السبت، 27 سبتمبر 2014

أبوالغار: أهمية أن تكون شريفا

      

            


«على هامش الرحلة» كتاب محمد أبوالغار:

 كتاب ظلمته الأحداث العنيفة المتدافعة التى صاحبت صدوره الأول (2003) وتصاعدت تغطى على صدوره الثانى (2011)،كأن هذه الملابسات تدعو صاحبه: العالم والسياسى والفنان إلى متابعة الرصد والكتابة، ومواصلة ذلك التعبير النقى الشفاف والصريح عن حالنا وحال الوطن.



الكتاب نوع من الالتزام الشريف بقول الحق، ومتابعة الصراحة، الحاجة إلى هذا تتزايد كل يوم.


 مثل هذا القول الحق والكلام الشريف الصريح نادر، لا يملكه إلا هؤلاء الذين يملكون تجرد أبوالغار وشجاعته المتواضعة المسؤولة.


العالم الطبيب يعمل العقل ويحلل الظواهر، والإنسان المتحضر الفنان، عاشق أسلوب توفيق الحكيم، ومتابع الفن التشكيلى المحلى والعالمى، وسامع كل حفلات أم كلثوم والعارف بالتراث الكلاسيكى للموسيقى الغربية والشرقية..


 وقبل هذا كله المتجرد من الانتهازية والأطماع والوصولية:
 يكلمك هذا الإنسان طوال صفحات الكتاب (327 صفحة) وكأنك صديق قريب، ورغم أنه يحكى لك تفاصيل حياته وحياة أسرته فإنك تجد نفسك فى النهاية أمام دراسة نادرة لصعود وتفكك الطبقة الوسطى، صورة أمينة لانتصار وانكسار ثورة يوليو، تراجيديا حال التعليم فى مصر، وكارثة الجامعة المصرية وما آلت إليه..



 تجزع وتخاف من تصويره المجرد لانتهازية النخبة، وتدنى الباحثين عن فتات الموائد ونفايات السلطة.


 تسأل نفسك كل لحظة: كيف عشنا طوال هذه السنين فى هذا المستنقع بلا هواء نظيف؟!

لا يتركك أبوالغار فى هذا السواد.

العلم، والإرادة والحب العميق للوطن وللناس تقدم له ولقارئه حبلا متينا من الأمل لا يغيب لحظة عن عينه وإدراكه.



يقول عنه الطيب صالح، الأديب السودانى الراحل، وهو صادق كاشف أمين فى مقدمة قصيرة للكتاب:


وجدته إنسانا متواضعا دمثا ودودا، يخفى تحت بساطته الظاهرة وابتسامته الحية علما غزيرا وعقلا حاد الذكاء وتجربة حياتية كبيرة.



 عالم أديب مستنير من طراز العلماء العرب المسلمين الأوائل..

 يحمل سمات رجال عصر التنوير الأوروبى.

ثم يقول الطيب صالح: هذا رجل مضىء، فمن أين له كل هذا الضوء؟!

                    

على الرغم من أننا لسنا أمام نص فنى أدبى فإن الكاتب قد اتخذ من الأسئلة الكاشفة طريقا لبناء وحدة كتابه الذى تقرؤه بقدر كبير من التشويق والمتعة المثيرة للتفكير والتأمل.


 بداية من حادثة خميس والبقرى

(أول حكم بالإعدام فى أعقاب ثورة يوليو) وكيف انقسم الناس بين مؤيد ومنافق وخائف وصامت، ثم تشكيل هيئة التحرير التى ضمت أسوأ الناس خلقا، وجمعت كل انتهازى وووصولى فارغ.


 ويذكرنا بترك الناس المسؤولية السياسية على عاتق عبدالناصر باختيارهم أو رغما عنهم، ثم تأجيل التفكير فى تحقيق الديمقراطية حتى يتحقق الرخاء ثم الاستقرار ثم الاستغناء عنها نهائياً.


