السبت، 22 فبراير 2014

عن الأرض.. والعشق





لما تلاقى الطير مش طايق
لون العش ولون الشمس
اعرف أن السما مش باينه
وأن جناحه اتأذى م اللمس
هذا مقطع من قصيدة بعنوان «كسر الرخام» من ديوان
 «العشق السادى» لأحمد العايدى.

 اللغة فى الديوان «عامية» ولكنها خاصة، وتنتمى إلى جيل جديد.
أحمد العايدى:
 صاحب رواية «أن تكون عباس العبد»
(دار ميريت - القاهرة 2003)، هى الرواية التى حققت شهرة ونجاحا كبيرا، واعتبرها كثير من الكتاب ميلاداً لذائقة جديدة تعبر عن: مكابدة عالم جديد: قلق، ومتغير.

 أحمد العايدى من مواليد: الدمام السعودية 1974.
 اشتغل بالسيناريو، والكومكس (المجانين - ضربة شمس).
يقول فى حديث له:
 أنا مريض بالشعر، أحسه وسعيد به.
وفى مقدمة الديوان صفحة تقول:
«إهداء إلى المجانين، المنبوذين، مثيرى المتاعب، الذين يشبهون القطع الدائرية، التى ترفض الدخول فى ثقوب مربعة، الذين يرون الأشياء «باختلاف»، غير المحبين للقواعد، الذين لا يحترمون الوضع الراهن، يمكنك أن تستشهد بهم أو أن تختلف معهم، أن تمجدهم أو أن تحط من قدرهم.

يبد أن الأمر الوحيد الذى لا يمكنك فعله هو تجاهلهم.
 لأنهم يغيرون الأشياء، إنهم يقودون الجنس البشرى إلى الأمام. وبينما يعتبرهم البعض أشخاصا مجانين، نراهم نحن عباقرة، لأن البشر الذين لديهم ما يكفى من الجنون للاعتقاد بأنهم يستطيعون تغيير العالم، هم من يغيرونه فعلا إعلان «آبل» ضمن حملة «فكر باختلاف» 1997.

كما يهدى الشاعر ديوانه إلى روح عم أحمد فؤاد نجم، وروح أحمد صلاح.
يقول فى قصيدة «مشوار مثالى للقلق»:
تقعد على الرصيف م التعب
حاضن شوية شاى
فيسألوك المخبرين
«والكابتن منين؟»
فتبتسم
أنا ابن الحوارى الديقة
ف عين شمس
وزخانيق الدويقة
معمول حسابى فى الرصاص
وماليش فى البلد «دية»
نيتى..
أبسط من تقريرك فىّ
أنا التراب اللى لازق
فى دم القميص
أنا انعكاس القمر/ فى دموع المحبة/ لحظة غياب الكهربا/ فـ«منصور» أنا السور البشر/ مايهدنيش../ غير الحقيقة تبان/ ثانية رجوع النور/ أنا اللى شال العلم/ عكس اتجاه السير/
أما عن «العشق.. والأرض»، فهو يقول كلاماً جديداً جارحاً كخنجر فى الغمد:
ماكرهتش حد فى الدنيا
أد اللى حبيته
ومن ساعتها
أنا كل ما أحب حد
أسيبه
عشان ما أخسروش.
يا رب../ أنا حاسيبك أنت/ تقولها/ قد إيه../ كل كلمة منى بتدايقها/ معناها دايما/ كل حاجة عكسها.
علمينى لما أسيبك/ أنسى فجأة طعم.. لمسك/ علمينى وأنت ماشية/ أنسى ليه أصلا بسيبك.
لما يبان الصبح/ ماله؟/ ليه حزين؟/ هى نايمة/ هو صاحى/ نوم وصحو القلقانين/ حتى فى نزوله السلالم/ صمته حتى/ قال أنين/ كل ما أتمناه جريمة/ تهمة العشق اللعينة/ كل ما يقرب بتبعد/ كل ما بيهرب حزينة/ يا اللى علمت المحبة/ علم البحر السكينة.
بعد كل هذه الاستشهادات أظنك قد شعرت أنك أمام صوت جديد تماما.
 وأن هناك عملية فنية جديدة تتكون: فيها عقل يفكر ويبنى تعبيرا جديدا خاصا به.
 وأن يقتصد فى الكلمات.
 وأنه يتعامل مباشرة مع «الصورة» مع الاحتفاظ قدر المستطاع بالنغم والإيقاع.
 قصيدة نثرية، مشغولة بالهدم للبناء.
 اللغة العربية الفصحى موجودة فى لحمة البناء وإن كان النسيج من مصطلحات اليوم والشارع والآن.
يقال إن العايدى قد درس الأدب والفن مع كاتب أمريكى شهير هو «تشاك بولانيك» صاحب رواية «نادى القتال» وينتمى إلى مدرسة «المينيماليزم» القائمة على اختزال التعبير إلى أقل حد ممكن، والوصول إلى نقل الشعور أو الفكرة والصورة بأسرع ما يمكن ودون أى ترهل عاطفى.
واللى يتنازل فى الهوى
يشرب على مهله الهوان
دبلت خدود الورد
من ختم الخناجر
والطعنة تقريبا
كل ما بتدبل
تبان..
هذا وتر شعرى جديد، يعزف من القرار، وسط موسيقى جديدة تولد فى العامية والفصحى.. رغم كل الضوضاء والصخب والعنف.

