السبت، 29 نوفمبر 2014

كوميديا الأكاذيب المرة



                   

هذه آخر رواية كتبها ألبير قصيرى (1913-2008)، الكاتب المصرى الذى يكتب بالفرنسية، كتبها 1999 وبعدها تقريباً كف عن الكتابة والكلام، أصلاً هو كان قليل الكلام، متوحداً، زاهداً فى التملك أو الشهرة أو الظهور، عاش أكثر من 40 سنة فى غرفة واحدة فى فندق متواضع فى قلب الحى اللاتينى، عاش هناك فترة ازدهار فرنسا بعد الحرب، وصادق ألبير كامى، وسارتر، وداريل، وهنرى ميلر
«الذى كتب مقدمة لروايته التى ترجمت إلى الإنجليزية».


 منذ أن غادر مصر وهو يحملها فى قلبه وذاكرته، لم يكتب إلا عنها، رواياته الـ8 تدور كلها فى القاهرة أو الإسكندرية، كل الشخصيات مصرية حميمة وغالباً من قاع المجتمع، قالوا عنه فولتير النيل، ولغته فيها مذاق وروح بلزاك، ومع ذلك هو يقول عن نفسه«لست روائياً.. أنا كاتب»، يكتب عندما يكون عنده شىء ما يقوله، يقوله ببطء شديد، بوضوح ساخر حاد ونافذ إلى الأعماق، يحمل نقداً سياسياً واجتماعياً لرأس المال وللتشوه الاجتماعى الذى سببه للبشر وللعلاقات الإنسانية.


الفرنسية التى يكتبها عالية كلاسيكية قديمة ولكنها محملة بالروح المصرية فى الحوار وفى الصورة، وفى الروح الحاضرة فى الأماكن، وفى تركيب الشخصيات، لذلك كانت ترجمته صعبة، نادراً ما تستطيع القبض على روح النص.


منذ سنوات قليلة أعيد اكتشاف أعماله وترجمت ثلاث من رواياته المهمة إلى الإنجليزية، وقال النقاد فى إنجلترا وأمريكا إن ألبير قصيرى أحد الروائيين الذين استطاعوا التنبؤ بما سمى الربيع العربى، الذى ثار على الفقر والتسلط والجهل والخرافة، وحاول تحدى سيطرة الفساد المالى والاجتماعى والسياسى:
 شحاذون ونبلاء، عصابة المهرجين.. وأخيراً ألوان العار، ثلاثة أعمال تقدم صورة حية لمجتمعات تصرخ طالبة التغيير.

ألوان العار رواية قصيرة «100 صفحة» ولكنها محتشدة صاخبة مليئة بالضجيج والسخرية والغليان، بطل الرواية «أسامة معاذ»، نشال أنيق يراقب زحام ميدان التحرير، فى رصد أدبى مركب يفتتح به هذا العمل النادر:
 اسمع ما يقوله قصيرى من خلال عيون نشاله الأنيق الذى يراقب زحام الميدان وروح القاهرة:
«حشود البشر، الهائمة على وجهها على إيقاع تسكع صيفى لا مبال فوق الأرصفة غير المستوية لمدينة القاهرة العتيقة، بدت وكأنها قد تكيفت بسكينة بل وبشىء من السخرية اللاذعة مع تدهور البيئة المستمر الذى لا رجعة فيه.. كأنهم متواطئون مع العدو الخفى المقوض لقواعد وأساسات عاصمة كانت منارة فى الماضى.


سيل بشرى جارف يحمل معه عينات متنوعة من البشر أصابتهم البطالة بالسكينة:
 عمال عاطلون، حرفيون بلا زبائن، مفكرون خاب أملهم فى بلوغ المجد، موظفون إداريون مطرودون من مكاتبهم لعجز فى عدد المقاعد. خريجو جامعات رازحون تحت وطأة علمهم العقيم الذى لم يؤت ثماره.. وزمر من النازحين القادمين من كل المحافظات والمشبعين بأوهام حمقاء عن ازدهار عاصمة تحولت إلى بيت للنمل.. فى هذا الجو المختل بوحشية كانت السيارات تندفع وكأنها بلا سائق.. المترجل الذى تخالجه نفسه بعبور الطريق يبدو وكأنه مقدم على عمل انتحارى».


أسامة النشال، المتنكر فى زى فاخر أنيق، يقتنص محفظة فاخرة من أحد الأعيان الخارجين من «نادى الأعيان» ليس فى المحفظة نقود كثيرة فقط، ولكن فيها خطابا موجها لصاحب المحفظة، وهو مقاول مبان كبير انهارت واحدة من العمارات التى بناها منذ أيام وتسببت فى مقتل 50 إنساناً، الخطاب يحمل توقيع شقيق وزير الأشغال الذى كان يشارك المقاول فى استخراج تراخيص فاسدة من الوزارة التى يرأسها شقيقه:
يقول فى الخطاب إنه سيكف عن التعاون معه بعد فضيحة سقوط العمارة واكتشاف فساد التراخيص وفساد مواد البناء.
يشعر أسامة أنه يحمل قنبلة يمكن أن يفجرها فتقلب المدينة، يسرع إلى حى السيدة زينب حيث يقيم والده الضرير فى بيت آيل للسقوط وكان الرجل قد فقد بصره إثر ضربة من هراوة الشرطة فى إحدى المظاهرات ضد الفساد ولم يحصل على أى تعويض من الحكومة، يضع أسامة بعض الأوراق النقدية فى يد والده ويسرع باحثاً عن أستاذه الذى علمه النشل، المعلم «نمر» كان قد خرج من السجن وأطلق لحيته ليكتسب شكلاً جديداً لمواصلة عمل النشل بشكل جديد، يستشير أسامة معلمه فى أفضل الطرق للتعامل مع الرسالة القنبلة واستغلالها بأحسن الطرق.