يشير إلى احتلال تنظيمات الإخوان للفراغ الذى حدث بعد تفكك حزب الوفد وفقدانه أى وجود مع الناس. ثم الفشل المتتابع لتنظيمات الثورة، القومى والاشتراكى والطليعى. حتى شاع واستشرى مناخ يكره الديمقراطية والنقاش، لا يفكر ولكن ينصاع ويخضع لآلة الدعاية الجهنمية التى خلقت جيلاً دون أى اهتمام سياسى..


 أجيال من الانتهازيين الوصوليين تقودهم أنوفهم إلى رائحة السلطة.

                   

يحدثنا الكتاب عن تفاصيل العلاقة مع الغرب وكيف نستعمل كل وسائله، ويدعى البعض أن الله سخر مخترعاتهم لنصرة الإسلام وغير ذلك من خرافات بذيئة أطلقها ذلك الخلط الذى انطلق مدمرا الدنيا والدين معا.


يذكرنا الكتاب بمشاريع «السيدة الأولى» وكيف كانت تلقى مهرجانات من الأغنياء الجدد. ويتابع أمراض أموال النفط، والارتباك الطبقى والخلقى والاجتماعى الذى ترتب بعد انتصارات الشعب المجيدة فى أكتوبر. وكيف سكنت التبعية واقتصاد الريع وتوقف الإنتاج، وشلل التعليم والصحة فى ظل نمو الساحل الشمالى ومستوطنات الأغنياء.


 عرفنا الجامعات الخاصة الهادفة للربح فى اختراع مصرى جديد.

فكل الجامعات الخاصة فى العالم تهدف لتقديم تعليم أفضل بدعم أهلى غير هادف للربح.

بعد رصد مؤلم للحالة الاجتماعية والاقتصادية يقول فى الخاتمة:

 «نحن - المصريين - أمامنا معارك كبرى لتحديث الأمة والدفاع عنها أمام الهجمات البربرية، وهذا لن يكون إلا بالنظر للأمام والبحث فى علوم المستقبل وثقافة المستقبل حتى نخرج من هذا المستنقع الذى نعيش فيه».

                    

وسط هذا الخضم الهائل من مشاكل الوطن لا يحدثنا العالم الكبير الذى حقق فتوحات علمية فى مجال تخصصه عن نفسه إلا فى صفحات قليلة وبتواضع جم.


 فقد افتتح مركز أطفال الأنابيب مع

د. رجاء منصور ود. جمال أبوالسرور (1986) فى شقة صغيرة بالمعادى. وولدت الطفلة «هبة الله» أول طفلة أنابيب مصرية فى 7 يوليو (1987) بعد مداولات مطولة مع الأزهر والكنيسة. وانطلق الإنجاز العلمى مسلحاً بالشرف والتواضع والرغبة الصادقة فى الخدمة الإنسانية.



كما لا ينسى أن ينسب إلى نفسه بعض الدور فى حركة 9 مارس لاستقلال الجامعة، رغم أنه واحد من المؤسسين لهذه الحركة التى كانت ومازالت رافدا مهما من روافد الرفض والثورة والتصميم على التغيير.

على هامش الرحلة - محمد أبوالغار.
2003 - 2011 الهيئة. الشروق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في جريدة المصري اليوم بتاريخ 27 سبتمبر 2014

السبت، 20 سبتمبر 2014

التعذيب: الميراث الملعون

                   
                

تركنى كتاب «ذاكرة القهر» مع عدد من الأسئلة الثقيلة على الروح والعقل:
 أبسطها وأكثرها ثقلاً على القلب لماذايتحول الإنسان إلى كائن بشع، يمارس تعذيب إنسان مثله حتى يقترب من الموت فيتركه.. ليعود مرة أخرى ليكرر التعذيب نفسه مرة أخرى، ويستمر هذا الطقس الملعون مرة ومرات: ويطلق عليه «الحفلة» أو الاستقبال.

تقول مؤلفة الكتاب: بسمة عبدالعزيز «طبيبة نفسية، كاتبة وفنانة تشكيلية، ووجه حاضر فى الحياة العامة، السياسية، والحقوقية منذ ثورة 25 يناير وما قبلها».