العشق السادى.. شعر/ أحمد العايدى
- القاهرة: الكرمة للنشر والتوزيع 2014.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 22 فبراير 2014

السبت، 15 فبراير 2014

.. ضد عقارب الساعة

    

                   

لماذا لم نفهم ما تورطنا فيه؟
 فى 30 إبريل 2012 صعد الدكتور «؟!» مرسى منبر جامع «عمرو بن العاص» وبدأ حملته الانتخابية بقوله:
«سوف نعيد فتح مصر»
الآن نرى أن هذه الإهانة التاريخية التى صفع بها الرجل البلد والناس والتاريخ، كان يجب أن تكون كافية لكى يعرف الجميع:
 من هو، وماذا يخفى، والخبث الجنونى الذى يدبره هو وأهله وعشيرته للبلد.

كتاب: «سنة أولى إخوان» للكاتب والناشط السياسى سعد القرش يقدم وقائع وشهادة على 369 يوماً من الكابوس الأسود الذى أصاب الجسد المصرى كله ومازالت آثار الحمى الخبيثة تسكن فى الأطراف والمفاصل.

 أنهت هذه التجربة المرة بالنسبة لكل ذى عقل وعينين:
أى علاقة بين هذه الجماعة وبين الدين أو الإسلام، إذا لم يكن كل تاريخهم كافياً، فإن هذه الأيام الكابوسية أوضحت المقصد الرأسمالى المتوحش الذى حاول أن يختفى وراء الكذب واللحية والجلباب والابتسامات الصفراء، سقط آخر الأقنعة.

يقول الكاتب سعد القرش «مواليد الغربية 1966- مر بتجربة إخوانية من سن 13 إلى سن 23 وخرج سليماً أنقذه الضمير المصرى، والفن:
 2 مجموعة قصص، 5 روايات- مشاركة فعلية فى 25 يناير، وحركة المثقفين والأدباء، ويوم الفصل فى 30 يونيو» يقول:
«عبر سنوات عمرى لم أجد هذه الجماعة متورطة فى العمل الدعوى، ولا أتصور أن لرجل مثل خيرت الشاطر علاقة بالفكر الإسلامى أو الدعوة إلى الله.

 كيف يكون الهوس بدعوة المسلمين إلى الإسلام؟.
ألا تحتاج مثل هذه الدعوة إلى فضاء آخر خارج حدود العالمين العربى والإسلامى؟
 لا يزال فى أفريقيا بشر يحتاجون إلى معرفة الإسلام، وبعضهم ينتظر يدا حانية تراعى آدميتهم حتى لو ظلوا على وثنيتهم أو اختاروا ديناً آخر.

 لا أجد إضافة للإخوان فى مجال تجديد الخطاب الدينى، أو البحث عن حلول لمشكلة الفقر بعيداً عن (صدقات) مذلة تهين كرامة الإنسان».

