عنتر، يوم الاثنين 5 يونيو فى صباح ساطع. وداهمتنا زمارة الخطر المتقطعة التى لم تمنعنا من إتمام مهمتنا، عدنا لنسمع البيانات العسكرية وإسقاط الطائرات الإسرائيلية/ ونسمع دوى انفجارات بعيدة».

***
أحلام اليقظة ويقظة الأحلام.
لغة الشاعر: سبيكة جديدة أشعر أنه يستخرجها من طرح النخل أو عمق النيل من فم الجدة، وصمت اليتيم.

قصيدة «موت مبهج» وقصيدة «لحظة من فضلك» أتمنى لو أننى أدخل إلى عالمهم، وأكتشف القصيدة من الداخل، وأمشى فى ضوء تكون إيقاع الكلام.

الديوان يأخذك إلى إيقاع الحب والحياة.
 من يعرف الفن والحب لا يعرف رتابة الحياة: هكذا يقول أمين حداد.

لى أنا جرح لا يندمل مع 67 وألم قائم فى الأحشاء، وقد كتب والد الشعراء «نور الخيال» ديواناً يعالج فيه بعض ما حدث: قال فى المقدمة التى أوردها أمين فى جزيرته:
«من القلب عندما شُق بالعرض والطول وغاصت
فيه الجراح لترسخ أو تنطلق. ومن العين عندما
قرأت الهزيمة فى التليفزيون وسرى فى السلسلة
ماء كالرصاص أو الجليد».

ثم مات عبدالناصر وخرج الناس.
ولم يعد.
كان عمره قد وصل للمصب فى بحر الجماهير التى ودعته بالدموع والسواد.

لك الله والناس يا بلد! جزيرة أمين حداد وصلتنى فى أيام يقال عنها عيد الحب، وجدته فى آخر الديوان البحر يقول لى: «الوقت هدية المحب للحبيب».

 أهدى كلاماً بلا صوت.
 لن يضيع ما ورثته سدى، ولن أخاف بعد الآن من الظلم الغبى ولن تضيع حياتى. ومن أحب الناس... عاش.
سلمت لنا ودمت.

جزيرة الأحياء- شعر أمين حداد
- دار الشروق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 14 فبراير 2015 

طعم الحياة فى جزيرة الأحياء

   



فتح الله أبواب الشعر واسعة أمام الشاعر أمين حداد، كما فتحها من قبل على والد الشعراء فؤاد حداد، فكتب مصر: أرضها وسماها حزنها ونيلها وشعبها: ثورته وحزنه وانكساره.

المهندس أمين حداد أصدر مؤخراً ديواناً بعنوان: «جزيرة الأحياء: شعر وكلام وسحر وأحلام من حى الإمام الشافعى». أمين الذى سجَّل ثورة يناير يوماً بيوم، كتب شعراً للجموع وللشهداء، هو مواليد 1958 جاب فى ديوانه هذا الجديد: أرض الوطن..

 القاهرة، الإمام، الحلمية، البلد كله، قبلى وبحرى، القطارات، الجدات، الأيام، وقبل الكل: أباه، ابنه، حبه، شعره.. والكلمات، القرى والنخلات، الكلاب وضجيج الميكروفونات والصمت:
«المفاجأة البديهية
أننى لست كاتب هذه الكلمات
أنا الكلمات نفسها
وأنت القارئ الذى يعطيها عمرها
اقرأنى لتحيينى».

الكل يعرف أن فؤاد حداد أمضى خمس سنوات معتقلاً:
كان أمين ابن سبعة شهور، وخرج فؤاد، وأمين خمس سنوات وسبعة شهور
«ستار من النور وأبى بعيد.. بعيد
يبكى وحيداً
أبى
أبى
أنادى شعراً فيأتينى هو.. فتخرج أنفاسه من فمى
ويتمرد الشعر على طبيعته الشفافة ويصبح ناساً يعيشون خلف ستار من نور».

كما يقول أمين حداد كفانا الله شر القصائد المفتعلة: هنا فى هذه الجزيرة أنت أمام عالم من الصدق والدهشة والاكتشاف. إن قلت سيرة ذاتية، فهى فلسفة وتأمل، وإن قلت شعراً فهى اجتماع واكتشاف وثورة!