المعلم نمر يقودنا إلى لون آخر من ألوان الفساد حيث يأخذ أسامة لزيارة أستاذ صحفى كان زميله فى السجن لأنه كان متهماً بكتابة مقال عن رئيس دولة شقيقة يكشف فيه أنه مختل عقلياً، الأستاذ كرم الله الصحفى الساخر المفكر، يختفى فى مقابر أسرته العريقة بعيداً عن مطاردة أحكام وضعه تحت الحراسة، هناك فى المدافن يقيم الأستاذ، ويستقبل تلاميذه ويستقبل نمر وتلميذه أسامة ليبحثوا كيفية التعامل مع الرسالة التى تحمل الفضيحة.
الأستاذ كرم الله - المفكر - هو رسول السخرية المقيم فى المدافن يقرأ الرسالة ويقول إنها:
 «عسل» كوميديا سوداء، تثير غبطتى لعدة أيام، ولكن اللصوصية فى أعلى الطبقات أمر مقبول ومتوقع فى كل العالم، وليس فى هذا جديد، الصحف لن تنشر هذه الفضيحة، وإذا نشرتها ستجد أعذاراً وتبريرات.. يقول رسول السخرية المقيم فى المدافن:
 يا معلم نمر ويا سيد أسامة يجب أن نبحث عن حل مبتكر وممتع للتصرف فى هذه الهدية التى وقعت فى أيدينا.
وتتصاعد السخرية الكاشفة فى الرواية بأن يقترح الأستاذ كرم الله:
 أود أن نلتقى بهذا المقاول المدعو عاطف سليمان، إأن الحوار معه سيكون ممتعاً، عيداً حقيقياً للعقل يكشف أحشاء هذا الواقع، سنعرف خلال هذا اللقاء الذى أشتاق إليه، أن الشرف اختراع من صنع الطبقات المهيمنة ليتسلى الفقراء.


ويتفق الثلاثة على لقاء المقاول فى حى الحسين فى ذلك المقهى القديم الشهير، كان المقهى والحى كما هما تماماً منذ أن كان المقاول الكبير عاملاً فقيراً يبحث عن عمل، عندما يلتقى الثلاثة تتم مناقشة الواقع السياسى والاجتماعى فى مبارزة يقودها كرم الله تتناثر فيها الحكم كأنها حبات لؤلؤ تهدى إلى امرأة عجوز تحتضر، الفقراء فقط هم اللصوص، السرقة والاحتيال هما المحرك الوحيد للإنسانية، النشال عازف بيانو ماهر لا يمكن الارتياب فيه، الحقيقة معروفة للكل ولكن لا مستقبل لها، الكذب وحده هو الذى يحمل آمالاً عريضة، الوقت الثمين الوحيد هو الوقت الذى يمضيه الإنسان فى التفكير، أما كرم الله فقد قال لهم إن موت الطاغية أو القبض عليه لا يعنى نهاية الطغيان أو الفساد، الناس مشغولة بنفسها ولا شىء اسمه الثورة، لكل إنسان ثورته الخاصة، يصنع بها تاريخه ويدافع عن مصالحه.

أعجب المقاول عاطف سليمان بالحوار والنقاش الذكى وأخذ هو الآخر يتفتح ويشرح حاله، أبدى استعداده لدفع أى مبلغ مقابل استرداد الرسالة، ولكن الثلاثة بقيادة كرم الله أفهموه أنهم لا يعرضون الرسالة للبيع، خاصة بعد أن قال لهم إن حادث انهيار العمارة كان من جراء زلزال محلى كان فقط فى مدينة نصر، وإن الحكومة أخفت الموضوع حتى لا تثير ذعراً لا داعى له فى البلد، وأنه هو ليس مجرد مقاول للبناء ولكنه صاحب نظرية جديدة فى العمارة يعمل على تطويرها، ملخصها أنه لا يجب أن نقيم مبانى تعيش إلى الأبد ولكن يجب أن نعمل على أن يكون لكل مبنى عمر افتراضى ينهار بعده.

أمام تصاعد هذه الأكاذيب، وتكشف العار الذى يتصاعد مغرقاً كل شىء يقرر النشال الأنيق الاحتفاظ بالرسالة، ويصنع منها حجاباً يعلقه فى صدره لكى يحميه، ويجلب له النجاح.

رواية ألوان العار خلاصة فكاهية مرة اعتصرها ألبير قصيرى من قلب محبته وغربته عن مصر، وكتب فيها حكمة التجربة، ونبوءة الثورة وإشارة إلى ضرورة عمق وشمولية التغيير.


ألوان العار - رواية - ألبير قصيرى
ترجمة د. منار رشدى أنور.
المركز القومى للترجمة 2011.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر في جريدة المصري اليوم بتاريخ 29 نوفمبر 2014

السبت، 22 نوفمبر 2014

حزام ناسف من «حى الأمريكان»





«حى الأمريكان» هو أحد الأحياء العشوائية القديمة فى مدينة طرابلس العريقة فى شمال لبنان الحبيب، أخذ اسمه من «وجود المدرسة الإنجيلية المهجورة، التى تمركز فى مبانيها المتهالكة طوال سنوات فرع لما يسمى جهاز«المخابرات الجوية مرهوبة الجانب»، هو حى عشوائى بامتياز يحمل مع الفقر تاريخ تدهور حال المدينة وعلامات من تاريخ المآسى منذ الاحتلال العثمانى إلى الفرنسى إلى جحيم الحرب الأهلية اللبنانية، تلك الحرب التى تبقى حتى الآن فجراً للجحيم الذى دخل فيه عالمنا العربى ولم يخرج حتى الآن.


و«حى الأمريكان» هنا رواية مهمة وكاشفة للأديب
«جبور الدويهى» مواليد زغرتا 1949، أستاذ الأدب الفرنسى فى جامعة لبنان، صاحب 6 روايات مهمة: مطر حزيران (2006) شريد المنازل (2007) روح الغابة بالفرنسية «قصة للصغار» (2010) وغيرها من الروايات.

صنع الكاتب جبور الدويهى فى وقت قصير مكاناً خاصاً فى أسلوب الكتابة الروائية:
 طرق السرد وتركيب اللغة، كما صنع مكاناً رائداً فى التصدى لمشكلات الواقع الراهن فى لبنان والعالم العربى، خاصة فيما يتعلق بإعادة تشكيل العلاقات الاجتماعية، والارتباكات الطائفية والاجتماعية، ومشاكل العنف والإرهاب والآثار الجانبية للعولمة والحداثة المغلوطة فى عالمنا العربى، هو مشغول دون ادعاء أو صخب بالبحث عن روح إنسانية مفقودة فى تغييرات عشوائية وقسوة رأسمالية خلفت صوراً عجائبية من الفقر والبؤس الفريد، خاصة بعد ظهور وانتشار وباء الإسلام السياسى بمختلف صوره وأسمائه.


