السبت، 9 نوفمبر 2013

كتابة إنسانية مدهشة

            



               




 بيت الأستاذة الكاتبة رضوى عاشور، دقائق من ميدان التحرير، «بيت كباقى بيوت الخلق»، ولكن عندما يحتشد بالشعراء من آل الحداد وآل جاهين مع صاحب الدار: مريد البرغوثى والابن تميم، يغدو البيت سكنا غريبا للعذوبة ربما، أو للجمال، ربما لشىء مستقر لا يسهل اقتلاعه أو خلخلته: كأنه الأمل..


أمل غريب فيه يقين، وإن كان معجونا بالشقاء والأسئلة
أجل.. أمل فيه يقين، ولكنه معجون بالشقاء والأسئلة هكذا بدا لى هذا العمل الرائع «أثقل من رضوى».. مقاطع من سيرتها الذاتية، ترسم فيه صورة عن محاولة الحياة هنا الآن:
بحب للحياة، ومقاومة وكرامة، والمعرفة بالتاريخ الذى لا يعرف الخوف، والسخرية التى تجدد الدفاع عن النفس، والثورة التى ليست صورة أو مشهداً أو حكاية ولكنها دقات قلب، حتى وإن لم يعد شابا، فإنه يدق بانتظام.


 ما دامت للأرض ذاكرة.. ومادام الشهداء يزورون ميدان التحرير ليلاً، حتى بعد أن أظلم، وابتعدت عنه الحشود.
العمل كبير.. حوالى 400 صفحة و33 فصلاً،
 الواقعة الأساسية هى مقاومة «ورم كان حميداً وتحول» فى الرأس بالجراحات المتعددة والعلاجات الأخرى: لكن الإنسان الجميل القوى المحبوب، الذى يرى الآخر، ويشعر به حتى فى أقسى لحظات التعب والألم.


 هذا الإنسان هو الظل الوارف الندى الذى تعيش فيه من أول كلمة حتى سطر الختام الذى يقول: «هناك احتمال آخر لتتويج مسعانا بغير الهزيمة مادمنا قررنا أننا لن نموت قبل أن نحاول أن نحيا.


وبين البداية والنهاية تقدم الأستاذة درسا فى شكل الكتابة.
 أقول «شكل» الكتابة لأننى أعتقد أن ظاهرة الكتابة السهلة، فى المقالات والكتب: السهولة التى تشبه حديث المقاهى، قد صارت كأنها الحشرة التى تأكل الأرض تحت الأدب والفن والفكر.. ضوضاء:
 وكأن كل شىء على وشك السقوط.. والناس لا تتوقف عن الكلام.. بل تكتبه بنفس الطريقة.
فى كل فصل من الفصول الـ33 تجربة مختلفة فى شكل الكتابة، مع وجود شكل دائرى كامل للعمل مرسوم بالكلمة والصورة والسطر والشعور.


 هناك تناغم مدروس للإيقاعات المختلفة فى الكتابة: بين فصول الجراحة فى أمريكا. والثورة فى ميدان التحرير، والصراع مع الفساد والبيروقراية فى أروقة واجتماعات الجامعة. وفصول الشعراء وجلسات الشباب.


يحتوى الشكل المعنى، لكى يوحى بالقصد والمضمون:
 ليس هناك نصح أو إرشاد مباشر ولكن هناك دائماً «معرفة» معرفة جديدة مقدمة من خلال تجربة حية.
 ولأن الربط - كما تقول - قد يلجم المعنى، فإن الكاتبة كثيراً ما تترك الربط للقارئ يقوم به، يجنى متعته.


 فى فصل قصير بعنوان: مقال قصير عن الكتابة «فصل 15» تقول كلمات مضيئة عن فعل الكتابة:
«نعم، الكتابة فعل أنانى وطارد.
 لا تفوتنى المفارقة، لأنها فعل ينفى الآخرين ليخاطبهم، ويصوغ علاقته بهم، ويشكل ما يشكل لغتهم «لأن لا أحد يمتلك لغة بمفرده» ينفيهم ليكتب حكايتهم، يقصيهم ليراهم يبتعد ليقترب، ويعزلك ليتيح لك تبديد وجودك المفرد وإذابته فى وجودهم ومكانهم وزمانهم. عجيب!».