رصد سعد القرش لتجربته الشخصية كشاب صغير وتجربة استرداده لبصره وبصيرته ثم معايشته اليومية لوقائع الأيام الكابوسية يضع كتابه وسط قائمة طويلة من الكتب التى أصبح من الضرورى وضعها فى أيدى الشباب ومناقشتها بكل وسائل الإعلام والبحث والعرض حتى تصل إلى الجيل الذى مازال يبحث أو يفكر فى «يقين» يقود حياته.

 من أول الكتب الأوروبية «لعبة الشيطان لدريفوس نموذجاً» وكتب حسام تمام، والخرباوى، وحمدى لطفى، وسامح فايز، واليوميات المهمة التى تنشر فى «المصرى اليوم» للمرحوم جمال البنا.

 القضية واضحة والنوايا صارت مفضوحة.
 وتركيب المؤامرة صار ساقطاً:
 إلا أن كلمة الدين مازالت ساحرة مقدسة ومخيفة فى بعض الأحيان.

 هو يقول كمدخل لرصد التجربة كلمة قالها الإمام النفرى:
 «إنما أحدثك لترى، فإن رأيت فلا حديث»!
ويقتبس من الأستاذ العقاد قوله فى كتاب «إبليس»:
«يوم عرف الإنسان الشيطان كانت فاتحة خير.. كانت فاتحة خير بغير مجاز وبغير تسامح فى التعبير» ويقول على المستوى الشخصى والمستوى العام:
«خرجنا من تجربة الإخوان جرحى، وربما يستمر النزيف بعض الوقت».

هذا هو الكتاب الثالث الذى يصدره الأستاذ سعد القرش منذ ثورة يناير «الثورة الآن» ثم «أيام الفيس بوك» ثم سنة أولى إخوان الذى بين أيدينا، والذى يحمل مادة وإمكانيات لكتاب مهم وكاشف لولا بعض العجلة، وتجميع المقالات التى كتبها فى مختلف الصحف، الأمر الذى أفقد الكتاب كثيراً من الإمكانيات الموجودة فى التجربة الشخصية وفى المادة المخيفة التى ترسم صورة لا تصدق لتلك الأيام الكابوسية القريبة.

الأديب، والصحفى، والباحث وضع يده على كنز فريد كان يمكن أن يصنع منه كتاباً بالغ الأهمية، وقد تفرد فيما أعرف بمحاولة رصد أيام احتجاجات المثقفين على آخر اختيارات الإخوان لوزارة الثقافة. كما يحاول رسم تفاصيل تصاعد «تمرد»، وصولاً إلى أطول وأغرب يوم فى التاريخ 30 يونيو حتى 3 يوليو.

يقول على لسان ابن سينا: «بلينا بقوم يظنون أن الله لم يهد سواهم»!
ولكن الآمال تتجدد بقوة، فالثورة فكرة لا تموت: هى فى الشارع عصية على التطويع.

الكاتب الذى أحب واقترب من الصديق الراحل محمد روميش وصاحب القنديل المصرى الخالد يحيى حقى يقول فى نبضة فن صادقة:
«أياً كان التيار الذى تنتمى إليه يجب أن تفهم الشعب المصرى، إنه يحب الشيخ محمد رفعت وعبدالباسط عبدالصمد ويعشق أم كلثوم، يقرأ نجيب محفوظ والشيخ محمد الغزالى سنى المذهب ويذهب إلى ضريح الحسين والسيدة للتبرك.

 يحس بالطمأنينة عندما يسمع الأذان ويشعر بالإيمان عندما تدق أجراس الكنيسة، يتفرج على الباليه ويسمع عبدالحليم ويعشق الشيخ النقشبندى جرجس يعلق فانوس رمضان ومحمد بيزوق شجرة الكريسماس وبعد كده بيروحوا يشموا النسيم سوا وياكلوا فسيخ ورنجة على شط نيل بلدهم.

 هذا هو الشعب المصرى الذى أنجب مصطفى مشرفة ومحفوظ ويحيى حقى ومجدى يعقوب وصلاح جاهين».
نقطة نظام:
أليس فى البلد عاقل رشيد يوقف زعابيب أمشير التى انطلقت ضد شباب الثورة: تخوين، اتهامات متبادلة.

 صور تعذيب، تسريبات، تسجيلات، ألا يكفى تراب الإخوان وسخائم رابعة والإرهاب؟!