ولكى ننتهى من هذه المقدمة الطويلة قبل أن ندخل إلى صلب الرواية الإنسانية الرائعة، لابد أن نعرف أن «طرابلس» مدينة لها مكانة خاصة فى لبنان، فهى مهد للحركات القومية والتنويرية ومهد للنموذج اللبنانى الأصيل للتعايش السلمى بين الطوائف والأديان، وهى أيضاً مركز لنخب سياسية وفكرية صنعت مكانة لبنان، ولكنها أيضاً شهدت فى السنوات الأخيرة بزوغ تيارات إسلامية عنيفة، وشهدت فى سنوات الوجود العسكرى السورى أعمال عنف ومذابح فريدة، «حى الأمريكان» رواية لبنانية ولكنها تحمل تجارب فى اللغة وفى المضمون تهم وتثير العالم العربى كله.


تقول الرواية «بدا كأن رب المدينة قد تخلى عنها، فتقاسم النفوذ فيها (أمراء) على الأحياء يدعمهم مشايخ يتنقلون فى سيارات مصفحة ومولعون بالخطب النارية واستعراض السلاح».

الرواية تقع فى 160 صفحة من القطع المتوسط وتنقسم إلى 6 فصول، أما من ناحية الموضوع فهى تنقسم إلى جهتين: الحى العشوائى الفقير حيث يعيش الأبطال:
 أم محمود خادمة القصر القديمة، وابنتها انتصار وزوجها بلال وابنها إسماعيل، روح الرواية وقلبها، وفى الجانب الآخر القصر القديم حيث تعيش عائلة «العزام»، مفتى المدينة، وأحد أعيانها الذين صنعوا تاريخها، ولم يبق فى القصر الآن سوى «عبدالكريم» الشاب المثقف الجديد، الذى ترك المدينة إلى باريس، إبان العنف والارتباك، وعاد بعد وفاة الوالد آخر أعيان العصر الذى يغرب، عاش عبدالكريم فى باريس قصة غرام إنسانى رائع مع راقصة باليه ملكت عليه قلبه وعقله وشكلت صورة عكسية لواقع ضار فى طرابلس.
 فى أول لقاء لعبدالكريم مع «فاليريا دومبروفسكا» راقصة الباليه البلغارية يقول الكاتب فى نموذج لقدرته البلاغية الجديدة:
«تركت وراءها دعوة خاصة لحضور (كسارة البندق) فى أوبرا الباستيل وعينين زرقاوين واسعتين تقولان لك إنها لم تكن تنتظر فى الدنيا سواك معجبة وفرحة بكلماتك، قبل أن تخرج من فمك كأنك اكتشافها الثمين».
يصور هذا المقطع كل القصة والشخصيتين، والمصير الحتمى لقصة حب لا تنتمى لهذا العالم، يعود عبدالكريم العزام إلى طرابلس بعد اختفاء حبيبته لكى يعيش معنى فى قلب عاصفة العنف، ودوامة الارتباك فى حى الأمريكان وطرابلس كلها، بطل الرواية الآخر «إسماعيل»، ابن انتصار، مديرة المنزل الجديدة، التى ورثت عمل أمها أم محمود، وزوجة «بلال» المتشرد النموذجى الذى طعنته أحداث عنف مرت بها المدينة، «جزرة باب الحديد»، وتركته الأحداث بلا عمل وقد اتهمه الرفاق بالهرب أو بالوشاية، فعاش زوجاً لانتصار بلا دخل وبلا كرامة، يبحث عن كرامته فى إنجاب أطفال، وممارسة عنف ضد زوجته الصامدة القوية.
إسماعيل ابن هذه الحياة الزوجية، وابن شوارع حى الأمريكان، يهجر الدراسة ويشكل مع أشباهه عصابة مراهقين يقومون بجرائم صغيرة حتى تأتى الانتخابات السياسية فيكسبون رزقهم من خدمة المرشحين والمرشحين المضادين، حتى يقع فى براثن جماعة «الهداية الإسلامية» التى تتستر وراء الدعوة الدينية لكى تجمع شباباً لترسله للحروب مع رجال القاعدة: «أصابت إسماعيل تلك (الجمدة) التى تكاثرت الإصابة بها لدى شباب يهتدون فى آخر العقد الثانى من العمر».
وأصبح جاهزاً للمهمة المحورية فى الرواية أن يرتدى حزاماً ناسفاً ويذهب إلى العراق لتفجير أتوبيس فى المحمودية.
                    ■ ■ 
اعتنى المؤلف عناية خاصة برسم شخصية إسماعيل لكى يصنع منه بطلاً درامياً بامتياز، فهو قبل «الجمدة» التى أصابته وأدخلته إلى التنظيمات المسلحة: كان قد اكتسب ملامح خاصة فهو قد ترك بيت أبيه وأمه انتصار، بعد أن تشاجر مع والده الذى يضرب أمه وانتقل ليعيش مع جدته «أم محمود» راعية القصر القديمة التى تحمل بقايا قيم وتقاليد قديمة، وهو كذلك يرعى أخاه الأصغر المصاب فى قدميه بعرج منذ الولادة ويدافع عنه ضد كل من يسخر منه ويشترى له الحلوى ويأخذه فى نزهات خارج الحى العشوائى إلى ما بقى من المدينة من شوارع ومباهج بسيطة، كما أنه على علاقة بخال له مدرس يجمع قروشه القليلة لكى يقوم برحلات سنوية إلى العالم الخارجى ويحكى لإسماعيل عن الدنيا وما فيها، ولكن ككل كائنات الأحياء العشوائية يقع الخال فى إدمان الكحول ويحصل على شريط تسجيل لخطاب جمال عبدالناصر الذى يعلن فيه التنحى ويظل طوال الليل يشرب خمرته الرخيصة ويسمع الشريط ويبكى، كما أنه يراقب فى الحى شيخاً قديماً كان الناس يحبونه ويصدقونه دون عنف أو حديث مكرر عن الجهاد، وكان الشيخ عبداللطيف يقول فى أعقاب أحداث 11 سبتمبر فى نيويورك: ليس للإسلام أعداء أكثر من بعض المسلمين.
ليلة خاصة أكملت تشكيل شخصية إسماعيل، هى الليلة التى أمضاها فى بيت عبدالكريم عزام، وحكى له العاشق الباريسى والإنسان المحب لطرابلس القديمة، عن حياته وغرامه وعن عودته إلى الوطن يحمل معه أشجاراً قزمية كانت لحبيبته الراقصة، وحملها معه إلى لبنان فى حلم عبثى بأنها قد تعود يوماً ما لتلك الأشجار ولتخبره، عن مصير الطفل الذى قالت له فى خطاب الوداع إنها حامل به.
شكلت كل هذه العناصر شخصية الشاب إسماعيل الذى ارتدى حزاماً ناسفاً، وخرج فى مهمة أخيرة من طرابلس هارباً إلى العراق لكى يفجر نفسه فى أتوبيس ركاب فى محطة عراقية فى مدينة «المحمودية»، كانت هذه هى المهمة التى كلفته بها الجماعة، لكى يصل إلى الشهادة وإلى الجنة ولكى يثبت أنه مسلم صالح.
الرحلة إلى العراق هربا فى حافلة تنقل الخضار مع اثنين من الاستشهاديين أبوعبدالله الصومالى، والمغاربى صاحب الطابع الحاد واللهجة الغريبة، كانت جحيماً وعذاباً خالصاً وكانت أيضاً إنجازاً فنياً صوره الكاتب تصويراً مثيراً ودقيقاً، وظل إسماعيل طوال الرحلة يصلى، ويردد لنفسه أنه لا يريد أن يموت هنا.. ولكنه يريد أن يموت فى الجهاد.
قالوا له:
 إن اللحظات الأخيرة هى أصعب اللحظات، فكيف كانت، كان إسماعيل فى آخر الأتوبيس، وكان الأتوبيس مزدحماً وبينما الأتوبيس يقترب من محطة المحمودية، خرج من بين الركاب طفل يعرج ويمشى وسط ممر الأتوبيس ويعد الركاب، من هذا الطفل، ومن أين ظهر، إنه يشبه أخاه تماماً، ويعد الركاب واحداً واحداً حتى وصل إلى إسماعيل، ودقق فى وجهه ووضع أصبعه الصغير فى صدره، وقال سبعة وثلاثين.. هنا نادت عليه أمه.. يا محمد.
وجد فى الأتوبيس أخًا مثل أخيه، وأمًا مثل أمه.
نزل إسماعيل فى المحطة تخلص من الحزام بحذر فى مراحيض المحطة، ونظر من النافذة الصغيرة، كان الأفق يمتد أمامه، أرض بلا بشر تندرج من ألوان الصحراء إلى ألوان السماء.
                      ■
كان اليوم هو يوم اعتقال صدام، وأعلنت المحطات عن عملية استشهادية فى محطة المحمودية وعن استشهاد حامل حزام ناسف، ولكن الخبر لم يتأكد بعد أن أعلن فى حى الأمريكان أن إسماعيل بلال شهيد الجهاد فى أرض العراق.
فى إشارة ذات دلالة أخيرة ساعد عبدالكريم الشهيد الحى الذى عاد إلى طرابلس على الاختفاء بأن أعطاه «البالطو» الأسود الذى كانت الراقصة تتدثر به.
رواية إنسانية مكتوبة بفنية عالية ولغة خاصة يصنعها جبور الدويهى على عينه، مستعيناً بالحكاية الشعبية والثقافة الفرنسية فى مزيج خاص جديد.

