السبت، 30 أغسطس 2014

الجنة جزيرة.. والجحيم أيضاً

               
                 



نادراً ما يقع الإنسان فى عشق كتاب حتى قبل أن يقرأه.
 رأيت هذا يحدث مع اللباد الكبير، عليه رحمة الله، رأيت الفنان صانع الكتب وهو يتحسس بعض الكتب بأصابعه فى دهشة واستمتاع كأنه يتودد إلى غادة جميلة.

 حدث لى هذا «رغم الشيخوخة» مع كتاب «الجزر النائية».
المؤلفة «يوديت شالانسكى» مواليد برلين «الشرقية سابقاً» 1980 أديبة وفنانة وأستاذة طباعة وإعلام:
 الآن لها كتاب بعنوان: كسور حبى عن عشقها للحروف وفن الطباعة «صدر 2006» وقد وضع اسمها فى صدر قوائم الجوائز فى أغلب معارض الكتب فى أوروبا، وبعده بثلاث سنوات فى 2009 أصدرت تحفتها التى بين أيدينا:
 أطلس الجزر النائية.. خمسون جزيرة لم أزرها قط ولن أذهب إليها أبداً.

 قالت جريدة الجارديان بعد أن ترجم الكتاب إلى الإنجليزية «شىء رائع بحق» أما موقع الناشيونال جيوجرافيك فقد قال: «عشقت هذا الكتاب» وأخيراً قالت «التايم»:
 «كتاب فى غاية الجمال يجمع بين الشاعرية فى سرد القصص والهوس فى رسم الخرائط».
بعد «الأطلس» الذى يعنى باللاتينية: «مسرح العالم» انشغلت «شالانسكى» بكتابة الروايات.
 أصدرت رواية «الأزرق لا يناسبك» ورواية «عنق الزرافة» 2011، قامت بترجمة وإصدار هذه التحفة إلى العربية دار بلومز برى البريطانية والتى تعمل فى دولة قطر!.
 وقام بالترجمة الصعبة إلى العربية عبداللطيف أغساين!
جلست الفتاة الصغيرة على الأرض فى غرفة الصالون فى بيت والديها الكائن فى برلين الشرقية خلف ما كان يسمى الستار الحديدى حيث لا سفر ولا معلومات عن شىء سوى ما يسمح به الحزب الشيوعى، وأجهزة المخابرات، كان بين يديها أطلس للعالم.. كل العالم.. وكانت تسافر بأصابعها وهى تتحسس الخرائط. لكى تتوقف عند النقط الصغيرة الفارقة فى مساحات البحار الزرقاء.

 كان فى مكتبة والدها عدد من الأطالس
«قلنا إن أصل الكلمة اللاتينى يعنى: مسرح العالم»
 وكانت الفتاة يوديت شالانسكى تكره الأطالس السياسية التى ترسم الحدود بين الدول حيث إن الأطلس الذى بين يديها كان لا يذكر وطنها «ألمانيا الشرقية» بل كان يشير إليه بحروف تعنى: منطقة الاحتلال السوفيتى.

 كانت تحب أطالس، التضاريس الجغرافية حيث ألوان السهول والوديان وألوان الجبال.. والجليد.. خاصة البحار حيث درجات اللون الأزرق الذى يشير إلى الأعماق وإلى البعد أو القرب من اليابسة.

 عادت تأسر خيالها تلك النقط الصغيرة المنثورة فى المساحات الزرقاء.
 وهل هى بعيدة أم قريبة!
 بعيدة عن ماذا.. وقريبة إلى ماذا؟
.. وكيف الذهاب إلى هناك. وهل يعود من يذهب، أم يبقى هناك؟
.. وما الذى يوجد هناك؟
.. هل ما يوجد هناك هو ما يوجد هنا؟
.. ألا يوجد حتى هناك- حياة أفضل من هذه الحياة؟
كان من الضرورى أن تمر بها السنون وأن توغل فى السير وراء هذه الأحلام والأفكار.

كما كان من حظها أن تتغير الظروف وأن يسقط الستار الحديدى الذى لم تكن قد شاهدته، وأن يسقط جدار برلين.
 وأن تصبح ألمانيا كلها بما فيها من كتب ومكتبات وجامعات، فى متناول أحلام الفتاة التى ظلت تكبر حتى تجسدها فى إنتاجها الفنى الجميل قبل أن تبلغ الثلاثين بعام واحد.
الجزيرة فى الفكر والأدب هى حلم الجنة والمدينة الفاضلة وهى أيضاً المنفى والسجن وكذلك وجدتها، علمتها الجزر أن الخيال واقع.. وأن هذا الواقع خيال عندما تكون منفصلاً بعيداً.
السؤال المحير الذى يظل بلا إجابة:
 رغم التاريخ والأسفار والأحلام والفلسفة والعلم:
 هل يوجد فى مكان ما حياة أفضل من تلك التى نحياها..
 أين.. وكيف الوصول إلى هناك؟
درست الكاتبة تاريخ وتضاريس وكل المعلومات عن الأجناس والقبائل والسلالات المنقرضة التى عاشت وتعيش على خمسين جزيرة، كما درست رحلات المستكشفين والقراصنة والسفن الغارقة، والرحلات المفقودة.

فى بعض هذه الجزر لا يوجد سوى نفايات، وعلب المشروبات واللبان الأمريكى وفى البعض الآخر آثار تفجيرات ذرية وهيدروجينية سرية لم يعلن عنها.