لماذا حى الإمام؟ هو جزيرة الأحياء وسط بحر من الموتى/ ولا يدخل إلى حى الإمام الشافعى إلا من أراد دخوله، فهو ليس طريقاً لأى من أحياء القاهرة..
... «نعيش فى جزيرة من الزمن فى بحر من العدم».

يا نوم يا رب الأحلام والكوابيس. أعد لنا «الأيام» لأن الأيام «بتهل وتمشى.. والأحلام بتقل حبة حبة ودموعى من الرقبة واصلة لرمشى. أما البيوت: فكل البيوت وحشانى. بيوت كتير الزمن خلاها تشبه بعض، أفضل ألف عليها.. وأدق على البيبان وأنادى ما حدش يرد علىّ، حابقى آجى فى وقت تانى.. يكونوا رجعوا بالسلامة إن شاء الله».

يحاول بسطاء الناس أن يلمسوا السماء، فتراهم يطلقون/ الطائرات الورقية، ويربون الحمام الذى يدور فى السماء ويعود.
«وبعض الحمام يذهب ولا يعود
وبعض الناس كذلك.

يخرج أبى مرة حراً.. ومرة يتوفى».
ربط أبى بين الإمام والحمام تقريباً فى كل مرة كتب فيها عن الإمام.

وقال حفيده، أحمد:
«ريحة الحليب مفروشة فوق الإمام
ومفشطة فى غمرة سرب الحمام».
وقال حفيده أحمد أيضاً:
«كان عندى حمام بيعرف يرجع مهما يطير
علمنى إزاى أرفرف وأتأخر فى المشاوير
وخرج أبى مرة ولم يعد
وبعض الحمام يذهب ولا يعود».

لهذا الكتاب المفتوح الذى تغمره الشمس ويشبع من الضوء والنسيم إهداء جميل يقول: «إلى طعم الحياة حسن حداد، ورحلته معنا منذ أن كان ابننا إلى أن أصبح أبانا: فؤاد وزكية وسليم وأمين». حسن الشقيق الأصغر، وطعم الحياة فى ديوانه - أقصد مجموعته القصصية التى أصدرها. يقول عنه أمين حداد:
«أخذت (حسن) فى يدى وهو ابن السنتين والنصف لنشترى البسكويت من أم عنتر، يوم الاثنين 5 يونيو فى صباح ساطع. وداهمتنا زمارة الخطر المتقطعة التى لم تمنعنا من إتمام مهمتنا، عدنا لنسمع البيانات العسكرية وإسقاط الطائرات الإسرائيلية/ ونسمع دوى انفجارات بعيدة».

***
أحلام اليقظة ويقظة الأحلام. لغة الشاعر: سبيكة جديدة أشعر أنه يستخرجها من طرح النخل أو عمق النيل من فم الجدة، وصمت اليتيم.

قصيدة «موت مبهج» وقصيدة «لحظة من فضلك» أتمنى لو أننى أدخل إلى عالمهم، وأكتشف القصيدة من الداخل، وأمشى فى ضوء تكون إيقاع الكلام.

الديوان يأخذك إلى إيقاع الحب والحياة. من يعرف الفن والحب لا يعرف رتابة الحياة: هكذا يقول أمين حداد.

لى أنا جرح لا يندمل مع 67 وألم قائم فى الأحشاء، وقد كتب والد الشعراء «نور الخيال» ديواناً يعالج فيه بعض ما حدث: قال فى المقدمة التى أوردها أمين فى جزيرته:
«من القلب عندما شُق بالعرض والطول وغاصت
فيه الجراح لترسخ أو تنطلق. ومن العين عندما
قرأت الهزيمة فى التليفزيون وسرى فى السلسلة
ماء كالرصاص أو الجليد».
ثم مات عبدالناصر وخرج الناس.
ولم يعد.

كان عمره قد وصل للمصب فى بحر الجماهير التى ودعته بالدموع والسواد.

لك الله والناس يا بلد! جزيرة أمين حداد وصلتنى فى أيام يقال عنها عيد الحب، وجدته فى آخر الديوان البحر يقول لى: «الوقت هدية المحب للحبيب». أهدى كلاماً بلا صوت. لن يضيع ما ورثته سدى، ولن أخاف بعد الآن من الظلم الغبى ولن تضيع حياتى. ومن أحب الناس... عاش.