 تقول فى الصفحات الأولى:
«بعيداً عن الغرائز الأولية التى جمعت منذ قديم الأزل بنى البشر والحيوان، هناك من السلوكيات والأفعال ما يقتصر ممارسته على الإنسان وحده:
 لا يكذب الحيوان مثلاً ولا يغش ولا ينافق، ولكن البشر يفعلون لا يقتتل الحيوان مع آخر عن رغبة خالصة فى الإيذاء، لكن البشر أحياناً يفعلون، لا يحتجز الكلب كلباً ويعذبه ولا يفعل الذئب أو الفهد هذا، كما لا تفعله الحشرات ولا الطيور. لكن بعض الأشخاص يعذبون أشخاصاً مثلهم متعمدين.

 هكذا يمكننا أن نرى بوضوح أن التعذيب- أحد أعنف السلوكيات وأقصاها دونية وعدواناً- فعل يتفرد به البشر تماماً، ولا يرى ما يتشابه معه من قريب أو بعيد لدى الكائنات الأخرى، هذا السلوك البشرى الخالص الذى يمارس على نطاق واسع منظم فتتبناه مجتمعات متقدمة متحضرة، وأخرى نامية متأخرة، والذى يترك فى ضحاياه آثاراً لا تنمحى بمرور الزمن، لهو بالفعل سلوك يستحق التوقف عنده ودراسته قبيل الإجابة عن السؤال المطروح:
 «ترى لماذا وكيف يفعل أى شخص بآخر مثل هذا الأمر المريع».
ثم يقدم الكتاب صفحات تفصيلية عن التاريخ البشع للظاهرة، فى العالم القديم حيث السحر والخرافة، ثم ينتقل مع الإنسان عبر تطوره مع مختلف الديانات، سماوية أو أرضية، لينتقل مع الأفكار والمبادئ: شرقية أو غربية، من سيبيريا وموسكو، إلى واشنطن وجوانتانامو، من أبوغريب إلى داعش ودمشق إلى العقرب والواحات قبل وبعد الربيع.

 ويسكن فى الصين وعند الخمير الحمر.
 يخترق التعذيب الفكر والعقل والدين وتتطور وسائله مع العولمة والتكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة!
تلك الصفحات المكتوبة بخبرة طبيب ممارس عايش الحالات الفردية ودرسها وتعامل معها.
 رسم صور الضحية والجلاد.

 فى مراكز التأهيل والدفاع «مركز النديم وغيره» وفى المصحات والمستشفيات العصبية حيث عملت مع ضحايا التعذيب والاضطهاد.


التاريخ القديم والحديث- هنا وفى أماكن ممتدة عبر خريطة العالم المتمدن- وضعت أمام ناظرى القارئ مرآة:
 من له عينان للنظر فلينظر!
ليس مجرد حالات فردية فتاريخ ما حدث لظاهرة التعذيب بشع: ولكن بالنظر إلى المجتمع الإنسانى ككل، إلى الحكومات التى تدعى الديمقراطية، وتفاخر بحقوق الإنسان والحريات والعدل والحقوق الدستورية.

تحت البدلة الأنيقة والثياب الغالية:
 جسد بشع شديد الكذب والقذارة!
تقول الكاتبة:
«رغم القوة والشراسة والجموح، رغم جروح وأوجاع البدن، احتفظ بعض من عاشوا ويلات التجربة بصفاء أرواحهم وصلابتها، تمكنوا من النجاة ومواصلة الحياة، وأحياناً المعركة. آثر آخرون الانسحاب وأغلقوا من حولهم الأبواب كلها.
 محاولين رأب الصدوع التى أصابتهم وزلزلت حيواتهم، وأحالت عالمهم المتماسك إلى أنقاض».