تفجير هيدروجينى سرى قامت به فرنسا سنة 1966 إلى 1969 فى جزيرة فانجاتادفا، جزيرة تقع فى المحيط الهادى مساحتها 5 كيلو مترات مربعة اكتشفها المستكشف فردريك وليام بيتشو فى فبراير عام 1826 وهى غير مسكونة، وتقع على بعد 4410 كيلو من نيوزيلاند.
 وأقرب الجزر إليها جزيرة رابا أبيى «على بعد 810 كيلو» بعيداً عن أنظار العالم قررت فرنسا إجراء أول تجربة هيدروجينية هناك، وزعوا على كل الجزر المجاورة!.. نظارات واقية وأجريت التجربة البشعة فى تمام الساعة 19.30 بتوقيت باريس فى يوم 24 أغسطس 1968.
 بلغت قوة التفجير 2.6 ميجا طن: أقوى من قنبلة ذرية من مائة إلى ألف مرة.
 تم إخلاء المنطقة بسبب التلوث الإشعاعى وظل المنع سارياً لمدة 6 سنوات.
بهذه الدقة وبكل تلك التفاصيل تحكى المؤلفة حكاية واقع وماضى وحاضر خمسين جزيرة نائية لم تسمع عنها بالتأكيد من قبل..
وكما تقول المؤلفة لم ولن تذهب إليها إلا إذا كنت مستكشفاً عصرياً جديداً، أو مجنوناً جميلاً!

لكل جزيرة صفحتان: صفحة رسم لخريطة مرسومة بدقة وذوق وتلوين تعبيرى بديع يطلق الخيال ويمسك بأهداب الواقع.
 وفى الصفحة المقابلة كتابة مشحونة بديعة تجمع بين دقة البحث واسترسال الخيال، وشاعرية الأسلوب مهما كانت بشاعة أو جمال الموضوع أو غرابته. من هنا خرجت كتب
«ألف ليلة وكتب الأساطير»، وروايات روبنسن كروزو، وابن طفيل وحكايات جزر الكنز كما خرجت خيالات المدن الفاضلة ونهايات العالم.

لذلك قالت فى مقدمتها الأدبية الرائعة إن الجنة جزيرة وكذلك الجحيم، فكما أن هناك جزراً عاشت أنواعاً من الحرية والمساواة، والتحرر البرىء الفطرى الذى سبق الشعور بالدنس والخطيئة. كذلك توجد جزر تعيش أبشع أنواع الاستغلال الإنسانى والجنسى والشذوذ، وجزر لا يعيش فيها إلا المساجين والسفاحون وأكلة لحوم البشر ومغتصبو الأطفال. وجامعو أغرب وأبشع أنواع الأمراض والسلوك.
كما أن هناك جزراً فيها: لا شىء.. لا شىء.. كم هو جميل هذا «اللاشىء»، تقول المؤلفة فى المقدمة:
«دون الملازم شارلز ويلكز فى تقارير البعثة الاستكشافية: لا شىء أبداً على جزيرة ماكوارى يغرى بزيارتها. وقال النقيب جايمس دوجلاس إن هذه الجزيرة مكان مثير للشفقة، وهى أقسى منفى قسرى وعبودى قد يخطر على بال إنسان، مجرد منظر جزيرة كامبيل أحزن الرحالة جورج بانينج وقال عن جزيرة: سوكورو:
كانت تبدو موحشة حقاً ذكرتنى حالتها بكومة تبن احترق نصفها وأطفأتها الأمطار، ولم يعد لديها القدرة على الاشتعال من جديد فانتهت وكأنها فى بقعة مداد تستريح.
تقول المؤلفة إن المستكشف بعد أن يسجل اكتشافه ويطلق اسماً على المكان ويسرد تفاصيله فإنه يشعر وكأنه لم يجده، ولكنه أوجده.

 فى صفحة نادرة تسرد المؤلفة تفاصيل وفاة نابليون على جزيرة سانت هيلنا أو الصخرة السوداء، وتسرد تفاصيل تجهيز الإمبراطور المتوفى لكى ينقل جثمانه إلى باريس:
 43 رجلاً حملوا التابوت، ورفعوه على عربة يغطيها قماش بنفسجى مطرز بنجم ذهبى وحرف نون كبير..
بعد ثلاثة أيام فى 18 أكتوبر 1840 سحبت المراسى، وعاد الإمبراطور إلى دياره.
الكتاب زاخر بالقصص والحكايات، أحب أن أستعيدها كلها معك: ليتك تستطيع أن تحتفظ بأى طبعة للكتاب فى البيت ليقرأه الصغار والكبار وكل عاشق للسفر أو اللاسفر وللكتابة والرسم والخيال.
لا أجد كلمات كافية لكى أشكر سيف سلماوى الذى أهدانى هذا الكتاب.

أطلس الجزر النائية. يوديت شالانسكى.
 ترجمة عبداللطيف أغساين. بلومزبرى 2013

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المصر اليوم بتاريخ 30 أغسطس 2014

الأربعاء، 27 أغسطس 2014

ابن الزمن الآتى..



                   

الكاتب والشاعر أشرف الصباغ يمارس الشعر والقصة والصحافة منذ سنوات وهو فى «موسكو»، أو كما يقول هو
«مقيم على الحدود» بين هنا وهناك .

الرواية الجديدة تحمل عنوانا مثيرا«رياح يناير دار العين 2014»
وهى عمل مثير للتأمل والتفكير:
 فى موضوعها الذى هو ثورة يناير الأولى (ثورة الخبز) وما أطلق عليه إعلان السادات انتفاضة الحرامية. 

يقول الصباغ:
 .. ما يحدث الآن فى محطة مصر، أو فى محجر بمرسى مطروح أو فى بار أو مقهى للمثقفين فى وسط القاهرة، شكل من أشكال الحركة تصنعه أجسام تترك وراءها خطوطا فى الزمن الافتراضي.. ويحاول منصور حمزة أن يمسك لسانه فى النقاش مع عثمان فارس حول مصطلح المثقف العضوى وهل «جرامشي» أول من أطلق المصطلح أم أنالمصطلح موجود من قبله.. بعد عشر سنوات ـ فى نهاية الثمانينيات أو بعد عشرين عاما فى نهاية التسعينيات ستتغير الأماكن قليلا وستبدل المواقف كثيرا.. ستحدث أزمات لايعرفها منصور حمزة، ولايعرفها أى من الجالسين الآن خلف الموائد والكئوس ودخان السجائر الكثيف، سواء فى «الكونكورد» أو عند «عم مصطفي» أو حتى فى مقار الأحزاب العلنية أو السرية ستبقى فقط بعض النصوص المهمة التى كتبت وسيموت أصحابها بعد ذلك بسنوات لأسباب مختلفة أو يسافرون إلى الخارج، ولكنهم الآن مازالوا بيننا رغم عدم معرفتنا تماما بهم، أو معرفتهم هم بأنفسهم، فى مساء 17 يناير.. الذى استمر إلى ما بعد ظهر اليوم التالي.. ظهر الانتفاضة التاريخية لملايين البشر التى هبت من أجل رغيف خبز، واتضح انها «انتفاضة حرامية»!