سنة أولى إخوان. سعد القرش.
 الدار المصرية اللبنانية. 2014 القاهرة

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 15 فبراير 2015

السبت، 8 فبراير 2014

زحام.. ولا أحد




 


      

 نعيش هذه الأيام وسط صخب إنسانى غير عادى:
 الناس والأشياء والأوقات غير عاديين، نعيش تحولاً لا يتوقف ولا يتم.
 العيون والوجوه تتغير، لا تعرف فى أى طريق تسير.
 الطرق متعرجة، والكلمات آنية جوفاء فارغة.
 منذ فترة وأنا أشعر أن آلاف الناس يتكلمون فى لحظة واحدة، حتى الكتابة التى أطالعها فى الجرائد والمجلات والكتب، كلمات متطايرة لا تعرف لها مقصداً ولا تكشف عن حقيقة!

ولأننى أحب الكتابة الجيدة، المعتَنى بها:
 أحب الجهاد للوصول إلى التعبير الدقيق، فقد توقفت عند مجموعة القصص «ليلة دخلة شيماء» للكاتب الصديق «حمدى عبدالرحيم»الذى يعرف أغلب المشتغلين بالكتابة عنايته باللغة، وبالتعبير، وبتدقيق المعنى.

 قادتنى هذه المجموعة المكونة من 15 قصة، كما سبق أن عرفتنى روايته المتميزة «سأكون كما أريد» (2011)..
وقبلهما كتابه الكاشف «فيصل.. تحرير» (2009)
- أننى أمام كاتب من نوع خاص، يريد أن يقدم فناً حقيقياً جديداً، وأننى أمام كتابة متخلصة من كثير من الأمراض العصرية: الاستسهال والخلط، والذات المتضخمة.

المجموعة الجديدة: إضافة للقصة المصرية المعاصرة:
 فنية، وشجاعة، ومتنوعة، ورغم العنوان فإنها لا تسعى إلى تحقيق نجاح سهل، ولكنها تضرب فى أعماق اللحظة الحالية المرتبكة سياسياً واجتماعياً وإنسانياً..
 وتتجول فى حرية واقتدار فى أرجاء النفس المصرية المأزومة حضارياً وفكرياً.

تنوع الشكل القصصى فى هذه المجموعة ليس تقليدا أو تجريباً مقصوداً لذاته، ولكنه محاولة للوصول إلى تعبير عن حالة إنسانية واكتشاف معنى وراء الحالة الإنسانية الفوارة التى يعيشها المجتمع الآن.

وعلى الرغم من أن القصص تتكلم عن السياسة، وعن تجربة الثورة فى أيام ميدان التحرير، وعن الحب والغرام والجنس، وعن وحدة المثقف وغربته، وعن أولاد الشوارع والبغايا والناس العاديين
- فإن القصص كلها تدخل بك إلى درجة من المكاشفة والصدق تجعلك تشعر بأن الكاتب يصور عالماً يبحث عن حل أو كما يقول هو فى مكان ما «إن الأمة التى تتمسك بفنها تنجو».

«شيماء» التى تحمل المجموعة اسمها، شخصية مرسومة بعناية فنية وبدرجة عالية من الحساسية، هى محاولة لجمع الحالة الاجتماعية والسياسية التى صاحبت ثورة يناير وخلقت أسطورة أيام التحرير الثمانية عشر.

 هى بنت من الشارع تسقط أمام حقيقتها كل التصنيفات والأوصاف، فلا هى واحدة من البغايا، ولا هى بنت من بنات الشوارع، ولكنها حلم إنسانى تجسد فى وحدة مع المكان الذى صنع ثورة مصر، التى أشارت إلى طريق المستقبل والتغيير دون أن تكتمل الجملة أو يتم التغيير.

فتاة تروى حياتها لمحقق مختفٍ، غيابه حياد مؤلم قاتل، يملك الحكم ولا يتكلم، وهى تقول له كل شىء ولا تطلب شيئاً.