هذا عن الضحية فماذا عن الجلاد؟!
 من هو الجلاد:
 المعذب المباشر الذى يمسك الكرباج وجهاز الكهرباء أم الرئيس المباشر الذى يصدر الأمر، ويشرب القهوة فى المكتب:
أم أن المسؤول هو رأس النظام والمسؤول السياسى الكبير الذى يسمح بوجود هذا، وهو عالم وساكت أو متغافل منكر لوجود مثل هذه الأفعال الشائنة.

الكذب وأفكار وجود التعذيب فى الأقسام والمعتقلات جريمة أبشع، لأنها تعلن القصدية والتعمد ونية الاستمرار.

تقول الباحثة قرب نهاية الصفحات القاسية الدامية:
«يبرز اللجوء إلى التعذيب فشلاً سياسياً، وعجزاً عن القيادة كما يكرس غياب الشرعية عن الأنظمة التى تمارسه، عندما يصبح الاعتراض على النظام خطأ يستوجب العقاب فإن شيئاً من انهيار الثقة يصيب المواطنين، يتبعه استسلام وشعور بالفشل والعجز. 
ولكن التاريخ لا يعرف نظاماً قمعياً دام أو استقر».

تنص المادة «55» من الدستور المصرى المستفتى عليه فى مطلع عام 2014
«كل من يقبض عليه أو يحبس أو تقيد حريته تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامته، ولا يجوز تعذيبه ولا ترهيبه ولا إكراهه، ولا إيذاؤه بدنياً أو معنوياً، ولا يكون حجزه أو حبسه إلا فى أماكن مخصصة لذلك، لائقة إنسانياً وصحياً، ومخالفة شىء من ذلك جريمة يعاقب مرتكبها وفقاً للقانون».

كثيرون بحثوا عن القانون، ولم يجدوا إلا ثغرات، وأفكاراً وتستراً، طريق مصر إلى التقدم والحرية، طريق إسقاط أقنعة الأنظمة القديمة البشعة، يمر أولاً بالاعتراف بالواقع والعمل المتصل على تغييره. تقول الطبيبة الدارسة الفنانة فى إهداء كتابها:
إلى هؤلاء الذين سحقت أبدانهم واقتنصت أرواحهم بأيدى الجلادين.. إلى ندماء الطريق المقاومين الصامدين.. عل الغد يأتينا بريح نشتهيها.

ذاكرة القهر- بسمة عبدالعزيز
- دار التنوير- القاهرة 2014

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر بجريدة المصري اليوم بتاريخ 20 سبتمبر 2014

السبت، 13 سبتمبر 2014

عن حسن البنا.. ودرية شفيق

             
                

هشام الخشن: مهندس مدنى من مواليد القاهرة 1963.انضم أخيراً إلى عالم الرواية بعد عدد من الأعمال الأدبية التى وجدت مساحات فى اهتمام القارئ وأجهزة الإعلام.

 كانت البداية مجموعة قصص 2010، بعنوان
 «حكايات مصرية جدا»، أوضحت شغف الكاتب بالتعبير بالكلمات وقدرته على تخطيط الأعمال وبناء تفاصيلها بموهبة مهندس دقيق.


 فى 2011(!) ذلك العام المشهود، أخرج هشام الخشن عملين: «وراء الأبواب» الذى يقول إنه تم إنتاجه كمسلسل تليفزيونى، ثم «7 أيام فى التحرير» الذى يقول عنه أيضا إنه يتم إنتاجه كمسلسل.

 بقى له عملان «آدم المصرى» رواية 2012. وفى عام 2013 مجموعة قصصية بعنوان «دويتو».

على ماذا يدل هذا الإنتاج الغزير المتدفق؟
الكاتب تخطى مرحلة الشباب المبكر، وهو كما يبدو صاحب خبرة فى الحياة والسفر، وعلى قدر واضح من الاطلاع على مجالات الثقافة والفن.

 كما يبدو لى أن دراسته الهندسية قد مكنته من موهبة التصميم، والتخطيط والبناء.

 كما يبدو - والله أعلم - أنه قد أصيب بذلك الفيروس النادر، الذى يصيب الكتاب الآن فيحول نظرهم وفكرهم إلى السينما والتليفزيون.