وحتى وسائل اعلام السادات لم تدرك مدى غبائها التاريخى فى وصف ملايين المصريين بـ «الحرامية»، ولم تسأل نفسها السؤال البسيط:
هل يعقل أن يصبح شعب بأكمله بين ليلة وضحاها لصوصا؟
ومن الذى حوله فجأة من شعب انتصر فى معركة منذ سنوات إلى شعب من اللصوص والحرامية؟ وكيف تم ذلك؟!

لعلك أحسست من هذا المقتطف الطويل الذى صدمتك به مدى حيرتى وإعجابى بهذا النص الفنى المحتشد بالافكار، والذى يملك صاحبه قدرات فى الخيال الفنى وفى الأسلوب الشعرى والسردي..
« لمحت فى عينيه نظرة ليست بالجريحة أو القاسية، ولكنها تقع فى المساحة بينهما، حيث الرغبة فى تدمير العالم وتدمير النفس والقضاء بشكل نهائى على الذات، وربما العكس، وطبعت قبلة خفيفة على خدى ثم همست..
 ـ لا تغب عنى طويلا، أنا فى حاجة إليك..

مرة أخرى أهرب من أن اتحدث انا واستشهد بالكاتب لكى يكون هو شاهدا على نفسه: حتى أصل إلى ما أقصد وهو أن الرواية عالم غنى يفيض بالمعانى والامكانات ولكنك تخرج منه فى النهاية (175 صفحة) وأن تقول :

 أليس من واجب الكاتب أن يعيد ترتيب البيت؟
 تسأل نفسك وتسأله لو أنه قريب:
أين يقع البناء فى أولويات العمل الفني؟
وما هى وظيفة: الشكل؟ بالمعنى الكلاسيكى أو بالمعنى الحديث!


أنا بالطبع لا أسأل عن المغزى «والمقصد» والفلسفة؟
ولكنى اسأل أليس على الفنان ان يطمئن أن هناك رسالة وصلت؟
 طبعا لا اريد ان يحرمنى ويحرمك هذا الكلام النظرى من الاستمتاع بالصورة القلمية النادرة التى رسمها الفنان لاحياء القاهرة الشعبية الفقيرة، و«البشير» طفل الشوارع الذى يطارده البوليس والمخبرون وكأنهم يطاردون «عصابة مافايا» ولا صور المقابر التى تعيش فيها السيدة «زلابية» حرامية الفراخ التائبة النبيلة التى تبيع سلسلتها الذهبية (المزيفة) لكى تشترى كفنا لصديق زوجها، ولا ماسح الاحذية الفارس الذى يسرق احذية السكارى لكى يكمل ثمن الكفن، الذى تم الاستغناء عنه بشهامة جيران الميت التى لاتخيب ابدا. المحجر فى مرسى مطروح وقطار الدرجة الثالثة القشاش اماكن خرافية الجمال موحية بخروج إلى عالم جديد شيق تلامسه الرواية ملامسة سحرية ولكنها تنصرف عنه وكأن شيطان الشعر اوربات الفن الساحرات يطاردن الكاتب ويحرمنى القارئ من الاستمتاع الكامل بعمل روائى جديد بمعنى الكلمة.
كان العشق هو المرحلة التى تتبع العاصفة فتتولى ترتيب العالم ووضع الخرائط الجديدة للاماكن الجديدة واطلاق المسميات المناسبة مع الازمنة المناسبة كان الضد للموت والصعود إلى اعلى والتسامى فى بوتقات الفضاء الهلامية الشفافة، كانت تبكى فى اثناء رحلة الصمود وتنتحب وتشهق وتضحك وكنت انصهر فوق صدرها واتبخر واشرب فلا ارتوي.

ليسامحنى النص الجديد وليغفرلى الكاتب الذى يعيش على الحدود فقد خرج النص الهام على الحدود ايضا..
فى وقت نحتاج فيه الى كشف القلب..
 واخيرا قد يفهم ابن الزمن الاتى من النص مالم افهمه انا!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 نشر فى الأهرام بتاريخ 27 أغسطس2014

السبت، 23 أغسطس 2014

العيش على الحافة

               

                


رغم طول معاشرتى للكتب وتعاملى فى تقديمها والكتابة عنها، فقد وقفت حائراً لفترة طويلة أمام كتاب أستاذى شكرى محمد عياد «العيش على الحافة»، وجدت نفسى غارقاً فى بحر من المحبة والاحترام، متحيراً من درجة الغنى والصدق والتنوع.

لقد عرفت الأستاذ شخصياً فى سنوات عمره الأخيرة
 (1921-1999) وعاينت محاولاته الثقافية والفكرية الأخيرة: إنشاء دار نشر «أصدقاء الكتاب»، وقد تم هذا مع صديقين له، هما الدكتور الشنيطى، والأستاذ عبدالمنعم مراد، ثم محاولة إصدار مجلة ثقافية فكرية أدبية خاصة، تواصل الدور الذى لعبته الرسالة والثقافة والكاتب المصرى، واختار لها اسم «النداء»، ولكن لا أدرى لماذا خافت الحكومة أو النظام، وتوقف المشروع، وأظن أن الأستاذ انتهى من كتابة «العيش على الحافة» حوالى هذا الوقت، وإن كان قد ظل يكتب فيه أكثر من عشر سنوات.
الكتاب اعتراف بالمفهوم الفلسفى الغربى، وسيرة ذاتية، ورحلة فكر، وتاريخ نفس، ومكان وأسرة، وسياسة وطن فى أزمة، وفكر يبحث عن هوية، وإنسان يبحث عن حريته.