حى الأمريكان - رواية - جبور الدويهى
- دار الساقى - لبنان 2014

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في جريدة المصري اليوم بتاريخ 22 نوفمبر 2014

السبت، 15 نوفمبر 2014

الحكيم «سليمان فياض» يتكلم..





مرة أخرى تثبت «مكتبة الأسرة» أنها واحدة من أهم إصدارات وزارة الثقافة الكثيرة:
بأن تصدر الآن هذه الطبعة الجديدة لكتاب: 
الحكيم سليمان فياض«الوجه الآخر للخلافة الإسلامية»، الكاتب والكتاب علامات مهمة، من الواجب استحضارها وبحث معناها الآن، فى هذه اللحظات الفارقة والمرتبكة.

الحكيم - اسم - وصفة كنا ننادى بها الصديق الأستاذ سليمان فياض، عندما يخرج عن صمته لكى يقول حاداً وحاسماً، رأيه فى مسألة من مسائل الأدب أو السياسة.. هو دائماً يجيد الصمت والاستماع، كما يجيد كشف الحقائق والوصول إلى لب الموضوع، ومع الاقتراب من الحكيم تكتشف: أنه يكتب ما يعيش ويعيش ما يكتب.

طوال معرفتى بالصديق سليمان - التى ترجع إلى منتصف خمسينيات القرن الماضى لم أشعر أنه يستند إلى أيديولوجيا جامدة، أو جماعة أو حزب أو تنظيم، صنع الحكيم نفسه، وشق بجهاد فكرى وفنى لنفسه طريقاً خاصاً، أوصله إلى مكانة متميزة، فى الإبداع الأدبى وفى أبحاث اللغة، وفى إعادة قراءة التراث والتاريخ الإسلامى بعيون حرة ناقدة، متخلصة من ظلام القرون الوسطى التى تحاول أن تحاصرنا فيه ليس فقط الدعاة المتعصبون، والتنظيمات المتخلفة، ولكن مناهج الدراسة ومحاذير البحث فى التراث والتاريخ الإسلامى.


يقول سليمان فياض فى حديث له:
 لا يمكن أن تتعلم العوم وأنت تتحدث عنه واقفاً على الشاطئ، يجب على الكاتب أن يذهب إلى حيث لم يذهب أحد بعد، ثم يقول:
«لن تستعيد الكتابة عافيتها إلا إذا ساعدنا بنقد النفس ومحاسبة الذات على انبثاق روح الانتماء والحلم القومى».

سليمان فياض الحكيم، ونحن وأمثالى معه من عاشوا أحزان يونيو: نعرف أن الاعتراف بداية ضرورية، وأن محاسبة النفس قد تضعنا على الطريق الصحيح للتخلص من الأمية، وأمية المثقفين، أن نخلع كما قال نزار قبانى:
 قشرة الحضارة التى نكتسى بها لكى نخفى روح الجاهلية، الساكنة داخلنا، لكى نكتشف الأسلحة والطرق التى تمكننا من مواجهة الرباعى الساكن فى أرضنا: الفقر والجهل، والمرض، والفساد.

فى أدب القص تصدى سليمان فى كل كلمة كتبها للقضية الاجتماعية دون حساب أو خوف أو انتماء لفكر أيديولوجى جامد، من «أصوات»، حيث ينتهى بأن يسأل: هل ماتت المرأة الأجنبية التى وقع عليها الاعتداء.. أم أننا نحن «الأموات» وفى «لا أحد» يضع النقط على الحروف فى كل مسألة الخليج والهجرة وأموال النفط، وفى «القرين» يحاسبنا - ويحاسب نفسه، عن علاقتنا بالأسطورة والخرافة والتاريخ، وفى «حكايات النميمة» يعلمنا أن الفن لا يحاكم ولكنه يكشف ويعرى، ويدفع إلى التفكير. 