 فى سنوات قديمة أفادت السينما الأدب فى بعض الأساليب والحيل فى أسلوب الكتابة، والتقطيع، والعودة إلى الماضى. أما الآن فإن السينما والمسلسلات التليفزيونية تخطف عين الأدباء عن بناء الشخصية من الداخل، وعن التأمل والتفكير داخل العمل الفنى.

عن كتابة روح الشخصيات والأماكن:
 عن إقامة علاقة مع القارئ، وليس مجرد إخباره بالأحداث والوقائع.

لا أريد أن أستطرد فى هذا الشعور الذى أصبحت وأصبح غيرى يلاحظه فى الإنتاج الغزير، الذى يتدفق، ويكاد يحجب «صورة الأدب» الذى يتوارى خلف سطوة الأجهزة الجديدة. خاصة رعب المسلسلات التليفزيون سلطان العصر وجحيمه!!

***
الاعتذار واجب للرواية السهلة والجميلة التى قدمها هذا العام هشام الخشن بعنوان «جرافيت». والتى أعتقد أن أى متابع عادى للصحف أو لقنوات التليفزيون قد سمع عنها أو قرأ تقديما لها.
 فالرواية والكاتب يسيران فى طريق نجوم الأدب الجدد الذين تصاحبهم حملات دعائية غير مسبوقة.
جرافيت: رواية تختار أهم مشكلتين فى الواقع الراهن:
الإخوان والمرأة.
وبالأسماء: الرواية تتحدث عن:
 درية شفيق، زعيمة الحركة النسائية بعد هدى شعراوى.
 وحسن البنا مباشرة من الإسماعيلية حتى القاهرة.
حول هذين «العملين» عدد غير قليل من الشخصيات الواقعية التاريخية، وعدد غير قليل أيضا من الشخصيات التى رسمها خيال الكاتب من المصريين والأجانب، فى القاهرة وباريس وضفرها فى مهارة كشعر صبية حسناء.

أظنك تعرف أن الجرافيت معدن فحمى حديدى تصنع منه مادة الكتابة فى أقلام الرصاص.
 بطلة الرواية «نوال عارف» زميلة درية شفيق فى البعثة المصرية، التى خرجت من مصر، مكونة من 12 فتاة للدراسة الجامعية فى لندن وباريس سنة - 1928.

 فى نفس هذا العام حسم حسن البنا أمره وقرر بناء جماعته، على أن تتجاوز الفرق الإسلامية الموجودة، وأن تمد الجسور بين «السلفية والصوفية» وأرسى أسس السمع والطاعة.
ويقول التاجر الكبير الوطنى الذى لعب دورا كبيرا فى ثورة 19 لابنه الأستاذ حلمى المدرس، وزميل حسن البنا، الذى انضم مؤخراً للإخوان، ويطلب من والده الحاج الأهوانى التبرع لجامع يبنيه حسن البنا فى الإسماعيلية: يقول الحاج الأهوانى لابنه:
«حين تعرف يا حلمى عن أبيك دوره الوطنى، فأنت أكيد يا أستاذ لا تتجرأ وتطلب منى أن أتبرع لما يتبرع له الإنجليز.

 اذهب يا حلمى لحسن البنا أفندى، واسأله لماذا أخذ من البارون (دى بنو) خمسمائة جنيه وتحت أى بند؟
 إلا طبعاً لو رئيس شركة القناة يبتغى وجه الله الكريم وينوى أن يصلى معكم كل جمعة».

ترصد الرواية بعد ذلك تخزين الجماعة لصناديق المتفجرات المكتوب عليها اسم القوات البريطانية، كما يرسم صورة قديمة لتدمير الجماعة، عن طريق التفجيرات الإرهابية، النسيج الاجتماعى المصرى النادر، الذى يضم كل الأديان وكل الطبقات.
اختار الكاتب أن تتحرك كل شخصيات روايته المزدحمة والمحتشدة بالموضوعات والمشاكل والدلالات، مجال الطبقة المتوسطة، وهى فى مصر منبع ومصب الحراك الفكرى والاجتماعى. كما أن الجديد والممتع هو حضور الأجانب الذين استوطنوا مصر ودخلوا فى نسيجها الاجتماعى من يونان وطليان وأرمن، كما رصد الحضور اليهودى القديم الذى عاش فى أسواق البورصة والتجارة المصرية قبل ظهور السرطان الصهيونى فى فلسطين.