هى ضبطت فى الميدان بتهمة دعارة ملفقة بلا فهم ولا إنسانية ولا تقدير، بعد أن قتلوا كل ما فى حياتها من إنسانية وحلم بحياة مختلفة:
 تروى للمحقق الباشا كل تفاصيل حياتها، لا تنفى شيئاً ولا تدافع عن شىء، ولا تكذب، ولكن تعبر عن حلم مُنع منها. أسطورة عادية تصنع الفول وتبيع مناديل الورق وجسدها..

 وحلم كان قريباً وتبدد، فى النهاية تقول إنها ليست قاصرا ولا... إذا أردت شنقى فتفضل، ولكن لن أهب إلى الأحداث ولو سقطت السماء على الأرض، وهذا آخر كلام عندى.
 يمكن أن تقبل أى شىء إلا أن تعود إلى الوراء.
 وعندما حكت شيماء عن الميدان كتبت شعراً لا هو عامى ولا فصيح.

 لا قديم ولا حديث.. شعر من الأحلام قالت:
 «يا سلام يا باشا على التحرير وناسه، والله يا باشا كل ما أفكر فى الجنة أجد نفسى أتذكر التحرير.. يا.. التحرير ياباشا وناسه وأيامه ولياليه، سحر يا باشا، وكتاب الله العزيز سحر، وتصدق بالله أنا لم أركعها منذ (...)، الولد فى عربة قطار بضاعة متعطل فى محطة العياط، ركعتها فى التحرير يا باشا، مرة بوضوء، ومرة بتيمم، ومرة بلا وضوء ولا تيمم، ربنا رب قلوب يا باشا.
 أول ما الشباب يصطفوا صفوف الصلاة كان قلبى ينخلع على الصلاة وكأننى شيخة من مشايخ الأزهر».

القصة كلها شيماء تتكلم.
 وشيماء هى من هى، شيماء: من قاع الشارع ومع ذلك تجد القصة «مكتوبة» بلغة فريدة لا تتكرر.
إنها أمة تحاول بفنها أن تنجو.

رغم تنوع الشخصيات فإن إيقاعاً موسيقياً واحداً يحمل صوت المؤلف دون أن يكون مسيطراً أو طاغياً على تفاصيل الشخصية أو أزمتها أو حدود ملامحها، الإيقاع الشخصى كأنه ألوان مميزة لرسام مقتدر، أو هى تصنع وحدة زمان ومكان. تجارب الحب والجنس تخضع فى الكتاب كله إلى مقولة:

 أن لا سبيل إلى المعرفة إلا بالملاحظة والخبرة.
 لذلك تجد أن كل شخصيات القصص، وكل الأحداث موضوعة تحت ضوء كاشف لكنه ناعم، «كأنه ذرات ضوء العصر وهى تنفذ عبر النوافذ المغلقة فتضىء السرير بمطر ناعم من لذة مؤلمة».

امتلك حمدى عبدالرحيم فى قصصه هذه نوعاً من المعرفة الحسية بالواقع وبالناس أكسبت عمله كله حساسية خاصة جديدة كأنه اكتشف عيناً خاصة جديدة يرى بها الواقع ويفهمه ويقدمه فى بلاغة وإيجاز.

 يقول فجأة فيكسب عمله كله بعداً جديداً.
«كنت أبحث عن لحظة ميلاد الروح وهى تتحرر من قبضة الديكتاتور لتسقط فى فوضى الحرية».
تنقل هذه الجملة قصة حب عادية بين محرر حوادث وزميلته فى الأرشيف، دون تصنُّع أو افتعال.

 إلى بعد جديد وآفاق بعيدة، وتُبقى القارئ متحركاً بحرية فى أبعاد إنسانية وفكرية للعمل القصير البسيط.
 كما تحيره صورة «الشخصية التى تعانى من سأم عام، ورغبة فى الموت.. مع شبق للحياة».

وسط كل هذا الصخب الاجتماعى والإنسانى الذى تعبر عنه المجموعة بمهارة يتحرك بطل ليس جباناً.. لكنه يشعر أحياناً أنه صفر، وغالباً ما يبحث عن «سكينة الروح». غريب يبحث عن سجادة بنفسجية للصلاة.

 ويريد أن يعرف الجواد الرابح قبل المراهنة، لكنه يدرك أن الثعابين كلها واحدة، ليس بينها ثعبان طيب.