سلمت لنا ودمت.
جزيرة الأحياء- شعر أمين حداد- دار الشروق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في جريدة المصري اليوم بتاريخ 14 فبراير 2015


السبت، 7 فبراير 2015

حديث إلى «جنينة وشباك»

   



«جنينة وشباك» هى القرية النوبية التى جاء منها إلى القاهرة الكاتب يحيى مختار (مواليد 1936) لكى يدخل فى نسيج المجتمع، ثم الأدب المصرى، كواحد من فرسان السرد القصصى والروائى.. ليحيى مختار ثلاث روايات: و«جد كاب» هى الرابعة: جبال الكحل، مرافئ الروح، تبدد، ثم له مجموعتان قصصيتان: كويلا، عروس النيل (جائزة الدولة التشجيعية).. 

من مجرد العناوين نلاحظ أن الكاتب يحكى عن النوبة فى لغة عربية شاعرة رققها التصوف والزهد، وأحكم صياغتها التربية فى مجالات الواقعية الاشتراكية، والفكر الماركسى وتنظيمات اليسار المصرى.

من هذه العناصر صنع الكاتب يحيى مختار سبيكته اللغوية والفكرية. كتب بها هذا العقد المتواصل من الخطاب الشاعرى الاجتماعى القلق لأرض النوبة، وللمجتمع المصرى الذى ظل يحكم بالعدل والمساواة، وظل يحاول كشف الفساد والتخلص منه، من خلال الإصرار على الارتباط بالعمل السياسى والأدب الملتزم بالقضية الاجتماعية.. استطاع يحيى أن يكون واحداً من أدباء الستينيات الذين لم تحرفهم إغراءات التجريب والحداثة الغربية، ولم يقع فى براثن الشللية أو البحث عن الشهرة أو العلاقات مع المؤسسات والأجهزة.

أعرف يحيى مختار منذ المدرسة الابتدائية فى المعادى، أواخر الأربعينيات- أوائل الخمسينيات، ومنذ ذلك الحين تجمعنا صداقة نادرة.. تبعد، وتقترب، ولكنها دائما موجودة. رحلة عمر وبحث مشترك عن طريق للأدب ولصلاح المجتمع.

اقتربنا معاً من الأديب الراهب محمد درويش الذى رحل دون أن يكمل كلمته، كما تعلمنا معا من شيخ النقاد شكرى عياد، تعلمنا منه أنه مهما اختلف الاتجاه أو المدرسة الفنية، فإن الكلمة فى مجتمعنا هذا المتعطش للنور والعلم والعدل مسؤولية، وأن الأدب مسؤولية ثقيلة لا يحسد من يتقدم لحملها، وأنه ليس طريقا للشهرة أو للثراء. ولكن شكرى عياد أيضا رحل قبل أن يشهد ميلاد الثورة التى أدخلتنا إلى دنيا جديدة، مشاكلها أكبر وأكثر حدة، ودور الكاتب والفنان فيها يحتاج إلى مراجعة وبصيرة جديدة.

يحيى مختار: قابض على الجمر. يحمل مسؤولية كلمته، ولا يبيع ويشترى فى الأسواق. فقد رفض هو فى الكتابة وفى الحياة مسألة الأدب النوبى، التى باع بها، واشترى البعض فى ضوء مخططات التدخل والتقسيم وإثارة النعرات الطائفية والعرقية والقبائلية. لا ينكر خصوصية بلاد وأهل النوبة، ولا ينكر عمق وضخامة المشاكل، ولكنه يتعامل معها كجزء من النسيج الاجتماعى المصرى الذى يحتاج بشدة إلى مراجعة وإعادة ترتيب.

«جد كاب»، روايته الأخيرة، تحرر فيها الكاتب من قيود الشكل وتصنيفات النوع، إنه يقف بين السيرة الذاتية والرواية، ويفكر فى عالم فوكنر، المخترع، الذى أقامه فى رواياته الثلاث لكى يناقش كل مشاكل أمريكا، وهى تحت الإنشاء. 

هكذا يفعل يحيى مختار وهو يسرد حياة الطفل الموهوب «جد كاب» الذى جاء إلى القاهرة، واستطاع أن يتعلم اللغة العربية واللغة العامية، واستطاع أن يكافح الفقر الشديد بالإصرار على العمل فى مهن مختلفة، مع الإصرار على مواصلة التعليم وإتقان لغة وأكثر، ومواجهة النظر المتعالى للقادمين من الجنوب، ورفض المهن التى كانت تعتبر المصير الحتمى لكل قادم من النوبة.