شكرى عياد كان يبحث عن إحياء، عن تجديد، ونهضة فى الفكر والأدب العربى.
 محاولات التجديد وتيارات الحداثة الجديدة كانت تثير فى نفسه بعض الارتياب.
 كان يرى أن التجديد والتحديث ليس مجرد رفض أو تمرد فردى، ولكنه تعبير عن «قلق جماعى» ورغبة فى التغير، لذلك كان فى الأغلب يتحدث عن التأصيل.
 «كان القمع الانفتاحى النفطى قد غيب الثقافة المصرية فى الشتات»، وخرج أغلب المثقفين من مصر، وخلت الساحة من الأساتذة الكبار، وتُرك محبو الأدب وتلاميذ الفكر والثقافة «لنقاد وكتاب من ناقصى الخبرة، يخدعون القارئ بالتعالى والتعالم، والاستخدام الأجوف لمصطلحات غامضة».

وبقى فى الساحة وحده:
 الأديب، الفيلسوف، المفكر، المصرى الفلاح الماكر:
 بقى وحده يبحث عن النهضة والتأصيل، يكتب:
القفز على الأشواك ويحاول المستحيل: أن يمسك ظله!
 ويردد مع السيد المسيح:
 الشاة الضالة أهم من القطيع كله.
وفى مكر فلاحى أصيل وفلسفى ونبيل اختار عنوان
«العيش على الحافة»، بينما هو فى الحقيقة يخرج داخل أسرار نفسه وأسرته والمجتمع من حوله، ويرصد التحولات التى جرت فى جيل الوسط الذى انتقل من الريف إلى الحضر.
رغم صغر حجم الكتاب (153 صفحة) فإننى لا أجد نفسى قادراً على تلخيصه أو تقديمه كما أفعل مع أغلب الكتب، لذلك فأنا من البداية أدعو كل مهتم بالفكر أو الأدب، أو مشغول بالمجتمع أو السياسة، لمحاولة الحصول على الكتاب ومحاولة استيعابه، (سمعت أن دار التنوير ستشرف على إصدار كل مؤلفات ومترجمات الرائد الكبير، فى حين أن مكتبة الأسرة فى هيئة الكتاب تصدر كتباً متفرقة له، من ضمنها هذا الكتاب الذى صدر فى مكتبة الأسرة 2012).

أحاول فقط أن أقترب من ملامح الشخصية التى حاول الأستاذ رسمها لطفولته وصباه، ثم ننتقل إلى حكمته ومنجزاته.
هو ابن أول لزوجة ثانية لمدرس فى المساعى المشكورة، أنجب من الزوجة الأولى سبعة، وعندما تزوج الثانية لم تنجب لسنوات ثم مات لها ثلاثة!
 وعاش عبدالفتاح الثانى، بعد أن مات عبدالفتاح الأول، فأطلق عليه اسم مزدوج هو عبدالفتاح شكرى، لم يفهم العقل الصغير بسهولة التركيبة الأسرية المعقدة، فكان يعتقد - فى رفض طبيعى مشهور - الأسرة والانتماء، وكان يظن أنه ابن «ناس تانيين»، وأنهم قد وجدوه على باب الجامع، ثم يدخل الطفل فى محنة الجنس المرتبك، ويسجل الفنان شكرى عياد هذه الفترة وما صاحبها من مخاوف وأفكار، وصور نفسية واجتماعية فى داخل القرية والمدرسة والأسرة، فى حساسية وفنية كاشفة، لم أقع على مثيل لها فى الأدب المصرى الحديث، إنها فصول نادرة فى وسط الكتاب، يمكن أن توضع بسهولة إلى جوار تحف شكرى عياد القصصية القصيرة (شارع الجامعة - كهف الأخبار، وغيرهما من المجموعات، وروايته القصيرة الفريدة).

كان الطفل «البراوى» الباحث عن الوحدة، هو الميلاد الحقيقى للمفكر وللشاعر، وقال أحد الفلاحين للوالد، الذى يقول له إن الطفل ذكى ولكنه «براوى»، يقول الفلاح الحكيم:
- «اتركه، فى رأسه شىء، وإذا تكلم مع هذا وهذا نسى ما فى رأسه». يكرر الأستاذ كثيراً فى تواضع صادق أن ليس فى سيرته الذاتية ما فى سير الأبطال أو نجوم السينما أو الكورة أو كبار المجرمين، ولكنه يقف مبكراً لكى يقول:
«على أن أذكرك بجانب آخر من تناقضاتى (وهى السبب الوحيد الذى يمكن أن تقرأ هذه السيرة من أجله)!!
فرديتى الفظيعة، كرهى للنمطية فى أى صورة من صورها، إذا هتف الناس لا أهتف، إذا صفقوا لا أصفق إلا رعاية للمظاهر، لا أقول آمين وراء الإمام فى الجامع إلا لتصح صلاتى، لا أحب أن أكون نسخة بين آلاف النسخ، يرعبنى التفكير فى الاستنساخ وأراه آخر درجات الانحطاط فى تاريخ الجنس البشرى».

من أهم وأعقد الشخصيات التى يعرفنا عليها الأستاذ هى شخصية الوالدة، لقد اقترب منها بحب واحترام، ولكن بفهم وتحليل عقلى واجتماعى وفلسفى بارد، كزوجة ثانية لزوج شيخ تركها مبكراً لمسؤوليات جسام، فى وقت تحول اجتماعى مهم، وقد ارتبطت الأم بالابن الأكبر ارتباطاً ثقيلاً مركباً حلله شكرى عياد نفسياً واجتماعياً فى بلاغة وحرص فنى وفكرى نادر.
كما عرفنا بأخ لها: خاله «عبدالفتاح شلبى» الزجال الذى كتب أكثر منولوجات «شكوكو»، وكان الزميل المنافس لكاتب الأغانى الذى لا مثيل له «فتحى قورة»، ولكن الغريب والمثير هو النهاية التى انتهى إليها الخال «عبدالفتاح شلبى»، فقد تحول إلى درويش وصاحب خيمة دائمة فى موالد الحسين والسيدة، والأغرب أنه كتب موالاً طويلاً يروى فيه السيرة النبوية، والأغرب أنه صاغ «الميثاق»، ميثاق ثورة 23 يوليو، زجلاً، ومنحته الدولة معاشاً استثنائياً ظل يصرف لعائلته بعد وفاته.