تكاد نوال عارف، بطلة الرواية، أن تكون الشخصية التى حظيت من المؤلف بعناية فى رسم مشاعرها وأفكارها وهواجسها من أول نداء جدتها المتكرر عليها:
 خارجة من غير يشمك يا نوال!
 الصيحة التى لا تجد ردا.
 والتى تعتبر الرواية كلها رداً عليها.

كذلك إصرار نوال عارف على استعمال القلم الرصاص فى الرسم بالأبيض والأسود فقط.
 رغم نداء صديقها الفنان الفرنسى عليها فى نداء مكتوب على رسالة الوداع: يحق لك أن تشتهى ألوان الحياة
لا تغزلى من خلالها قيودك
لا تضع نوال الألوان فى لوحاتها إلاّ بعد أن تسير فى مسيرة المرأة التى دخلت إلى البرلمان لتطلب المساواة بالرجل وبعد أن تحصل على الطلاق من الزوج الذى قهرها بفساده وتسلطه.

فى نهاية الرواية يقول الكاتب المهندس هشام الخشن إن الحياة قصة قصيرة فكيف يطيل الكاتب الحديث.
 ويلحق هذا بصفحتين يطلق عليهما «خواتيم» يورد فيهما نهاية أبطاله، منها سطور فاجعة عن درية شفيق: أختم بها كلمتى هذه التى أظنها ظلمت رواية جميلة ممتعة: «استمرت درية شفيق فى قيادتها وكفاحها من أجل حقوق المرأة المصرية.

فى عام 1954 وعقب احتجاجها على عدم ضم أى امرأة إلى لجنة دستور مصر، وعدها الرئيس محمد نجيب بتعديل الوضع، ولم يف بوعده.
 فى عام 1957 قام جمال عبدالناصر بوضعها تحت الإقامة الجبرية بمنزلها، نتيجة خطاب أرسلته للأمم المتحدة، تندد بالديكتاتورية فى مصر.

 استمر تحديد إقامتها ثلاث سنوات، وبعدها استمرت درية شفيق فى عزلتها شبه التامة، إلى أن توفيت 1975، إثر سقوطها من شرفة منزلها بالزمالك.


جرافيت (رواية) هشام الخشن
- الدار العربية للكتاب - القاهرة 2014

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر في جريدة المصري اليوم بتاريخ 13 سبتمبر 2014

السبت، 6 سبتمبر 2014

«أمكنة».. فن تحقيق المستحيل

            
            

صدر العدد الجديد من المجلة الفريدة «أمكنة» يحمل رقم الكتاب 11: له عنوان «مسارات الثورة -1-».
 هو فى الحقيقة أكثر من مجلة، وأشمل من كتاب.
 هو عمل فنى وفكرى وسياسى من الطراز الأول.

لا تكف الإسكندرية عن إثارة الدهشة، لا تتوقف عن تقديم أعمال وأفكار وبشر تجعلنا نشعر بالحرج والذنب والتقصير تجاهها!
«أمكنة» مثلا مجلة فريدة تصدر منذ أكثر من عشر سنوات دون دعم أو مساندة من أحد: لا حكومة ولا أهالى.
 علاء خالد وسلوى رشاد ومعهما عدد قليل من الأصدقاء
- شعراء ومصورون يقدمون للوطن وللناس جهدا فكريا وفنيا نادرا، دون انحياز إلى حزب أو جماعة أو فكر جامد، قدموا حتى الآن -11- عددا كل منها وثيقة فريدة فى موضوعه
 (الحدود، الأحياء، الجامعة.. وغيره).