الشيخ حسن شفا عندما يتحدث عن أصل «جد كاب» يقول إنه من سلالة الحكام «فى مملكة كوش القديمة».. إنها السلالة الرفيعة التى تسللت، وبقيت حية لتنجو من تقلبات الزمن والأحداث، ولتظل دليلاً حياً على تلك الحقبة البعيدة والعريقة.. عندما يتحدث عن ذلك نستطيع أن نقف على سجايا والدك سليمان أحمد كاب.

عندما يتحدث بطل الرواية طوال الجزءين الأول والثانى إلى النوبة، وبالتحديد إلى «جنينة وشباك» أو إلى نجمع «أرناه» فإنه لا يتحدث إلى أطلال كما يفعل الشاعر العربى القديم، ولكنه يحاول إعادة الحياة إلى كل شىء، إن الوعد الحى بإعادة النوبة على شاطئ البحيرة، خاصة بعد رفع معبدى أبوسنبل، والظروف غير الإنسانية التى انتقل إليها مجموعة من أرق وأمهر الناس فى مبان خرسانية قبيحة فى كوم أمبو: كل هذا يبعث النوبة حية فى عمل يحيى مختار. جد كاب هناك مشاكل فى حاجة إلى أن تخرج إلى النور، وأن تعالج بصراحة ومسؤولية، لقد تحمل هؤلاء الناس تضحيات تبدأ من 1902- 1912- 1933 إلى أن جاء الهم الأكبر مصاحباً للموقف الوطنى الذى وقفوه مع بناء السد العالى، فكان التهجير الشامل فى 1964.

تسرد الرواية بشكل مباشر أحيانا وغير مباشر أحيانا أخرى عمق الإهمال والفساد الذى تعاملت به السلطات مع التضحية الضخمة التى قدمها الأهالى تحت وعود بتعويضات وبعودة أكيدة ومشاركة فى أكبر مشروع وطنى لثورة أطلقت أحلاما عظمى. كان الألم كبيراً، وكان الظلم فادحاً، والفساد عميماً. يقول «جد كاب»: من دار «آل شفا» صعد قاصداً المقابر فى خطوات متعثرة بفعل وجيب قلبه الذى يضرب صدره كأنه سيلتقى والده وجده والشيخ «حسن شفا»، تنوشه قناعة غامضة يكاد يحمل يقينا أنه سيراهم، وأنهم فى انتظاره، يتطلعون إلى حضوره.. يعلم أنها الزيارة الأخيرة.. للوداع الأبدى، ارتعب عندما أيقن أن مصيرهم قاع البحيرة.

دون إقلاق للسرد الروائى تصل فى الجزء الثانى إلى صياغة صريحة للمطالب الآن، التى لا يجب تجاهلها. التعويضات والعودة. اللغة النوبية، ولماذا نتركها تندثر، رغم وجود وشائج قوية مع الحرف اليونانى والقبطى. العمارة المسيحية فى آثار النوبة، وكشف الغطاء عنها، الأمر الذى سوف يلقى ضوءاً حقيقياً على حركة الدين المسيحى (الشرقى) فى أفريقيا.

الموسيقى والسلم الخماسى الذى يمكن أن يكشف عن كنوز فنية فى الغناء والرقص والأدب الشعبى.

 منذ رواية «الشمندورة»، أول رواية نوبية نشرت على صفحات مجلة صباح الخير برسوم حسن فؤاد: بعد محمد خليل قاسم الذى رحل فى 1968، يقول يحيى مختار فى «جد كاب» بوضوح فنى واجتماعى إن النوبة مشكلة حية، ومن الضرورى أن تواجه كل مشاكلها بروح حرة جديدة.

اعتذار:
فى كلمة الأسبوع الماضى عن كتاب «لحظة» لصور أطفال المخيمات سقط اسم المصور الفنان اللبنانى رمزى حيدر، الذى أشرف على التجربة، وقدم الكتاب. أعتذر.
«جد كاب»- رواية من النوبة- يحيى مختار- دار الكتب خان- القاهرة 2015.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في جريدة المصري اليوم بتاريخ 7 فبراير 2015