دخل شكرى عياد كلية الآداب لكى يكون قريباً من
«طه حسين»، وعندما جلس أمامه مرتبكاً فى لجنة امتحان فى سنواته الأخيرة فى الكلية قال لنفسه:
- هل يمكن أن يخطر بباله أن صبياً ما قال لزميله وهما جالسان على مقعد خشبى فى محطة أشمون:
 أتمنى أن أكون مثل طه حسين، ولو فقدت بصرى؟
سأله «طه» سؤالاً مباشراً:
 هل عملك فى ترجمة كتاب الشعر لأرسطو أهم أم عمل عبدالرحمن بدوى؟
 وكان يعرف مكانة بدوى عند «طه».
قال شكرى عياد: عملى أنا.
كان قد أنفق ثلاث سنوات متصلة فى الترجمة، وكان يعرف ما يقول وختم كتابه قائلاً:
لا تضعف أمام أحبابك، إن كانوا يحبونك حقاً فإنهم يريدونك قوياً حتى أمامهم.
نختم كلماتنا عن العمل الممتع بالتذكير بعدد من النقط:
أرى علم «النحو العربى»، الذى درسته على يد الأستاذ إبراهيم مصطفى، قمة الفلسفة العربية وقمة الفن العربى!!
أمين الخولى هو الذى جعل محبة القرآن ممزوجة فى قلبى بكل ما حصلته من علم ومعرفة (التفسير الأدبى).
يقول الفنان المفكر فى نهاية السيرة النادرة:
طالما حلمت بالحرية.
اصطفيت من نفسى رفيقى ولكن رفيقى أصبح سجانى.
غشاء من حديد أو صوان، والقلب داخله حى لايزال يصرخ حيث لا يسمعه أحد.
صرخت ماذا جنيت؟
 قال: بحثنا عن روحك فوجدناك بلا روح.
 فمازلت من يومها أبحث عن روحى هنا وهناك ولا أجدها.
بارك الله فى روحك يا أستاذ.
 تلاميذك على دربك يحاولون البحث عن:
 الروح.. عن الفن، عن مصر التى أحببتها قبل كل شىء.

العيش على الحافة. شكرى محمد عياد.
 الطبعة الأولى: 1998. دار أصدقاء الكتاب. القاهرة

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريح 23 أغسطس 2014

السبت، 16 أغسطس 2014

التحديق فى عين الشمس!

       

       


               
 أخيراً صدرت رواية الطبيب الفنان رضا البهات
«ساعة رملية تعمل بالكهرباء»، وكما يقرأ الخطاب من عنوانه فإن الرواية ليست عملا سهلا، ولكنها رواية مكتوبة بأعصاب عارية، يحدق كاتبها طوال الوقت فى عين شمس.

 لكنها عمل مدهش ومثير تتوقف فى قراءته ثم تبحث عنه لتواصل التحديق مع كاتبه فى عين الشمس:
 فى أزمة الوجود هنا.. الآن!
يقول الكاتب فى حيلة شكلية يستدرجك بها لكى يحتفظ باهتمامك:
 أنه طوال عشر سنوات ظل يحاول أن يكتب هذه الرواية، طوال هذه المدة ظل يبحث عن موضوع وشكل يجمع فيهما تلك النار المشتعلة بالرغبة الدائمة فى التعبير.. فى صياغة هذا الواقع المتغير غير المفهوم، فى شكل ومضمون فنى يحملانك معه إلى فهم أوضح أو بصيرة أكثر شفافية.

هو كاتب يؤمن بأن مهمة الكاتب ليست الإمتاع أو التسلية، ولكن الكاتب يكتب لكى يبعث روح مقاومة الاستسلام للواقع المرفوض، يكتب لكى يعلن الحقيقة ويعلى روح النقد والاعتراض، والإصرار على التغيير.

كل هذه المهام التى تبدو وكأنها خطاب سياسى، لازمة لكى تجعل الكتابة فعلا حقيقيا وعلى الكاتب فى نفس الوقت أن يحافظ على جمالها الفنى الموجود فى إشراق الفجر أو كشف الحقيقة.
الطبيب الفنان من مواليد المنصورة قلب الدلتا 1955، وله رواية من أصدق ما كتب عن حرب 67 هى
«بشاير اليوسفى»، وله بعدها طقوس بشرية (مجموعة قصصية)، ثم رواية طويلة هى «شمعة البحر» أظنها لم تلق ما تستحق من اهتمام نقدى.

 لست أدرى متى قال عبقرى القصة يوسف إدريس لكاتبنا الشاب وقت ذاك
«لماذا يارضا تكتب وكأنك لن تكتب بعد ذلك..» أظنه كان يقصد لماذا تحاول أن تقول كل شىء مرة واحدة وهذا حق.. وهو فى نفس الوقت ما يميز كتابة «البهات» إنها محتشدة حادة ومركبة.. ولكنها فى النهاية متحققة وجميلة: يقول رضا البهات:
«نأكل فى العام أطنانا من الخبز والخضروات والحيوانات كى نكبر قدر أصبع، وأنا لم أقرأ منذ عشرين عاما ما يجدد أنسجة عقلى. كيف سأكتب جملة تضىء عقل أحد؟

على رصة كتب جلست كمن يتأمل شخصا غيره ينحسر عنه العمر.. لا ليس العمر إنما حاجة الآخرين له.. العمر حفل تنكرى يبادل فيه الجميع ذواتهم باعتيادية وبغير كلل..
 كم اعتقدت أن حضنا عاريا يكفى لترميم روحى.. لكن:
 لا يكفى البكاء لكى يذهب الحزن.

لا تكفى الهزائم كى أكتب رواية: اتسخ زجاج الساعة الرملية وتيبس الرمل فى قاعها».
هذا نموذج لجمال واحتشاد رواية البهات.
 تجمع فى تفرد بين قدرات الرسام التشكيلى والنحات وبين صائغ العبارة والقابض على الحقيقة أو الجمر.