فى «أيام مجاور» يعيد بعث السيرة الذاتية كشكل من أشكال الفن الأدبى يستطيع أن يلعب دوراً مهماً فى إعادة ترتيب الأوراق التى تبعثرت بدعاوى الحداثة، والواقعية السحرية، والسريالية، وعبر النوعية، إنه الآن يذكرنا بصرخة العميد طه حسين سنة 1959: الآن تنتقل عاصمة الأدب إلى بيروت.

الحكيم سليمان فياض - رغم عزلته، وأمراض الشيخوخة التى لم تمنعه - مد الله فى عمره ومتعه بالصحة والقدرة على العمل - يطلق بـ«أيام مجاور»، وبهذه الطبعة الجديدة من كتابه المهم «الوجه الآخر للخلافة الإسلامية» صرخة تحذير وتنبيه بأن المواجهة الآن على كل الجبهات، وأن المواجهة الأمنية والعسكرية للإرهاب والتطرف يجب ألا تنسينا أن المهمة الأولى هى كشف الغطاء عن المستور، ومواجهة حقائق الحاضر والتاريخ.

أحزان يونيو مازالت جاثمة على القلب، لا يمكن أن يغطيها هذا السلام الهش، لن تزول أو تنقشع إلا إذا حرثنا الأرض والتاريخ بمحاريث الفكر الحر والمكاشفة، إلا بنقد الذات والاعتراف. الوجه الآخر للخلافة الإسلامية، محراث فلاحى قديم يشق ركاماً خانقاً من تاريخ مكذوب.

لا يمكن أن يكون الدين قناعاً لشىء، له فى الروح وفى الوجود الاجتماعى ما يمنع استخدامه «كقناع»، وقد طال هذا الاستخدام وعشنا دائماً فى ظل ظلام «قرون وسطى» شرقية تحاشينا أن نكشف عنها الحجاب.

مقاصد الدين، دين الإسلام، هى: العدل، وحرية الاعتقاد، والأمن والتكافل الاجتماعى، والإخاء، والمساواة، واستقلال بيت مال المسلمين عن بيوت أموال الحاكمين.

هذه المقاصد لم تتحقق بعد خلافة عمر بن الخطاب إلا شهوراً قليلة فى عهد عمر بن عبدالعزيز، الذى كان شعاره:
«إن الله قد بعث محمداً، صلى الله عليه وسلم هادياً، ولم يبعثه جابياً»، وفى جداول الخلفاء غير الراشدين التى يسجل فيها الكتاب نسب ومدة خلافة وسبب وفاة الخلفاء الأمويين والعباسيين:
 يذكر أن عمر بن عبدالعزيز حكم سنتين وسبعة أشهر(717-720) ويشاع أنه مات مسموماً من أقاربه، وأنه كان عربى الأب والأم.
 الكتاب وثيقة جديدة صادقة مكتوبة بترتيب ناضج لا يخفى ولا يدارى: «يسعى سفهاء العقل، والذين لم يستفيدوا من دروس التاريخ وتجارب الخلافات الإسلامية إلى عودة نظام الخلافة، وهم يعلمون أن مثالب هذا النظام فى إدارة أمور الدنيا تطغى على أحلام الحالمين».

فى العصور الوسطى كان وجه الأرض كله، فى قارات العالم الثلاث، المعروفة فى تلك العصور، يحكم بأسر حاكمة تقدم لحكم الشعوب حكاماً يحملون ألقاب: الملك، والسلطان، والإمبراطور، وكان المقصود بلقب «الخليفة» فى عصر الخلفاء الراشدين:
أن الحاكم خليفة، لأنه يخلف من سبقه، إلى أن اجترأ الخليفة «أبوجعفر المنصور»، فجعل الخليفة، خليفة الله سبحانه وتعالى فى أرضه، وظل الله الممدود على الأرض، ولعله وجد من الفقهاء ورجال الحاشية من يفسر له آية الاستخلاف لآدم بأنها تعنى أن الخليفة هو خليفة الله الذى اختاره الله ولم يختره العباد، والآية لم تعن أكثر من أن الجنس البشرى بأسره «من أبناء آدم» قد استخلفه الله فى الأرض، لتعمير الأرض.

أعاد الكتاب قراءة 40 كتاباً فى تاريخ الخلفاء، وقدم فى لغة سهلة بسيطة مباشرة تميز بها سليمان فياض، وخلص إلى نتائج مقلقة، لقد كانوا فى أغلبهم يريدون أن يكون الناس«بلا تفكير، ولا معرفة، ولا ذاكرة» الكل كان يحكم«بهواه باسم الدين»، النزاعات والمذابح والخلافات الفقهية الحقيقية، والمكذوبة كانت ستاراً لجمع الخراج، ولحياة الترف والبذخ الأسطورى الذى عاش فيه أغلبهم، للقتل والتعذيب والاضطهاد فى تاريخ الدولتين الأموية والعباسية أساطير لا تصدق وكلها كانت تتم تحت ستار الدين والخلافة، وفى وجود الفقهاء وأصحاب الفتوى والرأى الذين أوصلونا إلى ما نحن فيه الآن.

إنه مرجع جديد بالغ الأهمية، وجد الآن فى متناول الجميع، وبسعر رخيص وقد بذل فيه الصديق الحكيم سليمان فياض جهداً قومياً ودينياً وإنسانياً عظيم الدلالة، يقول فى نهاية المقدمة:
 روى عن الرسول، صلى الله عليه وسلم:
«أخوف ما أخاف على أمتى رجل منافق، عليم اللسان، غير حكيم القلب يغيرهم بفصاحته وبيانه، ويضلهم بجهله».

وقد ابتليت الأمة الإسلامية بكثير منهم فى كل العصور.


الوجه الآخر للخلافة الإسلامية - سليمان فياض
- مكتبة الأسرة 2014
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر بجريدة المصري اليوم بتاريخ 15 نوفمبر 2014

الأربعاء، 12 نوفمبر 2014

سيدى المرسى .. وقمر إسكندرانى





 «أسماء الشيخ» ..
طبيبة شابة من الإسكندرية من مواليد 1988 قدمت روايتها الجميلة «مقهى سيليني» .. والتى فازت بجائزة 
«لقاء»نجوى بركات 
الذىعقد ربيع 3102 ـ 4102 ـ بالتعاون مع وزارة الثقافة فى البحرين .. كان اللقاء مدرسة حقيقية جمعت شباب كتاب الرواية من كل العالم العربى .. للتدارس والتعارف وتبادل الخبرة والنقاش المفتوح فى فن الرواية .. ودور الكاتب ومسئوليته .. وكان العنوان الفرعى : كيف نكتب الرواية.