 الكلمة والصورة فى هذه المجلة تحققان وجودا مختلفا عما تعودناه، وتتمسكان بقيم فكرية وفنية تكاد تندثر: النور، والشرف والإتفان.
إن الدعم الحقيقى المطلوب هو من القارئ.
 المواطن الواعى الشريف المهتم بالتفكير فى قضايا الوطن ومشاكله، بعيداً عن السطحية، والمصالح - وللأسف: غوغانية الإعلام، هذا الكتاب يتيح لقارئه (أكثر من 33 موضوعا فى أكثر من 400 صفحة وعدد يفوق الـ150 صورة)
يتيح للقارئ فرصة إعادة التفكير واسترجاع ومناقشة ما حدث منذ 25 يناير 2011.

مناقشة «الثورة»: ما حدث له نفسه وللبلد وللآخرين من حوله. يرصد تفاصيل الأحداث حتى فجر 30 يونيو، التى أظن أنها ستكون موضوع مسارات الثورة -2- الذى أرجو ألا يتأخر.
فقد توقفت «أمكنة» عن الصدور خلال كل هذه السنوات العاصفة الثلاث.
لنتوقف عن العموميات والإعجاب المرسل ولندخل قدر المستطاع فى تفاصيل العدد:
 الذى أدعو كل بيت وطنى.. للاحتفاظ بنسخة منه.
يكفى أن يكون عندك: صور نادرة الجمال لأغلب الشهداء:
عماد عفت، ومينا دانيال، وجيكا، وخالد سعيد، وما فى وجوه الثورة أحياء وشهداء، وصور للميدان، والمظاهرات والمسيرات ولكوبرى قصر النيل، صور فى الحقيقة: لزمن الثورة، ورائحتها، والمذاق الفريد الذى سيظل خالدا لتلك الأيام:
 صور من القاهرة والسويس ومن الصعيد:
 للمصلين والكنائس ولوجوه الناس والشرطة والمبانى المحترقة، وللأطفال وللأحجار التى تسد الشوارع، وللنعوش المحمولة على الأعناق، ها قد عدنا إلى العموميات: عذرى أننى أمام نبع فياض من الذكريات الحارقة الجميلة!!