 إنه يتحرك فى استمرارية مدوخة بين المحاذير الثلاثة: الجنس، والدين، والسياسة، يجمعها فى عجينة واقعية فى مكان لا هو ريف ولا مدينة.
 ولا هو بيت أو بار، يتحرك فيه رجال لا هم مفكرون ولا عابثون، ولكنهم بشر من لحم ودم.
 يتكلمون بصراحة ويكذبون، يتحدثون عن السجن، والسياسة والمظاهرات، وعن الخمر والدعارة وفساد المال والحكم، عن الكتابة والاتجار بالدين ومع ذلك يقول الكاتب:
«أنا ممن يطلق مشاعره بحذر، رجاء المحافظة على وحدة أحرص عليها».
 فى الرواية تدفق عشوائى تحكمه براعة لغوية وحس تشكيلى نادر.

 بطل الرواية التى لا تريد أن تكتب يتخلص من مكتبته التى تحتوى على مؤلفات كتاب يكتبون ثلاث روايات فى نفس الوقت: «لهذا الكاتب أكثر من ثلاثين كتابا بمكتبتى ورق كثير وحبر كثير لكاتب، وفى الطبخة المصرية نكررها فوق ثلاثين مرة.. بق من الحرية على بقين عن الاشتراكية على جملتين فى الليبرالية وثلاث أبقاق ناصرية زائد مقادير متساوية من التدين والعلمانية.
 ثم بعد أن تغلى المقادير وتجىء الأموال والجوائز، يضيف ثلاثة مكاييل من العداء لإسرائيل على مثلهم من «وإن جنحوا للسلم» ويرش فوق الخلطة ملعقتين من الفضى ثم يصب فى قوالب من مديح الفقر والفقراء، أو فى قالب كبير من ضعف الفكرة المصرية».
لا أعتقد أننى بكل هذا الكلام قد قربت لك عمل رضا البهات الأخير ولكننى آمل أن أكون قد حفزتك إذا كنت مهتما بالأدب والكتابة. على البحث عنه، وقراءته ومناقشته فهو يمثل ظاهرة مختلفة وسط أعداد كثيرة من أعمال عادية تدور فى دوائر متشابهة.

 إنه لا ينتمى إلى كتاب الأقاليم وليس فى نفس الوقت فى كتاب «وسط البلد»، كما أن بضاعته ليست مستوردة من أحد، فهى بلا شك صناعة مصرية بحتة قد تكون لها نفس عيوب
«التقفيل النهائى» ولكنها دون شك أصيلة تحمل رائحة الأرض ولفحة الشمس ونسيم العصارى.
«لماذا أريد كتابة رواية أصلاً، العالم لن ينقص شيئا إن لم أسرد له بعضا من ملامح الفقر ذى الكبرياء.. حيث الشمس والحرارة شرطان لكى يكون هناك شباك فى جداره حيث القلل وأعواد النعناع، وجوه البنات ضرورات تقتضيها هذه الشبابيك. ضلالات طالما هيجت حنينى إلى آباء ذوى شوارب ضخمة صفرتها الجوزة وأمهات يفتشن عن الأحزان الشاغرة ويحتلن على الحياة ليمضى منها يوم آخر».
الرواية مشغولة بحال الصحف، صحف المعارضة وصحف الموافقة، مشغولة بـ11 سبتمبر وانهيار الأبراج وبقايا النازية وبزوغ الإرهاب فى فجر بنفسجى تشغله ملائكة سوداء:
«لو كنت مؤمنا لقضيت الوقت فى الصلاة والدعاء. لكننى لا أحفظ الأدعية المصكوكة لكل الناس».

أحفظ «إذا جاءت القيامة وفى يد أحدكم فسيلة فليغرسها»، كان هذا دعاء يحبه توفيق الحكيم، ولكنه لا يصلح كدعاء. أقول:
«اللهم أدخلنى فى تجربة. ولا تجعلنى ممن يعتاد القبح ولا تكلنى إلى من يكره الحياة، ولا إلى سياسى «تكلام» يلعب بالبيضة والحجر وألهمنى يا رب قول ما أعرف لا ما تردده الألسنة حتى لا أضل السبيل إلى نفسى».

«ساعة رملية تعمل بالكهرباء» رواية مكتوبة بدقة وهى فى حاجة إلى قراءة خاصة.
ساعة رملية تعمل بالكهرباء - رواية - رضا البهات
 - دار بدائل 2014 القاهرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 16 أغسطس 2014

الأربعاء، 13 أغسطس 2014

سرير به رمل ناعم




مفاجأة جديدة مدهشة من أرض فلسطين الغالية:
الكاتبة الروائية والشاعرة مايا أبو الحيات وروايتها الجديدة :
« لا أحد يعرف زمرة دمه» زمرة الدم : هى فصلية الدم
وهو عمل ناضج مدهش ومثير فى شكله ومضمونه .
روايه قصيرة ( 140 صفحة ) صادرة فى بيروت عن دار الآداب العريقة .


أما الكاتبة «مايا» فهى شاعرة وروائية وممثلة ، وعاملة فى مؤسسات رعاية الطفولة ، وأيضا كاتبة لقصص أطفال، الفنانة المثقفة من مواليد بيروت 1980 وهى خريجة كلية الهندسة من جامعة النجاح فى نابلس 
لا أحد يعرف «فصيلة» دمه«بعد إذن المؤلفة» روايتها الثانية : بعد رواية «حبات السكر» 2004 وديوانين من الشعر الحديث آخرهم «تلك الابتسامة» ذلك القلب كل تلك الحقائق المفاجئة لنا هنا ، دليل آخر على حالة «اللا تواصل» الفكرى والفنى الذى صار ، هو إلى جانب الدمار الشامل ، من علامات الساعة، إذا لم يتدارك العرب حالهم .


منذ متى ونحن لانسمع ولانرى أى إنتاج فنى أو ثقافى قادم من أغلى وأخصب وأهم أرض عربية ..
حتى المجلات الثقافية توقفت ، الشعر والأغانى ، لم نعد نسمع سوى تلك الأصوات الصاخبة الصارخة .. أو أصداء أصوات قديمة تندرج تحت ذكريات الزمن الجميل .