نشرت دار الآداب البيروتية رواية: أسماء الشيخ التى تميزت
 أو فازت ـ فى هذا اللقاء الخصب الذى نحب أن نطلع ـ نحن قراء الرواية فى العالم العربى على أوراقه وما دار فيه من مناقشات بين شباب الكَّتاب.

«مقهى سيليني» رواية من الإسكندرية مكانا وروحا ورائحة وتاريخا .. عمل فنى مشغول بدقة وعناية عن تاريخ ومعنى بلد فريد نادر الطابع والخصائص .. تنقلت فيه الكاتبة بحرية وفهم للعلاقة بين المكان والبشر.

سيلينى .. كلمة يونانية تعنى »القمر« .. وهو اسم لمقهى تملكه عائلة ايطالية يقع بجوار منطقة المساجد وأولياء اللَّه الصالحين حول سيدى المرسى أبو العباس .. بكل ما يعنيه للسكندرى (المسلم والمسيحى والأجنبي) من معنى واشعاع روحي.

أحداث الرواية المدروسة بدقة والمتداخلة بمقدرة فنية شابة تعد بخصوبة فى الفكر والخيال:

 تدور الأحداث فى فترة الحرب العالمية الثانية عندما كانت الإسكندرية مسكونة بالعساكر الإنجليز وجيوش روميل وهتلر على الأبواب فى العلمين.

المقهى الذى تحمل الرواية اسمه مملوك لجنيَّة بحر ايطالية جاءت إلى مصر مع زوجها الموسيقى .. عازف الكمان الذى توقف عن العزف لمرض أصابه .. أما الجنيَّة الإيطالية «سيلفيا» .. فلقد ابتلعها البحر وغرقت فى مياهه الغامضة.

صنع هذا المكان «مقهى سيليني» المجاور للمرسى أبو العباس مسرحا ساحرا لرواية خيالية .. تاريخية .. وثائقية .. مشحونة بالعاطفة وعامرة بالحب والانسانية.

حقا: استطاعت الدكتورة الشابة أن تقدم رواية عربية جديدة اجتهدت الكاتبة فى جمع مادتها التاريخية والانسانية.

إلى جانب المقهى وما يقدم فى عالم من خطابات الأم الغارقة إلى العائلة .. وهى خطابات مكتوبة ببراعة مدهشة .. يقوم عالم آخر: عالم «الحجام» القادم من رشيد يحمل تراث الطب الشعبى من حجامة وأعشاب وأحجبة لكى يسكن فى بيت «مسكون أصلا» .. وأنت وأنا ـ نعرف أن تسكن بيتا «مسكونا أصلا»..

بيتا عريقا غامضا بيت شندى يقع بين الإسكندرية الشعبية: ومدينة الشوارع الفاخرة الحديثة .. وبذلك يقع أيضا على مفرق فاصل فى التاريخ.

هناك مع «الحجام» تسكن زوجته »بهجة« الخياطة الجارة الحزينة التى لا ترتدى إلا السواد .. وعبداللَّه ابنه المتخلف عقليا والذى كان حلم حسين «الحجام» أن يرث عنه الحكمة وتراث الطب الشعبى الأهم من كل هؤلاء رقيَّة ابنة الحجام: محرك الرواية وحلم المستقبل والسينما وأحلام الشباب.

رقية مكانها فى القلب .. قلب الأحداث وقلب المكان والزمان هى التى تأخذنا من الحضرة والذكر والحمام الشعبى وعربة الفول إلى عالم السينما وأفلام الريحانى وأنجريد برجمان فى فيلمها الخالد«الدار البيضاء» وتنتقل بنا «رقية» من صالات تدريب الراقصات.. إلى مدافن الصحراء المحيطة بالإسكنديرة لكى تصنع نهاية عصر وبداية عالم جديد.


 تجنبت أن أقدم عرضا لرواية وأحداثها حتى تحتفظ لنفسك بمتعة اكتشاف عالم اسكندرية اسماء الشيخ الخيالية التاريخية الجميلة .. وأن تعيش بنفسك تجربة اكتشاف ليس فقط رواية جديدة .. بل كاتبة روائية مصرية جديدة أزعم أنها ستقدم لنا أعمالا أهم وأكثر تركيزا.

أعتقد إذا كان لى أن أقول كلمات قليلة  عن الرواية ..
فكلماتى تتلخص فى اختلاف الإيقاع والسرعة بين أول الرواية وآخرها .. والأهم أن أن الكاتبة لم تصنع رغم غنى المادة وتنوع الموضوع: مركزا محوريا يشكل قلب الرواية .. لقد أغرت المادة الغنية المؤلفة فلم تصنع بقعة الضوء المحورية .. ولعلها قصدت ذلك فى حارة الحجام ..كانوا يبدأون صباحهم بطبق فول وهم يستمعون إلى أغنيات راديو مقهى اللمة الحلوة .. وتبدأ رقية يومها بعرض خاص لفيلم نجيب الريحانى .. ومع أول ظهور للريحانى كانت رقية تقول:
 ـ صباح الخير يا نجيب.

أما آخر خطاب من جنيَّة البحر الغارقة: سيلفيا .. فتقول فيه
 )أخبرتك من قبل أننى أحب الإسكندرية .. إنها مدينة تصيبك بالحب وبالعجز .. أليس هذا جنونا!(.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشر فى الأهرام بتاريخ 12 نوفمبر 2014


السبت، 8 نوفمبر 2014

دمشق الجميلة إلى الأبد




أمضيت أياماً ممتعة مع رواية «حكواتى الليل» للأديب الدمشقى «رفيق شامى» «سورى - ألمانى، مواليد (معلولا) 1946 - يعيش فى ألمانيا منذ 1971، حائز على أكثر من 25 جائزة دولية من ألمانيا - فرنسا - إيطاليا - أمريكا».

روايته «الجانب المظلم للحب» تحقق أعلى مبيعات فى ألمانيا وإيطاليا وفرنسا، أقيم جوائزه - فى نظرى - جائزة الأديب هيرمان هسه، يعتبر رفيق شامى، ثالث أشهر كتاب أوروبا، يقيم فى المدن والمدارس قراءات بالألمانية طبعاً - لساعة أو ساعتين من رواياته التى تسجل على أسطوانات، وتحقق مبيعات غير عادية، له فى لندن دار نشر باسم دار السنونو. الطائر المهاجر يصل فى الشتاء مهاجراً من أوروبا إلى الشام والعراق حتى إيران، الدار تنشر النثر العربى فقط وتتولى ترجمته إلى مختلف لغات العالم مع الاحتفاظ بحقوق المؤلف.