فى افتتاحية فكرية دقيقة كتبها علاء خالد، وليسمح لى أن أقتبس فقرات: «الثورة والتحولات فى يناير 2011 ويونيو 2013 كانت بشكل ما لها وجهها الاجتماعى الفعال الذى لا يمكن تجاهله، كونها تأسست على الكثافة البشرية والحضور البشرى بكل أشكاله وتجلياته فى التغيير والضغط، وكذلك فى فتح تلك المساحات الشخصية والجماعية لتتعرف الطبقات على بعضها البعض وجها لوجه، وتحت مظلة واحدة، وتنبنى بينها الروابط. وربما كنا نحتاج لوقت أطول».
المقدمة مهمة ومليئة بالأفكار الجديدة والمضيئة:
 ثم يستمر علاء لكى يقدم حوارات نادرة الكشف والذكاء!
 مع عدد من: الإخوان من الأقاليم، وآخرين من أبطال المقاومة فى السويس وبورسعيد، من حى الأربعين ومع أدباء بورسعيد.
حوارات مع فتيات شاركن فى الثورة تحت عنوان
(الحب فى زمن الثورة). وحوارات مع أقطاب الألتراس:
 الأهلى والزمالك حول مأساة بورسعيد وغيرها.
لكى تنتهى الحوارات التى امتدت مع الصور إلى أكثر من 200 صفحة لكى تبدأ مقالات مختارة تحت عنوان مسارات الثورة:
 تبدأ بتحقيق فكرى ونفسى نادر العذوبة بقلم مجاهد الطيب بعنوان مع «الكثرة المندسة» ثم مقالات نادرة عن التواجد القبطى فى أحداث الثورة وتغطية لأحداث محمد محمود وماسبيرو، وأزمات الكنائس فى الصعيد.
مقال كاشف ومهم من سيناء كتبه أشرف العنانى:
بعنوان «ثائر وقاطع طريق».
يقدم صورة مقربة للوضع فى سيناء، وخصوصية الأحداث هناك خاصة «فى الشيخ زويد» تقدم الفنانة الطبيبة بسمة عبدالعزيز مقالا شاعريا «عن نبات الصبار وأناقة اللوتس»، كما يكتب الأستاذ عادل أسعد الميرى مقالا موجعا بعنوان
«الخروج من الجحور»، عن الاشتراك القبطى وأحداث الكنائس.
 كذلك تكتب وتصور «رينا أفندى» وثيقة مهمة بعنوان «نحن هنا» أيضا عن الوضع المسيحى.
كذلك كتبت زائرة إيرانية تواجدت هى وزوجها فى الجامعة الأمريكية طوال أيام الثورة «السيدة إيمى مطلق» صورة شديدة الوضوح والجمال لإيقاع أيام الثورة ووقعها على المواطنين والأجانب فى الداخل والخارج.
يقدم العدد بعد ذلك تقريرين فى غاية الأهمية والجمال، الأول كتبته الأستاذة «أمل إدريس» عن ثورة الطلبة فى كندا تحت عنوان «مربع أحمر»، الثورة التى قامت واستمرت ضد رفع مصاريف الجامعة وانتهت بانتصار كامل وتحقيق جميع مطالب الطلبة، وتراجع الحكومة بعد أن كشفت الثورة زيف الديمقراطية الغربية، وما تخفيه تحتها من ظلم وغياب كامل لمفهوم العدالة الاجتماعية والمساواة.
أما الثانى فهو تحقيق أدبى وصحفى بعنوان «صيف الحب» كتبه «راكب موتوسيكل» فى وقت سقوط وتفكك الكتلة الشرقية والاتحاد السوفيتى وجدار برلين، تحقيق مهم وشديد الحساسية والدلالة.
وكما يقول هذا الشاعر راكب الدراجة البخارية:
 إنك تشعر وكأنك تعود من زيارة مريض فى المستشفى.. خليط من مشاعر القلق والفرح تحت مظلة ذكريات الألم باقية.
يبعث راكب الدراجة البخارية بعد زيارته الكاشفة الممتعة برسائل: أخذها من الرئيس التشيكى المفكر والفنان براتسلاف هافيل: أقتبس منها خاتمة لهذه الكلمات التى طالت:
«فى نهاية المطاف: فإن طموحات أى مصلح عظيم تعتمد على الموارد الداخلية لشعبه، ومن السذاجة تصور أنه متى أمكن تدبر المال أو النظام فإن الأحوال يمكن ترتيبها بشكل صحيح وستزدهر!
أتكلم عنا جميعا «لقد اعتدنا على النظام الاستبدادى وقبلنا به حقيقة لا تقبل التغيير، وقد ساعد هذا على استمراره.
نحن جميعا - بدرجات مختلفة - مسؤولون عن عمل الآلية الاستبدادية لا أحد منا مجرد ضحية لها، بل مشاركون فى صنعها!
إن أفضل حكومة، وأفضل برلمان، وأفضل رئيس سيخفق فى إنجاز المرجو من تلقاء نفسه.
 الديمقراطية والحرية تقومان أساسا على المشاركة وتحمل المسؤولية بيننا جميعا.
 إذا أدركنا هذا يمكن أن يعود الأمل إلى قلوبنا.
يمكن أن تشع بلادنا بالمحبة والتفاهم وقوة الروح والفكر إلى الأبد، السياسة هى رغبة فى سعادة المجتمع.
 السياسة ليست فقط فن الممكن بل يجب أن تكون فن محاولة تحقيق المستحيل. 
فن تطوير بلادنا.. والعالم.
وفى انتظار «أمكنة 12» مسارات الثورة -2- نبقى نحاول معاً الحلم بتحقيق المستحيل.


مجلة أمكنة - كتاب غير دورى
- علاء خالد: سلوى رشاد.
 الإسكندرية يوليو 2014.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 6 سبتمبر 2014