تقول الفنانة الفلسطينية الشاعرة المثقفة :
لم يعد عندنا مجلات فكرية وثقافية السلطة المحتلة فى وزارة الإعلام أو الثقافة أصابها عطل شامل
التخلف والاختلال هما كل الصورة أى تغيير فى رأس السلطة أو مستوياتها العليا لم يعد مجديا ولايصنع شيئا .
الأمل الوحيد قائم فى حركة الشباب
 ( لا أقول الأطفال ... هم من بقى فيهم الأمل أو الحلم )
 لكى أختم هذا الاستطراد الذى طال بسبب الوجع المضاعف الذى صار يسد الحلق .
 تقول الراوئية الشاعرة فى فقرة من قلب الرواية:
التلفاز يأتى بأخبار الزلازل والفيضانات والثورات .
الموت على الشاشة بالمجان .
 إنها الثورات فى كل مكان ، تونس ، ومصر ، واليمن وسوريا ، أحاول أن أصنع لى موقفا منها فلا أستطيع ، أريد أن أخرج وأعلن ثورة على أحد ما لا أستطيع ، حين حللت الأمر مع صديقتى قالت لى إن الذى تعود الاضطهاد يبرر فعل اضطهاده، ويصبح هو الشكل الأسهل لحياته لكننى أريد أن أتغير .
عندما أرى مشهد عائلة سورية مذبوحة فى التليفزيون، أريد أن أملك الشجاعة لكى أتخذ موقفا .
 ألم يعد هذا ممكنا بعد !!


رواية مايا الجديدة تقطع نياط القلب كما يقال ليست الأرض... التى تضيع وحدها ... ليست القدس أو نابلس أو غزة هم من تبتلعهم وحوش العنصرية والنازية الجديدة والسلاح:
إنه الإنسان، نعم الإنسان العربى الفلسطينى هو الذى يغرق فى بحار بلا قرار من طمس الهوية ، والتشكيك فى القيمة والقدرة وإمكان البقاء


الرواية هى حكاية: «جمانة» وأختها يارا فتاتان لوالد فدائى فلسطينى سابق ، وأم لبنانية من بيروت .
 الأب مات فى أول صفحات الرواية بعد أن بذر فى نفس جمانة الشك فى سلوك أمهاء وأنها خانته مع رجل آخر ...
 أى أنها هى ويارا ليستا أختين .
 تحمل جمانه هذا الشك التراجيدى
منذ صباها حتى بعد أن صارت أما، وعادت تعيش فى القدس بعد الشتات الطويل فى عمان وبيروت وتونس .
 فى القدس بعد أن تزوجت ، تخرج فى محاولة أخيرة لإجراء تحليل DNA لها وشعرة من رأس أختها


المعمل الاسرائيلى للتحاليل يوافق على إجراء التحليل، بعد إخضاعها لتحقيق جنائى ... ولكنها تفاجأ فى النهاية بأن المعمل يطلب مبلغا ضخما من المال لا تحمله.
فتخرج حاملة شكها وفقرها وشتاتها وضياع آخر أمل فى اليقين لكى تدخل الصفحات الأخيرة من الروايةفى دقات مأساوية لقدر عات يحل ما بقى من ذكريات فلسطين :
 تموت القابلة اليونانية التى شهدت ميلاد أطفال القدس ، كما تموت حماتها التى أشهرت إسلامها لكى تتزوج .... وهى تسأل نفسها ومن حولها ، فى أى مقابر سوف تدفن !!


أما ابنه جمانه الصغيرة التى خرجت معها ، ومع والدها فى رحلة بالسيارة «أمام مستوطنة» «مود يعين» نزلت شرين من السيارة بفرح المنتصرة ، ثنت ركبتيها ، وأبعدت مؤخرتها عن قدميها، وهى تعطى فكرة عن مقدرة مايا على تحويل أغرب وأصعب الصور إلى تركيب فنى يدخل فى البناء الروائى المركب والمدهش التى استطاعت أن تصنعه فى روايتها .


هى رواية جميلة مزعجة ، أو كما تقول الشاعرة مايا أبو الحيات إنها كالنوم فى سرير به رمل ناعم .
 لا يعرف هذا الإحساس إلا من جربه .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر فى الأهرام بتاريخ 13 أغسطس 2014

السبت، 9 أغسطس 2014

الوطن.. والرمال الناعمة

               


         

فى الرواية المصرية الفاتنة «الرمال الناعمة» للكاتبة الفنانة
«درية الكردانى» نجد أنفسنا وسط غابة غنية من المشاعر والأفكار، فيض من أحاسيس امرأة ذكية محبة، مليئة بالحرية والتمرد والإحساس الصادق بمعانى الفن والوطن والبيت.

لسنا أمام مجرد سيرة حياة، ولا حكاية زواج غنى وعاصف بين فنان كبير معروف ومذكور، وبين سيدة عظيمة قدمت للفنان كل حب ورعاية وصنعت معه بيتاً وأسرة وتاريخاً لا ينسى ولكننا أمام رحلة نادرة فى مشاعر فتاة محبة، وزوجة متفانية، ثم تسجيل أشد وضوحاً وقسوة وصراحة لما يحدث لعلاقات الزواج من إصابات قاتلة.

من أوضح وأدق المرات التى وجدت نفسى فيها أمام تسجيل لأزمة المرأة فى مجتمعنا: القديم الذى عاشته الكاتبة فى بيت الأسرة فى الأقاليم.. ثم عندما دخلت إلى الجامعة وإلى الحياة فى القاهرة لكى تحب الفنان وتعيش معه وهم الحرية والمساواة وبناء الحياة المشتركة إلى أن يأتى عالم الانفتاح فى منتصف السبعينيات، فيصيب المجتمع والفن والبيوت ما أصاب العالم كله من دمار فى القيم، وسيطرة مطلقة لقوة المال وبداية العولمة الأمريكية المزيفة التى لم تبق ولم تذر.

 دخلت إلى البيوت وإلى فراش الزوجية وإلى علاقة الأبناء بالآباء..
 ولم نجد حتى الآن من يقدم موقفاً فكرياً أو إنسانياً قادراً على المعالجة أو التصدى سوى جماعات التطرف الفكرى والدينى بمختلف أنواعه وأشكاله وألوانه.
لا أريد أن أبتعد عن رواية درية الكردانى، الجميلة، ولكننى أريد أن أضعها فى مكانها كوثيقة اجتماعية تدرس التحول الذى صاحب صعود وهبوط حركة التنوير والثورة وتحرير المرأة حتى فجر 25 يناير.