يقول شعار الدار إنها تنشر النثر فقط الذى لا يخضع للرقابة ولا للديكتاتورية، ولا النفط أو الملل، يعمل رفيق شامى، واسمه الأصلى «سهيل فاضل»، فى جمعية «شمس» لخدمة أطفال المذابح السورية وأطفال الملاجئ.

مبرر هذا التقديم الطويل هو التجاهل الذى يلقاه اسم الرجل وإنتاجه، الذى يشمل الرواية وأدب الأطفال المتقدم، الذى ينقل سحر الشرق العربى القديم والحديث إلى أوروبا والغرب. هناك - طبعاً - خلافات تأخذ طابع التعصب السياسى وأخيراً الدينى الذى يلاقيه حيث لا يتعدى عدد الروايات التى ترجمت له ثلاث أو أربع روايات على الأكثر!

«حكواتى الليل - يدى ملأى بالنجوم - قرعة جرس لكائن جميل - تقرير سرى عن الشاعر جوتة».

الأديب الكيبر من مواليد «معلولا»، وهى مكان ساحر فى الشام - قرية مسيحية تقع على بعد 50 كيلو من دمشق، المكان الوحيد فى العالم الآن الذى يتكلم اللغة الآرامية - اللغة التى كان يتكلم بها السيد المسيح - وبها أقدم دير مسيحى دير القديس سركيس. يعيش فى المنطقة فى انسجام ومحبة - قبل العواصف السوداء الأخيرة - خليط متناغم من: المسيحيين والمسلمين والأكراد والأرمن والكلدانيين وجاليات إيطالية ويونانية «دمشق والمنطقة المحيطة بها كانت حاضرة متقدمة عمرها 1000 سنة عندما تأسست مدينة روما».

يقول رفيق شامى فى حديث أخير، نشرته كبرى الجرائد الألمانية معلقاً على الوضع الغامض فى سوريا الآن:
تصلنى من وطنى أخبار متناقضة، ما أنا واثق منه أن الخوف لن يعود ليسكن الشام مرة أخرى، بعد أن تنقشع عاصفة ريح السموم السوداء، أرد كل ما حققته فى المهجر خلال أكثر من أربعين عاماً من أجل فنجان قهوة فى دمشق، وسماع أغنية لفيروز فى حدائق الشام، وزيارة لقبر أمى فى «معلولا».

العرب خاصة الشوام والعراقيين المقيمين فى ألمانيا، ينقسمون فيما أعتقد إلى قسمين أساسيين: الأول هو الذى بدأ الهجرة إلى ألمانيا الشرقية سابقاً، والثانى وهو قسم، منه رفيق شامى، بدأ الهجرة فى ألمانيا الغربية، درس رفيق شامى الكيمياء وعمل فى أكبر شركات الأدوية، ثم تفرغ نهائياً للأدب حيث كتب بالألمانية التى أصبح يتكلمها كأهلها تماماً منذ عام 1982.

طال الحديث عن الرجل ونسينا الرواية، تعامل الأديب مع التراث العربى والشعبى تعاملاً جديداً متقدماً، إنه لا ينقل اللغة ولا التراكيب الشكلية ولكنه يغوص فى روح الشعب (يذكرنى بتعامل أبوالشعراء فؤاد حداد) لغته بعيدة عن كل نغمة خطابى سياسى، أو رموز فجة تلك التى تحول الأعمال إلى خطب سياسية خانقة، أو مسخ مقلد من نصوص تراثية، إنها أعمال خيالية، تقدم نوعاً جديداً من خلط الأسطورة بالرواية الحديثة فى ابتكار للشكل وللمضمون، يقارب ما فعلته الواقعية السحرية التى خرجت من أمريكا اللاتينية لكى تضيف محيطاً جديداً لبحار الرواية الأوروبية الغربية، فى أعماله نقد سياسى واجتماعى يعتمد على جو النكتة والسخرية الشعبية. الرواية تبقى دائماً ممتعة مسلية تعيدك إلى طرافة القص الشعبى، فى «حكواتى الليل» يقول رفيق شامى:
«كل خميس كان راديو القاهرة يبث أغانى أم كلثوم، والجزار كان متيماً بصوتها إلى درجة أنه يبكى ويرقص وحيداً فى غرفته، شريكه الوحيد وسادة يعصرها بين يديه، أحبها معه ملايين العرب إلى درجة لم يجرؤ معها أى رئيس دولة بإلقاء خطاب فى أمسية الخميس، لأنه يعلم أنه ليس هناك عربى واحد يستمع إليه، كان لأغنية أم كلثوم جمال حديقة قرنفل مزروعة بعناية حيث لا يمكن لشوكة أن تندس فيها».

ويقول عن حارات دمشق:
ما إن غادر المقهى حتى لفته غيمة عطر آتية من سوق البهارات، كان الكمون، حب الهال والكزبرة يسيطرون على الموقف، لكن الزعتر العنيد القادم من الجبال السورية لم يخمد له همة، ومن المستحيل تجاهل صوته العميق.. الأكاذيب والبهارات أخوة، لكن الكذبة شأنها كالبهارات لإضافة بعض النكهة وليس لطمس الحقيقى.

حكواتى الليل أصابه خرس وفقد صوته، اجتمع حوله أصدقاء سبعة يمثلون كل طوائف الشعب: الحداد - النجار - التاجر - الوزير السابق - والسجين الذى أمضى نصف عمره معتقلاً، وقرر الجميع البحث عن علاج لحكواتى الليل. الحوذى الفنان الذى كان يروى حكايات ممتعة بلا توقف للمسافرين فى الطريق الخطر بين دمشق وبيروت، يحكى كل واحد حكاية ليفتحوا شهيته للكلام مرة أخرى، يفشل الجميع رغم الحكايات الممتعة.

حتى تأتى فى النهاية زوجة الحداد فى زيارة نسائية غير مسبوقة لمجتمع الرجال لتحكى هى أمتع الحكايات التى ورثتها عن أمها «القابلة» التى ولدت نصف البلد وعاشت حرة، فى إشارة فنية لا فجاجة فيها لـ«شهرزاد» وألف ليلة.