فى أوائل المجموعة قصة نادرة مشغولة بتجربة اجتماعية وإنسانية حية هى قصة: «مناقب سيد صومال» تكشف عن رغبة دفينة فى نفس المؤلف لصناعة جداريات روائية حديثة للواقع المصرى الجديد المتغير.

ولكن إذا كان لى أن أختار موضوعاً استطاع الصديق حمدى عبدالرحيم التعبير عن كل تفاصيل ودقائق مشاكله القديمة والجديدة دون ابتذال أو ادعاء أو تزيد، فهو موضوع العلاقة الإنسانية بين الرجل والمرأة فى ظروفنا الممتدة من الصعيد حتى قلب المدينة، يعبر بمهارة عن كل الأحلام والأمراض والمشاكل التى تشكل علاقة الرجل بالمرأة هنا والآن:

سمر. أحبك فبوحى، تقولى شيئاً يكسر محارة الحزن التى تغلفك، تقدمى نحوى ولو شبراً، أرسلى رسالة تعد بشىء غير هذا الصمت والحزن المكابر».

ليلة دخلة شيماء. قصص. حمدى عبدالرحيم.
 أوراق للنشر والتوزيع 2014.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 8 فبراير 2014

السبت، 1 فبراير 2014

أمواج الثورة لا تتوقف



  

مثيرة وممتعة هى الكتب، التى تستطيع أن تتنقل بحرية واقتدار بين ماض حى وحاضر يتشكل الآن بحرية وتدفق.

 كتاب المؤرخ اللبنانى: الأستاذ خالد زيادة «لم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب» يفعل ذلك ويقول:«إن ما نشهده الآن- فى العالم العربى- هو طى حقبة من اليأس والقنوط والتقهقر المادى والفكرى استمرت لأكثر ما يزيد على نصف قرن، وما يجرى هنا وهناك يبعث الآمال بقدر ما يثير المخاوف والشكوك».

يطرح الكتاب فى معرفة تفصيلية: علاقة الإسلام بالحداثة، ومركزية الحضارة الأوروبية، ونقل تواجد ملايين المهاجرين الإسلاميين المقيمين فى حواضر أوروبا الكبرى الآن.

 كما يدرس بتفصيل ممتع المشاهد التى تلت سقوط الإمبراطورية العثمانية، وعصور المماليك الأولى والثانية، والثورات القومية العربية القديمة والحديثة، وصولاً إلى ثورات 2011، التى تحركت فيها الشعوب العربية بلا قيادة أو أيديولوجية ملتفة حول شعار خالد جديد«خبز (عيش فى مصر) وحرية، وعدالة وكرامة إنسانية.

 شعار شامل مطلق تسنده إرادة شعب رافض للطائفية والطبقية والفساد وبقايا الخلافة والسلطنة والمماليك والتوريث، وبعد عثرات وانحرافات تصدر إرهاب دينى مثله الإخوان الإرهابيون، أزاحتهم مصر فى موج ثورى جديد، فى انتظار الاستقرار على مسار ديمقراطى جديد يلوح فجره وسط غبار المعارك. لا ثورات تتحقق فى شهور أو سنوات».

الثورات الكبرى استغرقت عقوداً، لكى تثبت على الأرض وتغير الواقع.
 من فرنسا إلى روسيا إلى الصين رغم وجود ترسانات فكرية وتنظيمية لها، فعلى ثورات العالم العربى التى تفتقد برامجها الفكرية ونخبها القادرة المدربة أن تتمسك بالشعار العبقرى الشامل، وبالإرادة الشعبية التى ولدت من قلب بؤس الناس وحلمهم.
«إن الأفكار وليس التقنيات هى التى أتاحت لأوروبا أن تغير العالم:
 أفكار الحرية والمساواة وحقوق الإنسان وفصل السلطات صارت أدوات نضال انتشرت فى كل بقاع العالم من سيمون بوليفار فى أمريكا اللاتينية إلى مدحت باشا فى الدولة العثمانية إلى صن يات سين، وسعد زغلول فى مصر:
 ويقول مؤرخو الأفكار إنه لا جديد تحت الشمس، فعقلانية النظم السياسية عند اليونان عرف أوروبا الحديثة عليها ابن رشد والفارابى.