كتبت المؤلفة روايتها قبل ثورة يناير 2011، وغادرت مصر لكى تقوم بالتدريس فى جامعة فى أمريكا، ولكنها لم تفقد ارتباطها بالوطن الذى تقول عنه فى روايتها فى فقرة كاشفة ليس فقط عن أفكارها بل عن عمق إحساسها بالوجود- تقول:
«ما هو الوطن بالنسبة لى؟
 الوطن هو المكان الذى أعرف تماماً كل ما فيه: ناسه، فأستطيع أن أقرأ تعبيرات الوجوه، أتوقع ردود الأفعال، وأفهم بعمق معانى الإشارات، فترات الصمت، طرق المجاملة، السخرية، الاتهام، الإهانة، فى وطنى أشم رائحة الجو، وأتوقع المطر أو درجة الحرارة، وأفهم معنى الغمام.
ولكن هل أنا قوية الجذور؟
متى بدأ إحساسى بالغربة؟

 هل كان الحريق تتويجاً لهذا الإحساس. (عندما بدأت أزمة الزوجة مع الفنان.. أصاب شقتهم الجميلة التى صنعوها على مدى عشرين عاما حريق أضاع كل شىء ربما يذكرنا بحريق 26 يناير، الذى سبق ثورة 52، ولكنه يظل فى الرواية رمزاً غنياً يكسبها أعماقاً فكرية وإنسانية) أم أنه جاء مع بداية اكتشافى واقتناعى بأنه فى الحقيقة لا يوجد ما يسمى الاستقرار، إذ لا توجد ملكية حقيقية» تقوم بطلة الرواية برحلات فى الأتوبيس إبان أزمات الضيق التى تنتابها مع الفنان الذى بدأت تصيبه أمراض تضخم الذات والتحول إلى عالم أسواق الفن ومن يسيطرون عليها من نساء، هن بالونات وأباطرة زيف ودعاية فارغة..

 فى هذه الرحلات تمر الزوجة الضائقة بالحياة بقرى الدلتا، وبفقراء الشعب، الذين خرجت من بينهم والذين كان الفنان أحد الوعود المحبطة بتغيير حياتهم تقول إحدى تلميذات الفنان لزوجته وهى تغالب دموعها:
«كانت التلميذة أصغر من الفنان بسنوات. ولكنها بدت أكبر من عمرها بكثير فقد تركت شعرها الذى شاب مهوشاً دون صبغة وحملت ملامحها هموم السنين دون تجمل.

 تكلمت عن ريادته وأبوته التى انتظروها منه وبخل بها عليهم.
كنا نريده، وكنا مستعدين إلا أنه هو لم يكن عنده استعداد، بالنسبة لنا هو انتهى كفنان.
 فنان بمعنى ثائر، يريد أن يغير وجه الحياة للأفضل هو لم يعد قادراً على ذلك. انتهينا. سيعيش على ما عمله وهو أصغر. هو ليس قليلاً ونحن نحترمه ولكنه يعتمد الآن على عقل فقط وعلى صنعة بلا روح أو مشاعر».

أعز ما كان لها فى البيت كان لوحة رسمها الفنان لوردات أربع عاشت معهم وكانت لكل واحدة بالنسبة لها معنى وقصة.
الفنان الآن يبحث عن ورد مستورد ينتظر قدومه بالطائرة، لكى يهديه لها، ولسيدة الأعمال التى ترتاد معارضه والتى تطلق عليها الزوجة المكلومة تهكما السيدة «سى آى إيه» لما لها من نفوذ خبيث وسيطرة على حياتهم.
وفى لمحة لها دلالة إنسانية بسيطة تقول المؤلفة إنها أثناء هذه الأزمة التى طالت والتى حاولت هى فيها أن تقدم للفنان الذى بدأ يتقدم فى السن، وبدأ يحتاج إليها فى كل شىء، ولكنه بدأ أيضاً يصبح غير محتمل، وأخذ يفقد كل ما كان يمتاز به بالنسبة لها، فى رقة وحساسية تقول:

 من جريدة الأهرام وجدت فى البريد رسالة احتفظت بها فى جيبى وكنت أعيد قراءتها كلما يضيق بى الحال وأكاد أختنق.
«لقد أحببت بإخلاص، وكرهت الغدر، آمنت بالخير والحق والعدل والجمال، وكان ذلك لنفسى قبل أن يكون لغيرى، فإن كافأنى الغير على ما حملت من مشاعر طيبة بالوفاء لى، فبها ونعمت، وإن جحد البعض عطائى ومشاعرى وإخلاصى، فلقد استمتعت بممارسة إحساس العطاء، والحب والوفاء والنبل، ولى ما أحسست به، وعليهم عاقبة ما فقدوه من عطائى السابق لهم.. وفى ذلك بعض العزاء».
هذا الموقف المثالى يجسد المشاعر الحارة التى سطرت بها المؤلفة روايتها الشديدة الوقع والمؤلمة أشد الألم. ولكنها لما فيها من ذكاء وإنسانية تخرج بشكل لا افتعال فيه، من تسجيل حالة فردية إلى رصد وضع اجتماعى صعب تمر به بلادنا فيما يتعلق بدور المرأة. كما أنها تناقش على مستوى فكرى وإنسانى دور الفنان ومسؤوليته تجاه مجتمعه.

قدمت السيدة درية الكردانى عملها الأول والذى مازال عملها الوحيد هدية للوطن وللمرأة المصرية. وهى قد وعدت فى حديث أخير أدلت به لجريدة الأخبار، الأدبية، القاهرية بأنها تعد عملاً روائياً جديداً، ونحن فى الانتظار، نقول كما ختمت هى روايتها الأولى:
«لنبدأ من جديد. غداً هو اليوم الأول فيما بقى من العمر».

رمال ناعمة. رواية. درية الكردانى.
دار الثقافة الجديدة 2011.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 9 أغسطس 2014