نحن الواقعون تحت كابوس مما يحدث فى الشام والعراق، نحن الغارقون تحت جنون الصور البشعة التى تعيشها أجمل البلدان، وأغلى البلدان. علينا أن نبحث عن النجاة فى الفن الصافى الذى يقدم بعضاً منه أمثال رفيق شامى، لا أقول إنه يقاوم، فلا مقاومة إلا بالعمل والسلاح، ولكن هذا النوع الراقى الصافى من الفن، يمكننا من احتمال مرارة الأيام، ويحمى عيوننا من بشاعة رياح السموم.

حكواتى الليل - رفيق شامى. ترجمة رنا زحكا. رواية. منشورات الجمل 2011

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في جريدة المصري اليوم بتاريخ 8 نوفمبر 2014

الأربعاء، 5 نوفمبر 2014

أمواج خلف زجاج سميك






الكاتبة الأديبة: باسمة العنزى من الكويت تدخل عالم الرواية العربية بروايتها الجديدة القصيرة الممتازة
»حذاء أسود على الرصيف« (دار العين ـ القاهرة 2014)
فى مفاجأة فنية تحمل قدرا كبيرا من الجرأة والصدق والفهم الإنسانى العميق.

باسمة العنزى أديبة وصحفية تحرر رواية ثقافية أسبوعية فى صحيفة »الرأى الكويتية« بعنوان (لغة الأشياء) كما أصدرت
3 مجموعات قصصية ناجحة بعنوان:
 الأشياء، حياة صغيرة خالية من الأحداث، وأخيرا مجموعة بعنوان: يغلق الباب على ضجر.

فى قصصها الجديدة إتقان وإحكام وأسلوب مختصر منجز للمعني، ومحافظ على البناء الفني.


انتقالها إلى شكل الرواية القصيرة ـ التى اعتبرها أكثر الأشكال الأدبية الحديثة فنية وفعالية وتأثيرا ـ دليل على نضج فنى ورغبة فى نقل صورة حية صادقة لدولة الكويت الجديدة، ذات الخصوصية الاجتماعية المتغيرة الغنية:
 ليس بالمال والنفط فقط، ولكن بتراكيب اجتماعية وإنسانية وثقافية حية ومتغيرة:


باحثة عن معنى وعن هوية، وعن حلول إنسانية لواقع يجمع بين أعلى مراحل الرأسمالية، والتراكيب العائلية والقبلية، بالإضافة إلى خصوصية ارتفاع اعداد الوافدين (الوافدين أكثر من المواطنين) كذلك المشكل التابع:
مشكل »البدون« (الذين لا يحملون جنسية) كذلك أحياء الفقر والعشوائيات المجاورة لاحياء ناطحات السحاب الزجاجية، و»مولات« أغلى وأفخر البضائع والملابس والسيارات، وأخيرا وليس آخر القدر الذى يحمله هذا البلد الصغير من قضية العرب الأولى قضية فلسطين التى أعلنت عن خطورتها وجسامتها أثناء حماقة صدام حسين الأخيرة
(عددهم قبل الاحتلال 450 ألفا وعددهم الآن 45 ألفا).


»الوضع كله معقد لا يمكن فهمه« التعبير الفنى الحقيقى فى حاجة إلى فنان إنسان، صاحب بصر وبصيرة لا تحجبه الانتماءات السياسية والحزبية أو المادية، عن ضرورة البحث عن حلول إنسانية تقول باسمة العنزى فى روايتها الغنية بالروح الإنسانية:

»منهم من استطاع تأمين وظيفة له هنا.. الكل يتعاطف معهم لكونهم غير محددى الجنسية، رغم ذلك هنا حاجز لا مرئى بينهم وبين الآخرين ينفر ولا يجذب. يعرف بعضهم بعضا، فهم اما من شعبيات الصليبة أو تيماء، منهم أصدقاء طفولة قادهم القدر للخروج من تلال الخراب والعدمية لهضبة عالم الوظيفة فى المكان الحلم، تاركين البقية فى لجة اللاطمأنينة.


المكان الحلم هو عالم الرواية شركة الاتصالات العالمية الرأسمالية الضخمة ذات المبانى الزجاجية الثلاثة، والألف موظف والفروع المنتشرة فى انحاء العالم. المالك أبوطارق ابن قبيلة صيادى اللؤلؤ فروعها فى المال والسياسة وصاحب مزارع تربية الخيول مديرها فايز خريج الجامعات الأمريكية مدخن السيجار:»روميو وجيوليت«
 يرتدى الملابس التى تحمل توقيع أغلى الماركات صاحب الكاريزما التى لا تقاوم المدير القاسى الحازم الذى طارت إنسانيته مع دخان السيجار الفاخر والموسيقى الكلاسيكية التى تصبح فى أفخر السيارات حتى لا يرى فى النهاية جثمان الموظفة المفصولة التى غادرت الشركة يرى فقط «حذاء أسود قديم على الرصيف».


فى قلب تصاعد أحداث الرواية التى غزلتها الأديبة باسمة العنزى فى 21 فصلا قصيرا متسارعا يصل الخبر لصاحب المؤسسة العملاقة بان »الجوهرة« حصانه المحبوب قد أصيب بمرض مفاجيء أفقده البصر، يطير الرأسمالى الكبير بسيارته، عبر صحراء لم تعد صحراء لكى يبكى أيام حصانه، جوهرته الأصيلة التى لم تعد ترى وليدها وتتخبط فى الجدران


«مهدي» رجل الأمن الذى لا يحمل جنسية واقع حتى رأسه فى غرام خيالى مع نجمة المؤسسة «أمواج» مديرة التنمية البشرية أسطورة السحر والجمال والسيطرة والأنوثة، هو فى القاع وهى نجم لا يطال يرسل إلى بريدها الالكترونى تحت اسم «القرصان» صور أحلامه وألحان عذابه وسجى حياته.


أما صاحبة الصندل الأسود الفقير الذى لا تغيره طوال فصول السنة وفصول الرواية فهى «جهاد» فلسطينية لا تحمل أى جنسية، متزوجة من موظف مصرى مريض عذاب صامت وفقر مستتر وراء زجاج سميك.


الرواية القصيرة تحمل هموم الكويت، لا بل العالم العربي، والأديبة الإنسانية تقدم فنا أدبيا جديدا تكتبه بدقة واختصار وتؤكد ما أحلم به دائما من مستقبل للرواية القصيرة، فى عالم عربى يقرأ قليلا ويعيش أياما مشحونة بالألم والحلم والإمكانات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر فى الأهرام بتاريخ 5 نوفمبر 2014