كان مارتن لوثر يقول إن التهديد الإسلامى لأوروبا هو عقاب من الله على الآثام، التى ترتكبها الكنيسة.
 أما شيخنا المصلح محمد عبده فكان يقول إن جهل المسلمين ورجال الدين أخطر على الدين من الأوروبيين، لذلك عكف على إصلاح التعليم، وتجديد الفكر.

لا تملك أوروبا الآن وعياً فكرياً جديداً رغم كل الإمكانيات المادية والتقنية ولا تشعر بأن التهديد الإسلامى «!»

لم يعد يأتى من الخارج، لكنه يسكن بينهم فى المدن والقرى. المسلمون فى الداخل الأوروبى يطرحون بشكل متكرر مسائل بناء المآذن وارتداء الحجاب، بل تعدد الزوجات وطرق دفن الموتى.
حركات النهضة وثورات النخب المثقفة مدروسة فى هذا الكتاب بتفصيل ممتع، خاصة فترات المماليك، التى كشفت بما لا يدع مجالاً للشك أن الشعب كان غائباً دائماً عن المشاركة فى الحكم، وكان دائماً مصدرا لجباية الأموال، أو وقوداً للجيوش التى تخوض حروباً حمقاء، تكشفت عن طموح مريض لمجاميع من الحكام فى أغلبهم غرباء عن المنطقة، فى نفس غربة الأوروبيين، بل إن الإسلام كان يستعمل لتجنيد حشود المؤمنين والمتصوفة الباحثين عن مخرج من واقع مؤلم لا يتغير ولا يتبدل إلا فى شكل الحكام واختلاف الملابس والأسلحة التى يستعملونها.

ثم يدرس الكتاب حكاية نشأة الإسلام الأصولى الجديد من محمد عبدالوهاب فى السعودية إلى المودودى فى الهند وحسن البنا وسيد قطب فى أرض المحروسة، ويقول «هذا الخطاب الدينى نفذ إلى الطبقات الأشد فقراً، التى لم تجن من التحديث نصيباً، بل أصابتها التحولات الاشتراكية حينا، والرأسمالية حينا بالإفقار والتهميش، ونجح الإسلام الصارم الجديد فى فرض بعض الالتزام بالفرائض والسنن دون أن يغير من حياة الناس شيئاً».

التحرر اليوم ليس من الاستعمار، لكنه من الأنظمة الأحادية.
لم تعد عند أوروبا أفكار كبرى تقدمها للعرب، لكن ثورة العرب الكبرى التى تتكون الآن تدفعها قضايا العيش والكرامة والعدالة الاجتماعية كحقائق إنسانية قديمة شاملة ومقررة.

وتصدر الإسلام السياسى فى المجالس الانتقالية يعوق المسعى الأساسى للجماهير، التى ترفض سيطرة الرأى الواحد المسيطر.
إننا نعيش عصر غروب الأيديولوجيات والأفكار، ولم نر دوراً مؤثراً للمثقف فى ثورات 2011، ولا دوراً لمؤسسات الثقافة، ولا الأحزاب سوى تلك التى تمثل بقايا أحزاب الخمسينيات والستينيات.

لقد كان الإفلاس المدوى للشعار «الإسلام هو الحل» اقتصادياً وسياسياً إعلاناً صارخاً بأن على الشعب أن يصوغ عبر بنائه الدستورى الديمقراطى خطط البناء الجديد، وأنه لا السلطة المطلقة ولا الفاشية الدينية قادرتان على مجابهة حالة الإفلاس الفكرى الداخلى، أو التى تصدره لنا أوروبا فى شكل قروض أو حداثة جوفاء.

لقد كان علماء الدين والفقهاء فى أزمنة حيوية الإسلام وإنسانيته يفسرون مقاصد الدين على أنها لخدمة الإنسان فى دنياه وآخرته، أما حركات الإسلام التى يستنبطونها من الداخل، أو يستوردونها من الخارج فقد جعلت الدنيا فى خدمة الآخرة، وفسرت السياسة بأنها إخضاع الدولة والمجتمع لأحكام الشريعة.

لم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب. خالد زيادة.
 شرق الكتاب. بيروت 2013

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 1 فبراير 2014