رغم أن المبنى ليس روائياً فإن خبرة الكاتبة كصائغة روايات تبدو فى كل التفاصيل الصغيرة من رسم الشخصية إلى حبكة السرد فى تقديم رضوى الطفلة فى المدارس وإلى جوار النيل:
 رضوى «المطيورة» التى «تكعبلت فى نفسها»، إلى المتفوقة التى تسلمت شهادات التقدير من عبدالناصر ومن المدرسات الحقيقيات، وخلال ذلك خلقت الكاتبة المكان:
 الروضة، ومنطقة باب اللوق، ومنطقة محمد محمود، الشارع الذى ارتوى بدماء الشهداء، وميدان الفلكى الذى سكن فيه أحمد عرابى.


من أجمل فصول الكتاب: من ناحية الشكل والمضمون معاً.
 الفصل الـ15 بعنوان: «عن أحمد الشحات وشعبان مكاوى». وأحمد الشحات - إن كنت لا تذكر - هو الشاب الذى صعد ليلاً إلى آخر أدوار العمارة، وأسقط العلم الإسرائيلى، وتابعته الكاميرات حتى كاميرا قناة الجزيرة».


 أما شعبان مكاوى فهو أحد تلاميذ الدكتورة، النابهين الفقراء، الذى ترجم - رغم ظروفه الصعبة ماديا وصحياً - واحداً من أهم الكتب الجديدة عن الولايات المتحدة بعنوان «التاريخ الشعبى للولايات المتحدة»، وكان يعانى من أمراض خطيرة فى الكبد، وأجريت له عملية زراعة» رحل على أثرها فى 11 مايو 2005 عن واحد وأربعين عاماً.
 تقول عنه الأستاذة: «فلاح جميل قطع الطريق بسرعة خاطفة من بلدته الصغيرة (منشية النور) إلى الجامعة ليتعلم، ويعلم، متسلحاً بالمعارف والمكارم وفيض مدهش من الحضور والإنسانية».


 وعن أحمد الشحات تقول:
 «نزل الولد فى أمان الله.
رفعه الناس على أعناقهم ماجوا به ومن حوله وهم يهتفون بالصوت الهادر:
 تسقط تسقط إسرائيل، ثم أودعوه سيارة إسعاف خوفا عليه من اندفاع الحشود الهائلة لحمله، أو من مندس يصيبه بأذى، حملته وغادرت».


فلاح، وفلاح، صعود سريع، اختفاء: هل هذا ما جمع بينهما؟
الحكاية لا تنتهى لأنه من الممكن روايتها من جديد.


 تحدثنا عن: أولاد الناس، والآخرين الذين «شكلهم غلط»، وعن اختلاف تعامل الشرطة معهم: زمان والآن بعد الثورة.
 عن الثورة: هناك كلام كثير من الواقع وكلام نظرى يشرح، ويحلل ولكننى، توقفت عند جملة أوردها حتى إن كانت خارج السياق:
«يمكن احتواء الثورة بتقديم هذا التنازل أو ذاك بإتاحة مساحات أكبر من الحريات هنا أو هناك، بفضح بعض الفساد بمحاكمة الرموز الأبرز للحكم السابق، أما تبديل السياسة الخارجية، فيدخل فى نطاق التمرد على النظام العالمى، وهو على رأس الممنوعات...».


يعيد العمل حيا سلسلة المجازر الدموية والأحداث والوقوف أمام مشرحة زينهم، والجثث غير المعروفة التى يحاول البعض أخذ بصماتها على أنها للمسجلين الخطر، والبلطجية.
 زحام مرورى رهيب فى الأحداث وفى الأفكار التى تتصاعد إلى الرأس، تتركه المؤلفة كما هو نابضا بالدم والأمل، دافعا للحزن والمقاومة.


الشباب يتقدم بفتح الطريق: نوارة نجم معها، تقرأ مقالاتها وتقود خطواتها إلى الميدان وإلى شقة «بيير»، ورضوى لا تريد أن تقفز أمام الشباب أو تربكهم.
 إنها تنتمى إلى جيل سابق وتجربة مغايرة.أستاذة حقيقية ترى أن التشاؤم موقف لا أخلاقى.كما أنها أستاذة فى التنكر وإخفاء الجرح والوجع.«قميص أمى القطنى الأبيض» ترتديه فى المستشفى الأمريكى البارد وسط أصعب مراحل الجراحة: يكسر القميص الغربة الغالبة التى أتفنن فى تجاهل قسوتها».


أنعم الله على رضوى عاشور بالقوة والصحة والعافية.
أثقل من رضوى. مقاطع من سيرة ذاتية. رضوى عاشور. دار الشروق 2013

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في جريدة المصري اليوم بتاريخ 19 نوفمبر 2013